أسوأ خدمات الثورة السورية

2022.10.26 | 06:44 دمشق

 أسوأ خدمات الثورة السورية
+A
حجم الخط
-A

في استطلاع رأي أميركي نُشر بعد حادثة تفجير برجَي مركز التجارة العالمي في نيويورك، وضّح العديد من المواطنين الأميركيين المشاركين في الاستطلاع أنهم شعروا بمشاعر قوية من الوحدة الوطنية، وأكدوا ضرورة تجاهل الانقسامات الحزبية لمواجهة "تنظيم القاعدة". وعليه لا أضيف جديداً إذ أقول إنّ وجود عدو مشترك، وله اسم وكيان عالمي يمكن محاربته، يمنح أيّ شعب إحساساً عارماً بالسيطرة على الموقف، بدلاً من الشعور بأنّ الأشياء السيئة تحدث بلا سبب.

في السياق يرى باحثون أنّ العدو جزءٌ من متخيَّل جمعي خاص بكلّ جماعة، وأنه يلبّـي حاجات اجتماعية متعددة، منها الحاجة إلى الهوية، أي تعريف "الذات" من خلال تعريف "الآخر". فحين يعاني المجتمع، يشعر بالحاجة إلى أنْ يجد أحداً يمكنه أنْ يعزو إليه ألـمه، وينتقم منه لخيبات أمله. وهذا ما كان قد بيّنه رئيس الوزراء البريطاني السابق طوني بلير، مدّعياً أنّ صدام حسين يملك صواريخ يمكن نشرها خلال 54 دقيقة. حجّة اتّبعها المحافظون الجُدُد لابتكار مبدأ "الحرب الاستباقية". ومن خلال هذا المبدأ، أيضاً، يمكن للولايات المتحدة أنْ تتخذ قراراً أحادياً بشنّ أيّ حرب حين تتوافر شروط "الحرب العادلة"، وهي المصلحة العامة والدولة المارقة.

يؤكد الفيلسوف الألماني "كارل شميت" أنه لكي تحقّق الأمة وجودها، فإنه يتعين عليها أن تحدّد عدوها

لعلّ هذه مناسبة لتسليط الضوء على أخطاء كبيرة ارتكبتها ثورة عام 2011، عن قصد أو من دونه، ضمنها، مثلاً، الاعتقاد بأنّ معظم السوريين، وعلى اختلاف مكوناتهم، في صفها، في حين بينت الأحداث أنّ واقع الوضع الطائفي والمذهبي والإثني في سوريا أكثر صعوبة، وأكثر تعقيداً من أن يتم تأطيره في معادلة تتألف من مقولة بسيطة: (ثورة محقة في مواجهة نظام مجرم). وهكذا بات السوريون، وبمختلف أطيافهم، خارج المعادلات الصراعية، بعدما تمت إزاحتهم من المشهد، لسبب وحيد: "لا عدو مشترك"، جمع السوريين على قلبٍ واحد.

يؤكد الفيلسوف الألماني "كارل شميت" أنه لكي تحقّق الأمة وجودها، فإنه يتعين عليها أن تحدّد عدوها. وهنا تمثل الدولة الشكل الأكثر اكتمالاً للسياسي، ذلك أنها الكيان الوحيد القادر على تحديد العدو العمومي للأمة وتسميته، ومن ثم إعلان الحرب عليه. وعليه برز المصطلح الشهير: "معاً ضد"، هذا الشعار أصبح مستخدماً بكثرة في أنحاء العالم كمثالٍ واضحٍ لنظرية العدو المشترك، ومدى تأثيرها في توحيد صفوف جماعاتٍ تعاني من اختلافات أو صراعات.

خذ مثالاً مقطع الفيديو الذي انتشر مؤخراً على مواقع التواصل الاجتماعي من داخل أحد صالونات الحلاقة في مخيم شعفاط في الضفة الغربية، يُظهر بعض الشبان الفلسطينيين يحلقون رؤوسهم تماماً، رغبة منهم في حماية الشاب "عدي التميمي" المُطارَد، (حليق الرأس)، وتعقيد عملية البحث عن منفذ عملية حاجز شعفاط، وذلك قبيل استشهاده.

هذا الفعل التضامني المقاوم من شبان المخيم، شكّل حافزاً للفلسطينيين لاستعادة جزء مشرّف من ذاكرتهم الوطنية. فقد استذكر العديد منهم فعلاً مشابهاً وقع أثناء ثورة عام 1936 ضد الانتداب البريطاني. عندما كان الثوار يتلثمون بـ"الكوفية" البيضاء والسوداء، من أجل إخفاء هوياتهم خلال تنفيذ عملياتٍ ضد قوات الانتداب. لاحقاً بدأ السكان في ارتداء الكوفية، لتصعيب مهمة سلطات الانتداب في ملاحقة الثوار والعثور عليهم.

