أستاذ أميركي في جامعة حلب!

2021.01.18 | 00:02 دمشق

5555555555555555555555555555555555555555555555555-6u695pgu4s7d6usvzb6et4hgzoskyzrizlrmxjogez7.png
+A
حجم الخط
-A

يبدأ كتاب «موت الأبد السوري»، الذي أعده الصحافي اللبناني محمد أبي سمرا، بشهادة مغفلة الاسم تروي تجربة أكاديمي أميركي، من أصل سوري، في التدريس في جامعة حلب خلال سنوات 2003-2005.

يحتاج المرء إلى مصادر أخرى ليعرف أن صاحب الشهادة هو زهير غزال، المولود عام 1958 لأم لبنانية وأب من إدلب، كانت عائلته قد انتقلت إلى بيروت للعمل والإقامة بعدما فقدت أراضيها الزراعية ومصنعها للغزل والنسيج بالتأميم. بعد أن أنهى زهير دراسته في الجامعة الأميركية ببيروت، التحق بجامعة السوربون حيث حاز شهادة الدكتوراه في العلوم الاجتماعية، ثم هاجر إلى الولايات المتحدة الأميركية وبدأ التدريس في جامعة شيكاغو وما زال فيها الآن، وهي التي انتدبته كأستاذ زائر في جامعة حلب، في بلد عائلته الذي زاره مراراً قبل ذلك وحافظ على لهجته.

يكتشف غزال أن برامج التدريس وموادها مقررة مسبقاً، مرة واحدة و«إلى الأبد» من وزارة التعليم العالي

في شهادته بعنوان «جامعة الخواء البعثي»، والتي نشرت أول مرة على صفحات جريدة «النهار» البيروتية على حلقات عام 2008، يبيّن زهير غزال أن وضعه كأكاديمي منتدب من الولايات المتحدة، التي يحمل جنسيتها، فتح أمامه طريق مواقف ملتبسة تتراوح بين الانبهار وإعلاء الشأن وبين الحذر والريبة والغموض، حسب دوائر احتكاكه بفئات المجتمع السوري التي كان مدخلها الجامعة بالطبع.

في أولى ملاحظاته على الجامعة يكتشف غزال أن برامج التدريس وموادها مقررة مسبقاً، مرة واحدة و«إلى الأبد» من وزارة التعليم العالي. هكذا تتكرر الموضوعات سنة بعد سنة دون سعي من الأساتذة إلى تغييرها وتجديدها أو الإضافة عليها، بل إنهم يعملون على استعادتها وإبقائها على حالها منذ أُعِدَّت. وهو ما ينطبق على تأهيلهم المهني والثقافي، فيبقى الواحد منهم على معارفه منذ بدأ التدريس في الكلية. ينقسم الأساتذة الجامعيون إلى فئتين؛ الأولى من المفرّغين الثابتين في جامعة حلب نفسها، الذين يتسابقون للحصول على ساعات تدريس إضافية في جامعات أخرى للحصول على بدلات السفر إلى تلك المدن تزيد رواتبهم الزهيدة، والفئة الثانية من المتفرّغين في السلك الأكاديمي خارج حلب، ويحضرون إلى جامعتها للسبب نفسه. أما هو فقد أنيط به تدريس «فضلات من المواد» التي لا يرغب أحد في تدريسها ولم يزاحم أي من الأساتذة زميله عليها.

يصف غزال المباني الجديدة لكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة حلب، والتي كان إنجازها قد استغرق 20 عاماً، بأنها حديثة من الخارج على الطراز المعماري السوفييتي، في حين يبعث الدخول إليها والتجوال فيها شعوراً بالفراغ والوحشة يصدران عن الضخامة والجدة، ويملأان الباحة الداخلية الواسعة المقفرة غالباً. فطبيعة الحياة الجامعية للطلاب والأساتذة ونسيج العلاقات اليومية بينهم وعملية التدريس وأنشطتها، أضعف وأهزل من أن تبعث الروح والحياة والألفة في مبان أعدّت لاستيعاب الآلاف ولا ترى منهم إلا بضع مئات على مدار السنة في هذه الأقسام غير التطبيقية. فالشائع ألا يداوم معظم طلاب كليات الآداب والعلوم الإنسانية الذين دخلوها، معظم الأحيان، بسبب مجموع العلامات الذي حصّلوه في الشهادة الثانوية، ولم يمكّنهم من الدراسة في كليات الطب والهندسة.

