أطلال جورج وسوف تغني لبقايا سوريا الأسد

2021.05.31 | 06:24 دمشق

jwrj-wswf-bshar-alasd.jpg
+A
حجم الخط
-A

لم يكن التوقيت هو العلامة الوحيدة على الاضطراب في حفلة أبو وديع التي قُررت في الساعة الثامنة من مساء يوم الجمعة الفائت، ابتهاجاً بنتائج الانتخابات الرئاسية السورية التي أعلنت «فوز» بشار الأسد، فقد حدد الحاكم القديم-الجديد موعد إلقاء كلمة انتصاره في الساعة نفسها بالضبط.

سلطان الطرب نفسه، القادم لانتخاب سلطان الحرب وتهنئته، بدا أطلالاً لذلك الشاب الحيوي الذي كانه، منتفخ النصف العلوي بسبب آثار مرضية-علاجية، ورجلين ضامرتين ويد مشلولة، في حين راوحت يده الأخرى بين التلويح للجمهور وبين تقليب أوراق أمامه كتبت عليها كلمات الأغاني التي أداها، رغم أنها من أشهر أعماله، ومنها علامته «الوطنية» الفارقة «تسلم للشعب». لكن هذه الأغنية بالذات كانت أكثر ما أعطى الانطباع عن الحفل بأنه Second hand.

عاشت الأغنية عقداً بصيغتها هذه، قبل أن يطرأ عليها تحول إجرائي واكب توريث سلطة البلاد لبشار

ففي عام 1992 أطلقها الوسوف في «مهرجان المحبة» الذي كان يقام سنوياً في اللاذقية وكان ضيفاً ثابتاً فيه. ورغم مبالغاتها، أو بسبب هذه المبالغات، كانت متناغمة مع زمنها السوري في عهد حافظ الذي تنتهي باسمه جملها كافة، يُعلي الراية ويبني المجد ويغذّي العزة القومية، حتى تخلص الأغنية إلى أن تغبط العربي الذي عليه يبشِر و«يتهنى»، ما دام «القائد حافظنا».

عاشت الأغنية عقداً بصيغتها هذه، قبل أن يطرأ عليها تحول إجرائي واكب توريث سلطة البلاد لبشار. فأطلقها الفنان الموالي للأسرة الأسدية الحاكمة بنسخة جديدة معدلة، بعد أن وضع لقب «أبو حافظ» بدل كل مرة كان يأتي فيها ذكر والده بصيغة «يا حافظ». وكما تعديل الدستور نفسه مرّ تغيير الكلمات بسلاسة، وكسب الرئيس الشاب أغنية لها تراث سمعي ولقب «أمل الملايين» بالجملة.

أما في الحفل الذي أقيم في قلعة دمشق منذ أيام فقد بدأها الفنان الذاهل من عصرها السحيق في ذاكرته المشوشة، مردداً «يا حافظ» قبل أن يلتحق بجوقته المنتبهة إلى الاستدراك الذي بدأ منذ عشرين عاماً ولم يحتل بعدُ مكانه الملائم في ذهن معلمهم الجالس على كرسيه العريض لا يقوى على الوقوف.

لكنه، وبحاله هذه، كان أفضل تعبير يشبه سوريا الأسد التي جاء يهنئها، وربما ينعاها، الخارجة من شلل نصفي دون أن تشفى، «تصوّت» بأحرف متلعثمة محاولة إيهام نفسها والسامعين أن الزمن لم يفعل بها شيئاً. في حين حاول الجمهور أن يتفاعل ويتمايل وكأن لا شيء تغير عن التسعينيات سوى امتلاك كل منهم نسخته الخاصة من تسجيل الحفل على جواله، وأن الشرطة العسكرية التي كانت تنظّم الدخول والخروج بهراواتها غابت لصالح وحدة المهام الخاصة في الشرطة المدنية.

