أكرم الحوراني ومدينة حماة وأول حزب فلاحي سوري

2023.01.07 | 06:18 دمشق

أكرم الحوراني ومدينة حماة وأول حزب فلاحي سوري
+A
حجم الخط
-A

كيف يمكن أن تكون قائداً مؤثراً في سوريا ما بعد الاستقلال، وأنت لستَ ابن حلب أو دمشق؟ ولست ابن وجيه اجتماعي، أو ابن طبقة مالية وازنة من مثل أصحاب المصانع، أو الأملاك الكبيرة أو التجارة، وفقاً لمعطيات الاقتصاد التقليدي السائد آنئذ.

بمعنى آخر، ما طريقك للمشاركة في الحياة العامة السورية؟ هل تتطوع في الجيش، الذي بدأ دوره يبرز آنئذ؟ أم بتأسيس حزب؟ أم بمحاولة تقديم هوية عمرانية جديدة لمدينة قديمة؟ أم بتحالفات عربية مع أحد الأحلاف المؤثرة في سوريا: الحلف العراقي أو السعودي أو المصري، والتحالفات مع الدول العالمية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية؟ وكيف يمكن الإفادة من تفتح الشعور القومي ومركزية فلسطين، للمشاركة في حرب الإنقاذ؟

 كيف ستقبل مدينة حماة التي تتحكم فيها قوتان رئيسيتان آنئذ هما: العائلات الإقطاعية، والعائلات المتدينة بأكرم الحوراني الذي يميل إلى الإسلام المتصوف، ابن الحارة "البرانية"، الذي كان يشغله سؤال: لماذا يطلق عليه "البراني" وأبوه وجده جزء من هذه المدينة وأنشطتها المختلفة؟ هل هو الانتماء الجغرافي وحده أم كون جده قادماً من "جاسم" بدرعا؟ ألم يكف أن أباه لم ينجح في انتخابات سابقة "مجلس المبعوثان"، نتيجة عدم مناصرة هاتين الشريحتين الاجتماعيتين الحمويتيْن له، اللتين لا ترحبان بما يهز القار والمختلف الذي ينطوي عليه مشروع الحوراني، بل حرصتا على أن يفوز ابن "البرازي" على أبيه.

ما أصعب أن تجد شخصية مثل شخصية أكرم الحوراني في التاريخ السوري. تلك الشخصية القلقة، التي حملت مشروعاً وطنياً عابراً للشرائح الاجتماعية التقليدية والانتماءات المألوفة، فنبذه كثيرون

لا الحوراني بقادر على الانسياق وراء تجذر "حماة" الديني الاجتماعي ليغدو جزءاً فاعلاً منها، ولا هو قادر على الحضور القوي في مكان آخر مثل دمشق وحلب اللتين لهما تقاليدهما ورموزهما، وأينما وصل، إنْ انتسب لأحد حزبي الكتلة الوطنية "الشعب والوطني" فإنه سيبقى "ابن البراني". ستوكل إليه مهام بسيطة بصفته مكملاً للمشهد، سيبقى ابن خارج السور؟ وهو الذي يريد أن يجعل من "حماة" حالة رمزية في تاريخ أول حزب فلاحي في سوريا: حزب العربي الاشتراكي.

ما أصعب أن تترك بصمتك الوطنية في دولة مثل سوريا، فيها عشرات المكونات وصور الجغرافيا وتجاذبات الانتماء، ما أصعب بناء الدول بعد الخراب، وما أصعب أن تجد شخصية مثل شخصية أكرم الحوراني في التاريخ السوري. تلك الشخصية القلقة، التي حملت مشروعاً وطنياً عابراً للشرائح الاجتماعية التقليدية والانتماءات المألوفة، فنبذه كثيرون، وأفاد من خياراته آخرون. قد لا يكون الحوراني قد قاد كل التحولات بيده، أو ترك الأثر في ذاته، لكنه كان عاملاً رئيسياً لكثيرين حوله، كي يصوغوا رؤيتهم ويحددوا مواقفهم. وعلى الرغم من اعتداله ومشروعه الوطني، تم تهميشه كلياً لاحقاً، بحيث رفض حافظ الأسد دفن جثمانه فيها، وهو الذي قد قال من قبل: حضور الحوراني ومشروعه كانا عامليْن في تأخير وصولي إلى الحكم سنوات طويلة. وقد انتبه الحوراني إلى أن المشكلة معه ليست مشكلة مع مستبد وطاغية فحسب، بل كونه قضى على التنوع الحيوي الحزبي والفكري السوري.