بين العشرات القليلة التي وجدها زهير غزال في أولى محاضراته، لاحظ أن بعضهم فقط ينشغل بتدوين ما يلقيه في القاعة. وقبيل انتهاء الفصل قدّم له أحدهم ما دوّنه وطلب منه التوقيع على كل ورقة. وحين استوضحه عن الغاية من ذلك أجاب أنه مكلّف من مكتب تصوير خارجي بتدوين المحاضرات لنسخها وبيعها للطلاب الذين لا يحضرون إلى الكلية إلا أيام الامتحانات. حين أخذ الأستاذ هذه المدونات لقراءتها في المنزل ذهل لاكتشافه أنها جمل مفككة غير مفهومة. وفي النهار التالي أوضح للطلاب أن الإجابة في الامتحان تتطلب مناقشة أحد النصوص التي تناولتها المحاضرات بالشرح والتعليق، وأن حفظها لا يفيد، وسط استهجان الطلبة. وبعد أيام جاءه مدوّن المحاضرات شاكياً من أن صاحب المكتبة رفض تسلّمها، وقال إن الأستاذ «مصاب بمس في عقله وبإسهال كلامي، وإلا لماذا تملأ محاضراته 250 صفحة» لن يشتري أي من الطلاب نسخة منها ويقرأها، طالباً اختصارها إلى 25 فقط. ولما أحجم الأستاذ عن الاستجابة لطلب التلخيص ذهب الطلبة إلى رئيس القسم، ثم إلى عميد الكلية، شاكين من طول المحاضرات. فما كان من رئيس القسم والعميد إلا أن خاطباه قائلين: «ليش مصعّبها أستاذ؟ شو في بالدني؟! ما بدّا هالقد، طرّيها...».

وبعد ذلك صار يلتقي بأشخاص لا يعرفهم، لم يعلم أنهم من الطلبة، إذ لم يرَ أياً منهم في قاعة التدريس، إلا حين راحوا يسألونه عن المحاضرات وأسئلة الامتحانات. يصادفهم خارج البناء الجامعي، في مكاتب البريد أو الهاتف أو شركة الكهرباء، ليكتشف أن كثيراً من طلابه موظفون في هذه الدوائر الحكومية. كانوا يطلبون منه أن يغيّر أسلوبه في التعليم، دون أن يحضروا له مرة واحدة. وذات يوم تقدّم منه شخص يعمل في مطعم، قائلاً: «صحيح أستاذ بدّك تسألنا أسئلة من خارج المحاضرات؟». أما سائق التكسي الذي صعد إلى جانبه مرة فقال له: «ولو أستاذ ليش بدّك تعمل فينا هيك؟ مفكرنا فلاسفة؟!».

يصف غزال الكليّات الجامعية السورية بأنها «كلية مراقب الدوام» بسبب المكانة المركزية التي يحتلها هذا الموظف في الشؤون الأكاديمية الإدارية

أما في نهار الامتحانات، وبعد توزيع الأسئلة، فقد احتج جمعٌ من الطلاب على ما ورد في السؤال عن نص طلب شرحه ومناقشته، وسألوا: «شو يعني اشرح وناقش؟»، أما رئيس القسم، خريج الاتحاد السوفييتي، فسأله: «شو يعني علّق؟». ولذلك حين ظهرت النتائج برسوب ثلثي الطلاب، اضطر الأستاذ إلى مغادرة حلب إلى بيروت، بعدما راح بعض الطلبة البعثيين يتحدثون عن اتجاهاته الأميركية في التدريس ووضع الأسئلة.