بطبيعة الحال تحتاج الشعوب إلى "آخر" و"عدو"، تستمد من وجوده الشعور بضرورة تجانسها وتعاضدها، ويشمل هذا الأمر حتى الدول القومية الديمقراطية القابلة للتحوّل إلى شكل من أشكال التعبئة الشعبوية شديدة العنصرية تجاه الآخر، متى ما وجدت هذه الدول نفسها بمواجهة تحديات اقتصادية واجتماعية، أو كانت تعاني من اضطراب وقلق على مستوى الهوية والوجود. وهو ما أشار له الأميركي "جورج كينان"، مهندس الحرب الباردة، حيث قال: "دعوني أؤكد لكم أنه ليس هناك أكثر تمركزاً على الذات من ديمقراطية ما في حالة حرب!، فهي تميل في هذه الحال أن تنسب إلى قضيتها قيمة مثالية تشوه رؤيتها للأشياء، ويصبح عدوها تجسيداً للشر، فيما يكون معسكرها مركزاً للفضائل كلها!".

هذا يأخذنا بديهياً باتجاه طرح السؤال الجوهري التالي: ماذا لو كان العدو ملتبساً، غير واضح أو غير مشترك بالنسبة لشعب بأكمله، حيث تتحول البلاد إلى شبكة معقدة من الحوادث العبثية غير المفهومة. كما في الحالة السورية. ومن مفرزات التشرذم السوري، على سبيل الذكر، تسمية مجمع تدمر التربوي وسط البادية السورية باسم (الشهيد الملازم الروسي ألكسندر ألكسندروفيتش بروخورينكو)، الذي قضى على أرض تدمر خلال الحرب مع تنظيم "داعش" الإرهابي". كونه قدّم مثالاً للتضحية في هذه المنطقة"!. السؤال الآخر الملحاح هنا: أليس الأولى أن يكون اسم غياث مطر، على سبيل المثال، بديلاً عن اسم "الغريب الروسي"، بحكم كونه أول شهيد دعا إلى التيار اللاعنفي في مواجهة النظام الدموي، وهو صاحب مقولة: "وردة.. وزجاجة ماء للجنود"؟!.

عندما غدا عدو السوريين مشتركاً بعد عام 1918، عمت الثورات المحلية، وتعددت المعارك بين الثوار الوطنيين والقوات الفرنسية المستعمرة

تأسيساً على ما تقدم، وما بين المفاضلة "غير المنطقية" بين القريب والغريب، سنجزم أنه العبث السوري بأقبح أشكاله، بينما يبدو من الصعوبة بمكان تصوّر وجود هوية وطنية بدون أعداء حقيقيين مُتّفق على شرّهم. وإذا ما سلمنا بهذه الحقيقة التاريخية، فإن المعضلة الأخلاقية لا تتمثل في مجرّد وجود الأعداء، وإنما في تعميم صورة نمطية شيطانية عن العدو، ونزع الصفة الإنسانية عنه، والقطيعة التامة معه، بحيث يغدو أيّ شكل من محاولة فهم منطق العدو والتعاطي معه أمراً مثيراً للتخوين والعداء. وإنّ مثل هذه النزعة الجوهرانية في التعامل مع العدو من شأنها أن تؤدي إلى شرعنة استباحته والفتك به دون الشعور، حتّى، بمجرد وخز الضمير.

وأدلّ مثال على هذه الحقيقة المطلقة:

عندما غدا عدو السوريين مشتركاً بعد عام 1918، عمت الثورات المحلية، وتعددت المعارك بين الثوار الوطنيين والقوات الفرنسية المستعمرة. انتفاضات سورية متناغمة، عبرت عن أشكال المقاومة الوطنية والقومية العنيفة الرافضة للغريب المحتل. ليس بداية بثورة صهيون التي قادها المجاهد الكبير عمر البيطار، إلى ثورة المجاهد الشيخ صالح العلي، فثورة الشمال التي قادها الزعيم إبراهيم هنانو، إلى ثورة الفرات والجزيرة التي شهدت تحالف العرب والأكراد، وليس نهاية بالطبع بثورة سلطان باشا الأطرش التي وحدت قلوب السوريين على وطن واحد.

وفي الحقيقة ما توصل إليه الفيلسوف والكاتب الإيطالي "أمبرتو إيكو" في دراسة له بعنوان "اختراع العدو" على درجة عالية من الأهمية والخطورة: "إنّ وجود العدو مهمٌّ، ليس لتحديد هويتنا فحسب، وإنما أيضاً ليوفر لنا عائقاً نقيس إزاءه قيمنا، ونثبت -أثناء محاولتنا تخطيه- قيمتنا". في المقابل ضرورة وجود "العدو المشترك" أدركها نظام الأسد منذ عقود، وما زال يستخدم "إسرائيل" حتى الآن لأغراضٍ خبيثة، محوّلاً العدو إلى "الشماعة" الذي يعلّق عليها أخطاءه ويتنصل منها. ثم وبعد 2011 عمل حثيثاً على خلق وتسويق "سيناريوهات رعب" تتمخض عن ابتداعِ عدو، ملتبسٍ أو وهمي، وعلى إثرها يفتح للشعب ذراعيه فقط ليضيّق الخناق عليه.

ما يعزز أهمية هذه الاستراتيجية الخبيثة أنه عندما أخذ الاتحاد السوفييتي بالانهيار في مطلع تسعينيات القرن العشرين، خرج "ألكسندر أرباتوف" المستشار الدبلوماسي للرئيس "ميخائيل غورباتشوف"، مخاطباً المعسكر الغربي قائلاً: "سنقدم لكم أسوأ خدمة، سنحرمكم من العدو!".