شاهدَ أكرم الحوراني بدء تفتح شرائح اجتماعية سورية جديدة، في مرحلة ما بعد الاستقلال، نتيجة تغيرات اقتصادية وفكرية واجتماعية ووطنية وما مرت به فلسطين، زاد عدد المعامل في سوريا والمعامل لا بد لها من عمال، وزاد دخول المكننة الزراعية بعد أزمة الحبوب في الحرب العالمية الثانية، وهذا لا بد أن يكون هناك من متضررين، وكذلك بدأ التعليم ينتشر وهذا يعني حالة وعي جديدة ووجود مدرسين. بدأت الدولة السورية بالتشكل وهذا يعني شرائح اجتماعية جديدة وحاجات جديدة، لم تعد قوى الإنتاج الاجتماعي القديمة ذاتها، بل باتت هناك عناصر جديدة تغلي هي الحاضرة، فكيف يمكن توظيفها في بناء الدولة؟

وكأي مشروع وطني ناجح لا بدّ أن يتقاطع الطموح الشخصي مع حاجات الناس، مع الظرف الوطني والإقليمي، لا بد لأي مشروع من بيئة حاضنة تحمله وتستقبله وتتبادل المصلحة معه. ولا بدّ للتغيير المتوخى من أدوات، لسنا اليوم في عصر القوة الفردية أو الجماعات التي تنشأ تحت الدولة، بل نحن في دولة آمن بها الحوراني ودافع عن مفهومها، لا بد لتلك الدولة أن يكون هناك جيش قوي لديه رؤية سياسية ووطنية، لذلك تغلغل في علاقات مع ضباط في الجيش على أمل أن يحدث التغيير، هو كان يريد من أولئك الضباط أن يحملوا مشروعه، ثم يعودون إلى ثكناتهم، ولكن من قال: إن الجيش الذي يتذوق طعم السلطة سيستطيع العودة إلى قمقم "الثكنة" في الشرق!

تأمل الحوراني المشهد جيداً، لا يمكنه التعويل على أبناء المدن الذين ينتمون إلى شرائح مستقرة، لها عاداتها وألوانها وتفاصيلها، لا أحد يضحي بالاستقرار نحو سواه، ما الفائدة التي سيجنونها إن سلموا إرادتهم إلى شخص مغامر كالحوراني لا يعرفونه، أو إلى ظروف لا يعلمون عنها شيئاً!

مَن غير أبناء الريف الذين يحركهم شعور بالظلم طويل من المالكين، ورغبة بالمغامرة يفرضها نمط حياتهم التي عمادها الاقتصادي المغامرة، ومواسم المطر، والنسبة التي يحصلون عليها من الإقطاعي سيكون حاملاً لمشروع الحوراني؟

 من غير أبناء الريف سيجدون فيما يطرحه من أفكار حاملاً لهم لتغيير اجتماعي يأملونه؟

أكرم الحوراني لديه رؤيته الخاصة ومشروعه القتالي النضالي الخاص ومفاهيمه للتغيير، وهناك بيئة فلاحية متعطشة جديدة تحتاجه، إضافة إلى الشرائح المحتجة لدى القوى التقليدية التي لديها قابلية للخروج من انتمائها الاجتماعي القديم، خاصة أن القوى الحزبية التقليدية لا تستطيع أن تحمل ذلك الحلم والحمل الثقيليْن.

آمن الحوراني على المستوى الفكري، أنه ما من دولة تقوم أو حزب ينتصر في الانتخابات إلا من خلال مبدأ المساواة، وأنه في بلد تملك فئة قليلة كل الموارد لا يمكن أن تنشأ هوية وطنية، وهكذا لم ينس الفلاحين الذين ناصروه، حين غدا في القيادة فكان من المشجعين للإصلاح الزراعي وتوزيع أراضي أملاك الدولة على الفلاحين، الذين ردد معهم ذات يوم الأهزوجة الشهيرة "هاتوا القفة والكريك لنقش الآغا والبيك" لكن ليس بالمفهوم العسكري، بل عبر توزيع الملكية فينتهي نموذج الآغا والبيك كما يقول محبوه!