يصف غزال الكليّات الجامعية السورية بأنها «كلية مراقب الدوام» بسبب المكانة المركزية التي يحتلها هذا الموظف في الشؤون الأكاديمية الإدارية، من مكتبه الصغير، بدفتره العتيق وتدخينه الذي لا ينقطع وانشغاله دوماً بالرد على مكالمات هاتفية. أما حين زار المكتبة فقد وجد مجمل موظفيها وموظفاتها مجتمعين في غرفة واحدة حول السخانة يتدفؤون منتظرين غليان إبريق الشاي وركوة القهوة، والصمت والفراغ منتشران في الأرجاء. غير أنهم أرشدوه إلى مكتب المديرة التي أخبرته بعدم وجود فهارس؛ لأن نظام الكمبيوتر أصيب بعطل، وأن الكتب في مستودع مقفل، وأن عليه تزويد الموظفين بأسماء الكتب التي يريدها ليبحثوا عنها ويحضروها بعد أيام، إن وجدت واستطاعوا العثور عليها. في حين تحكم البيروقراطية البطيئة كل الأعمال في الجامعة، كما في كل مفاصل الحياة الرسمية السورية المفعمة بالأوراق والأختام والتواقيع والطوابع.

بين جبال المعاملات الحكومية سيمدّ غزال يده وقتئذ إلى قطاع قلّ الاهتمام به بين الباحثين، هو القضايا غير السياسية المنظورة أمام المحاكم. وستكون نتيجة هذا الجهد كتاب بعنوان The Crime Of Writing، صدر عام 2013 مستنداً إلى دراسة دقيقة لـ34 قضية عُرضت على محاكم مختلفة في حلب وإدلب منذ الثمانينيات. وهو بحث متخصص وغني يتناول محاور عدة؛ أحدها: علاقة الآيديولوجيا بالمحاكم غير السياسية في سوريا، إذ لا يهتم بها النظام الشمولي المعنيّ بالقضايا الكبرى والجماعية لا بحوادث الأفراد، فالأخطر هو معارضة النظام لا القتل أو السرقة أو تشكيل عصابة سطو. وثاني المحاور هو السرد الذي تُكتب به هذه القضايا والمقاربة بين القوانين والعرف الاجتماعي ضمن معايير يحددها المعطى السياسي العام. فرغم أنها جرائم غير سياسية فإنها تخضع للنظرة السياسية العامة لدولة البعث، سواء أكانت جريمة اقتصادية أو سواها. ورغم أن هذه الملفات جرائم أفراد، مرتكبين أو ضحايا أو شهوداً، فإن السلطة تمارس وصايتها لتهميش هذه القضايا التي تهم المجتمع كي لا يُنظر إليها ضمن سياق ثقافي أو اجتماعي أو ديني أو اقتصادي عام، كما في حالة جامعي الأموال الشهيرة (محمد كلاس وسواه) في حلب التسعينيات. ويقارن بين سلوك الأنظمة الاشتراكية تجاه هذا النوع من الجرائم، وهو النمط الذي استمد منه النظام السوري، وبين سلوك الأنظمة الليبرالية بإعلامها الذي يدفع هذه القضايا إلى بؤرة الاهتمام العام. كما يقارن بين الأصول الفرنسية للقانون السوري والنظام الأميركي للتقاضي.

الكتاب إضافة مهمة إلى سلسلة دراسات وأبحاث عديدة مجهولة كتبها غزال عن سوريا، ربما لا يتوافر منها بالعربية إلا كتابه «الاقتصاد السياسي لدمشق خلال القرن التاسع عشر» المستند إلى رسالته للدكتوراه، وأصدرته وزارة الثقافة بدمشق، عام 2008، بترجمة ملكة أبيض.