 

02 (3).jpg

 

ورغم أن بعض كلمات الأغنية صار مثيراً للسخرية الآن، ليس فقط عندما تذكّر بالوحدة والحرية وجماهير «أمتنا العربية»، بل حتى عندما تنسب إلى ممدوحها تعزيز «الوحدة الوطنية» في سوريا «أرض الأحرار» أو «بلد الثوار». وهي تعابير كان سيصعب تسويغها قبل سماع خطاب بشار الذي نافس حفلة الوسوف وتغلب عليها طبعاً. فقد استهل الدكتاتور مدة ولايته الرابعة بالقول إن ناخبيه صاغوا تعريفاً جديداً للوطنية، مما يعني إعادة تعريف الخيانة بشكل تلقائي. والفرق بينهما «كالفرق بين ما سُمّي ثورة ثوار وما شهدناه من ثورانِ ثيران، هو الفرق ما بين ثائر يتشرب الشرف وثور يُعلف بالعلف، بين ثائر نهجه عز وفخار وثور يهوى الذل والعار، وما بين ثائر يركع لخالقه وثور يخر ساجداً أمام الدولار».

وفي حين استغرق فيه خطاب العرش المتجدد لبشار أقل من عشر دقائق؛ فإن حفلة المطرب الشهير لم تطل كذلك أكثر من ساعة ونصف غنّى فيها باقة عشوائية من كلاسيكياته التي بدت كظل باهت لأيام تألقه ثم ختم بسرعة، مكتفياً بتقديم «تسلم للشعب» لتهنئة زعيمه «الغالي ابن الغالي» كما تقول أغنية «وطنية» أخرى له.

إذا كنا لا نعرف كثيرا عن الذوق الموسيقي للأسد الابن فإننا نعلم أن العيش في نوطة أبيه لا يسرّه كثيراً. ولكن ما العمل إذا كان الذين غنّوا للقائد المؤسس هم من مطربي الصف الأول في سوريا والبلدان العربية، بينما خفتت وتيرة التأليف لابنه في العقد الأول من حكمه حتى انفجرت بعد اندلاع الثورة بأغان حماسية ذات طابع حربي ومؤثرات بيئية طائفية أداها مطربون شعبيون من الساحل في الغالب، يتوزعون الآن على الاحتفالات التي تقام هنا وهناك يشعلون الدبكات. بينما لم يعد متوافراً في خزانة مقتنيات النظام من مشاهير المغنّين سوى أشلاء أبو وديع التي ما تزال صالحة للاستثمار.

سلطاناً سابقاً ضعيفاً لم يخرجه أحد من القصر حيث ما يزال يلهو، يحتفل برئيس ما زال يحتل موقعه بفضل قوة الدفع ويحكم، يوماً بيوم، دولة ركيكة تتناهبها الأزمات ولا يعرف أحد متى تنهار

لكن التزامن بين سيرة الوسوف وبين تاريخ الأسدية ربما يلقي الضوء على أخوّة أعمق بينهما. فقد بدأ المراهق حياته الفنية الواعدة في السبعينيات ليغزو لبنان ويتعلم الدنيا بالتجربة والخطأ. ثم رسّخ حضوره في الثمانينيات ووصل إلى ذروته في التسعينيات، منتقلاً إلى حضور متعالٍ لا يقيم وزناً كبيراً للآخرين ما دام واثقاً من أن الجمهور سيتبعه مهما فعل، ورغم تغيّر طبيعة صوته بشكل كبير بين بواكيره ونضجه، بتأثير الإدمان والاستهتار الصحي، قبل أن تضربه أمراض جدية ظل يقاومها ويغنّي طالما هناك من يسمعه. سلطاناً سابقاً ضعيفاً لم يخرجه أحد من القصر حيث ما يزال يلهو، يحتفل برئيس ما زال يحتل موقعه بفضل قوة الدفع ويحكم يوماً بيوم دولة ركيكة تتناهبها الأزمات ولا يعرف أحد متى تنهار.