السر الأبرز في بدء تشكل الدولة الوطنية هو الجيش، لا بد من التعاون معه، فالقوى التقليدية السورية كانت لديها أياد تعاون قوية مع المحتل الفرنسي. الأمر أبعد من خائن ووطني، الأمر أقرب لتقاطع المصالح بين القوى، حين تأتي أيُّ قوة جديدة على أي مجتمع لا بدّ لها من حلفاء محليين، تعتمد عليهم وتدخلهم قطاعات محددة. وهذا ما حدث مع الطبقتين البرجوازية والإقطاعية وتحالفاتهما مع المستعمر، لكن لا يعني ذلك أنه لا يوجد إمكانية أن تأخذ موقفاً ضمن ذلك الطيف، يمكنك أن تتعامل مع قوة الأمر الواقع، دون أن تخون أو تغدر أو تؤذي، يمكن كذلك ألا تتعامل معه مطلقاً، تلك باقة خيارات.

وجد الحوراني ورفاقه في العربي الاشتراكي، أن هناك "تخمة في الشعارات القومية" والارتهانات الخارجية عند الأحزاب، وأن القوى الاجتماعية الجديدة تحتاج إلى حزب يلبي حاجاتها اليومية

تأمل أكرم الحوراني المشهد الحزبي في سوريا، الذي كان يمثل القوى التقليدية، التي لا يمكنها أن تحمل حاجات القوى الاجتماعية الجديدة، كحالة حزب الشعب والحزب الوطني، أو تمثيل القوى الدينية كحالة الإخوان، أو الحزب القومي السوري الذي سبق أن شغل فيه متنفذية حماة، أو الحزب الشيوعي الذي "ضُرِبَت" سمعته بعد تأييد الاتحاد السوفييتي لحل الدولتين في فلسطين وتأييد الحزب لذلك الحل.

وجد الحوراني ورفاقه في العربي الاشتراكي، أن هناك "تخمة في الشعارات القومية" والارتهانات الخارجية عند الأحزاب، وأن القوى الاجتماعية الجديدة تحتاج إلى حزب يلبي حاجاتها اليومية، ولا يتعالى على الانتخابات بالشعارات ويعمل وراء الكواليس، يقرُّ أن أي تغيير لا بد له من قوة، والقوة مكمنها في الجيش، حيث لا بد من التحالف مع ضباطه في تقاطع مصالح وليس ببعد انتهازي. فالعلاقات الشخصية أكثر من ضرورية في الأحزاب والدول الناشئة، ولا تتنافر مع العمل المؤسساتي، ولا تمنع المحلية الوطنية.

نظر الجميع إلى مشروعه قبل الاندماج مع حزب البعث وقبله نظرة ريبة، فحزب الشعب والحزب الوطني رأوا أنه يمنح دوراً لطبقات ليس لديها وعي ويؤلبها ضدهم، والمتدينون رأوا فيه إشغالاً للشباب عن رسالتهم الدينية، والحزب الشيوعي عاداه صراحة، والقومي السوري فصله، وحزب البعث الذي تحالف معه كانت لدى قيادته، خاصة ميشيل عفلق رغبة دائمة في فصله.

كانت هناك ثلاث محددات رئيسية للأحزاب والشخصيات السورية في مرحلة ما بعد الاستقلال هي: مرجعياتها الفكرية بين المحلية والدولية والإنسانية أولاً، وموقفها من: الدين، والعروبة، والقضية الفلسطينية ثانياً، ومشروعها الوطني السوري ثالثاً.

يرى محبو حزب العربي الاشتراكي أن ميزته الرئيسية جعله المشروع الوطني السوري أولاً، ومواكبته لحاجات الناس ومطالبهم ثانياً. وأن أكرم الحوراني كان الأقرب إلى مناصريه وفلاحيه، ووصفوه بأنه الجريء والمغامر والنائب الحر ومدمر القيادات الإقطاعية. إلا أن مناوئيه كان لهم رأي آخر فهو بنظرهم: الماركسي المزيف، حبيب العسكر، الوصولي، العشائري، المحلي، المصلحي.