أصدقاء العمر يقهرهم السرطان

2020.10.02 | 01:17 دمشق

9-159.jpg
+A
حجم الخط
-A

في مثل هذه الأيام، أواخر شهر أيلول 2019، عرفتُ من الصديق المحامي ياسر السليم أن صديق العمر، الروائي عبد العزيز الموسى، قد دخل إلى تركيا لأجل العلاج من السرطان، واستقر في مدينة "الريحانية" التي تبعد أقل من عشرة كيلومترات عن الحدود السورية التركية "باب الهوى"، وهي المدينة الجميلة التي عشتُ فيها سنتين بعد نزوحي من سوريا (2012 - 2014)، وكان عدد سكانها يومئذ 63 ألف نسمة، والآن يسكنها 200 ألف، نسبة السوريين فيهم 65%.

وللعلم، ياسر السليم دخل تركيا قبل فترة قصيرة، بعد إقامته في سجون جبهة النصرة عدة أشهر بناء على تشكيلة تهم عجيبة، من بينها العمالة لأميركا!

قبل ذلك كنت أفكر بالحصول على إجازة أزور خلالها صديق العمر الآخر، الأديب نجيب كيالي الذي أمضى سنتين وهو يركض من مشفى إلى مشفى، ومن مخبر إلى مخبر، لأجل زوجته "أم لؤي" التي خطفها المرض نفسه "السرطان" في نهاية المطاف.

وقد تحقق لي هذا الحلم بالفعل، التقيت بعبد العزيز، وياسر، ونجيب، وأمضينا وقتاً قصيراً ممتعاً.

يوم أصيب صديق العمر "تاج الدين الموسى" بسرطان الرئة، سنة 2008، كان بإمكاننا أن نرافقه إلى دمشق وحلب حيث يجري التحاليل والصور الشعاعية، ويحصل على الجرعات اللازمة، وبالمصادفة كانت لي معرفة مع الطبيب الدمشقي الذي أجرى له عملية استئصال الرئة، وأذكر أني اتصلت به لأعرف منه ما يخفيه الطبيبُ عادةً عن المريض وذويه، فأكد لي أن مشكلة تاج الآن، بعد العملية، أصبحت متعلقة بالتدخين، فإن أقلع عنه يعيش زمناً لا بأس به، وإن عاد إليه فعلى الدنيا السلام. ولكنْ، مَنْ كان قادراً على إقناع أبي صطيف بترك التدخين؟ عبث. ظل يدخن حتى مات بعد أربع سنوات من العملية.

في ثورة 2011 كان أبو صطيف بطلاً حقيقياً، الثوار كلهم أحبوه، ليس فقط لأنه كان يمشي مع المظاهرة من بدايتها حتى نهايتها، ولكن لأن ثوار إدلب أقاموا، في أواخر 2011، حملة تبرعات كبيرة لمصلحة المحاصَرين في بعض أحياء حمص، وحينما اكتملت القافلة، وقبل أن تتحرك، كان لا بد لهم من تزويد السيارات بالوقود، فكان أبو صطيف جاهزاً للمساعدة بوصفه مسؤولاً عن القسم التجاري بشركة محروقات.. ويوم توفي (22 شهر شباط 2012) كنت أتخيل أن جنازة حاشدة سيقيمها له الثوار، ولكن هذا لم يحصل، ففي ذلك اليوم كان ثمة إطلاق نار جنوني يخرج من مختلف مراكز قوات النظام، وحينما جئت بسيارتي من قرية حزانو، لأشارك في الجنازة، ودخلت مدينة إدلب، لم أعرف بالضبط مَنْ كان يطلق النار على مَن، وكل لحظة أتوقع أن تصيبني طلقة طائشة، وحينما وصلت جبانة "الحلفا" لم يكن في جنازة تاج سوى عشرين شخصاً لا أدري كيف تمكنوا من الحضور، فدفناه على عجل، وخرجنا، وقد أعلمني أحد الموجودين أن الثوار أقاموا لتاج بيت عزاء في الحارة الشمالية، بالقرب من جامع الحسين، فذهبت إلى هناك، ولكن، مع الأسف، لم يكن فيه إلا عدد قليل من الشبان أيضاً، ونتيجة لتصاعد أصوات الرصاص اقترحتُ عليهم أن يغلقوا الصيوان ويغادروا، حرصاً على حياتهم.

 

مع عبد العزيز وياسر ونجيب.jpg

 

خلال وجودنا في الريحانية، سنة 2013 على ما أذكر، علمت من عبد الجبار الشيخ علي، أنه استطاع إقناع والده، صديق العمر الشاعر محمد الشيخ علي، أن يأتي مع زوجته أم عبدو إلى الريحانية، فهو إنسان أعزل إلا من القصائد.. ونظام الأسد، في تلك الأيام، كان يمطر جبلَ الزاوية بشكل عام، وبلدة كنصفرة بشكل خاص، بقذائف المدفعية والطيران الحربي، وارتكب فيه مجازر..

ذهبت، مع زوجتي لزيارته في بيت عبد الجبار، شربنا الشاي وقعدنا نستعيد ذكريات الأيام الخوالي، واستغربت منه أنه لا يحلم الآن بشيء غير العودة إلى كنصفرة، إذ مَن كان يتخيل أن محمد الشيخ علي يعيش بعيداً عنها؟! (وبالفعل، سافر، بعد فترة قصيرة، إلى كنصفرة، ولكنه لم يتمكن من الصمود في وجه القصف، فعاد إلى الريحانية في ليلة ما فيها ضوء قمر، وبقي فيها إلى يوم وفاته).

أطلق محمد شيخ علي على مجموعته الشعرية الأولى التي أصدرها سنة 1995 اسم "مقلوب البكاء". كان يقول لنا في جلساتنا الصغيرة بـ "كنصفرة": الشعوب الأخرى تضحك، وتقهقه، وأما نحن فنضحك حينما يعوزنا البكاء! وقال: هذا لأننا قوم مناحيس، حتى الضحك ممنوعون منه. وفي قصيدته الشهيرة التي تحمل عنوان المنحوس، الموجودة ضمن المجموعة الشعرية ذاتها، يقول:

لم يبق للصبر احتمالْ

يا سادتي

سأذيع سراً ليس ضرباً من خيالْ

أخفيتُه حتى فشاه أبي فقالْ:

يابْنِي ولدتَ بليلة كانت دقائقها ثقالْ

كان الظلام جحافلاً والسيل قد غمر الجبالْ

وسَطَا بها ذئب على سرب السخالْ

وبليلة الميلاد قد خُسف الهلالْ!

يا سادتي والحق أجدرُ أن يقالْ

إني امرؤ شؤم وأنحس كل فالْ

وإليكم بعض الوقائع من مفكرة الكوارث والوبالْ:

أمي بُعَيد ولادتي مرضت بأورام الطحالْ

وأبي تعرض لاعتقالْ

وأخي رآه مقيداً فبكى وبالْ

عمري بعمر الاحتلالْ

وبعرسي الميمون قد عبر اليهود إلى القنالْ

ولأنني زرت الكويت وعدتُ

حل بها النكالْ.. (القصيدة طويلة).

في يوم من أيام شهر أيار 2018، وبينما أنا أقلب صفحات الفيسبوك، مررت ببوست لابنه عبد الجبار ينعيه (مات بالجلطة 67 سنة) وكان ذلك بعد وقت قصير من تسجيل بعض قصائده بصوته أذيع بعضُها في برنامج "100 ثانية" الذي كنت أعدُّه لتلفزيون سوريا.

في أواسط سنة 2016 استطعنا أن نقنع صديق العمر عبد القادر عبدللي أن ينتقل للعيش في إسطنبول، لكونها أقرب إلى الأوساط الثقافية السورية من "أضنة" التي سكنها بعد مغادرته أنقرة. وفي شهر أيلول تقريباً استأجر بيتاً مؤقتاً بالقرب من شارع الاستقلال، ولكن السرطان كان له بالمرصاد، اكتشفه في شهر تشرين الثاني، وفتك به في اليوم الثاني من آذار 2017.

أتذكر يوم جاء عبد القادر إلى إدلب عائداً من إسطنبول بعد حصوله على شهادة عليا في الفنون من جامعة المعمار سنان. كان مليئاً بالحيوية والنشاط، يريد أن يرسم، ويكتب، ويترجم عن التركية. ومع أنني رافقتُ تجربته منذ بداياتها، فقد فوجئتُ يوم وفاته أن مجموع ما أنجزه بلغ 81 كتاباً، عدا بضعة مسلسلات طويلة تتألف من عشرات الحلقات.. ترجمها إلى العربية (باللهجة الشامية) طبعاً، وكانت شركات الإنتاج المختصة بالدبلجة تختصم فيما بينها لأن كلاً منها يريد أن يستأثر به، وكان يعمل هذا كله، وتبقى روحه معلقة بالفن التشكيلي الذي حقق فيه تجربة لا مثيل لها.

الرحمة على أرواحهم جميعاً.