أزمة المثقف وواجبه؛ "ألم أخبركم من البداية؟!"

2018.05.18 | 00:05 دمشق

+A
حجم الخط
-A

حدثت هذه القصة في نهاية تسعينات القرن الماضي..

كنّا نحضّر لامتحاناتنا الجامعية في شقة أحد زملائنا عندما سمعنا صراخاً وسباباً صادراً من الحي المجاور.

أسرعنا في الخروج بعد أن تعالت الصيحات، وبدا أنها قد وصلت إلى حافة العراك، لنشاهد سيارتين مفتوحتي الأبواب، وشابين، بدا أنهما السائقان، يتبادلان الاتهامات، ويحيط بهما حشد من سكان الحي الدمشقي القديم.

لم يحتج الأمر لأي شرح من أجل فهم المشكلة، فزقاق الحي كان ضيقاً لا يتسع لأكثر من سيارة واحدة، ولا يُسمح فيه بالمرور إلا باتجاه واحد.. ولكن سائق إحدى السيارتين الذي دخل من الاتجاه المخالف، أصرّ على عدم العودة عن مخالفته واستخدم مختلف أساليب التهديد والوعيد والسباب والشتائم لإرغام السائق الآخر على العودة الى بداية "الزقاق" كي يمرّ هو بسيارته.

كان هذا الشاب الأرعن، مفتول العضلات، بذيء اللسان، بدا من لهجته الساحلية وطريقة تهديده ووعيده أنه مدعوم من جهات أمنية. أما الشاب الآخر فقد حاول الصمود والإصرار على حقّه مستخدماً حجّة المنطق والقانون.

المفارقة إن معظم أصحاب المحال التجارية، وبعض أهالي الحي، الذين تجمهروا حول الشابين، ألقوا اللوم على صاحب الحق، وتسابقوا إلى نصحه وتأنيبه قائلين:

اقصر الشر، الله يرضى عليك"

لك ابني، لا يكون راسك يابس، رجاع هالكم متر وكبّر عقلك"

-يا عمّي اخزي الشيطان، ألا ترى كم هو هائج، لا تكن عنيد"

انتهت المشكلة بعد تدخّل إحدى المفارز الأمنية القريبة لصالح الشاب الأرعن، وأرغموا صاحب الحق على الرجوع بسيارته لإفساح الطريق لصديقهم.

كنت قريباً من أحد عناصر الأمن عندما همس ضاحكاً بأذن السائق "الشبيح":

لماذا تتكلم بهذه اللهجة أيها المحتال، وأنت شامي الأصل.

ليست تلك الواقعة المليئة بالرموز، فريدةً في المجتمع السوري، وأنا واثق عزيزي القارئ أنك خبِرت العديد من أشباهها إن أقمت في سوريا الأسد.

يبدو لي أن أهالي الحي الذين فضّلوا الانحياز للظلم وحقّ القوة، هم أنفسهم الذين يتبنون اليوم مقولة "خربتوها بثورتكم".. هؤلاء لم يخدعهم إعلام الأسد وأكاذيبه، فهم عايشوا الثورة بتفاصيلها، ورأوا بأعينهم الأمن وهو يضرب المتظاهرين في أيام الثورة الأولى، كما أنهم شاهدوا وعاينوا طائرات ميليشيا الأسد ومدرّعاته وجنوده أثناء تخريبهم المنهجي للبلد على مدى سنوات. ولكنهم كما يشرح "لابواسييه" في مقالته الشهيرة، "ولدوا وهم مغلولو الأعناق، فاعتادوا العبودية. والإنسان لا يفتقد ما لم يحصل عليه". وهم كما يصف الأديب علاء الأسواني  "يفضّلون الاستقرار مع القمع والظلم، على أي محاولة للتغيير قد تؤدي إلى قلاقل وبلبله".

مازال آخرون يُذكّروننا بخطاباتهم ونصائحهم للحفاظ على سلمية الثورة، ولا يفتؤون يكرّرون مقولة "قلت لكم من البداية.. "، حتى يُهيأ لك أن فخرهم بانتصار آرائهم، يفوق حزنهم على انتكاسات ثورتهم.

تكمن خطورة المجتمعات المستقرة التي اعتادت الاستبداد في عدم قابليتها للتطور، ومعاداتها له. ويفشل المثقفون الأحرار عندما يحاولون مدّ يد العون، والتبشير بمستقبل يمكن أن يكون أفضل، فالمواطن المستقر لن يفهم قيمة الحرية حتى يتعرف عليها ثم يعتادها، وذلك سيستغرق بعض الوقت.

معاناة المثقفين تتجاوز المجتمع المستقر إلى مجتمع الثورة. ففي كثير من الأحوال يضيق الثوّار بمثقفيهم المعتدلين، ويخرجوهم من ثورتهم مفضّلين التطرّف. حدث ذلك في معظم الثورات الكبرى، ولك أن تقرأ كيف وصل متطرفون كروبسبير الثورة الفرنسية، وستالين الثورة البلشفية، وكرومويل الإنكليز، إلى السلطة.

حدث هذا أيضاً في الثورة السورية. ضاق الثوّار بمثقفيهم.. وضاق المثقفون أيضاً، بعضهم ضاق لأن الثورة لم تستشره قبل إنطلاقها، ومازال آخرون يُذكّروننا بخطاباتهم ونصائحهم للحفاظ على سلمية الثورة، ولا يفتؤون يكرّرون مقولة "قلت لكم من البداية.. "، حتى يُهيأ لك أن فخرهم بانتصار آرائهم، يفوق حزنهم على انتكاسات ثورتهم!.

شيئاً فشيئاً، يفقد المثقف رصيده، ويتّهمه الثوار بالتنظير وعدم فهم الظروف وتعقيداتها، ويقابلوه بالشك الذي قد يصل إلى التخوين، فيخسر الطرفان وتتأزم الثورة.

إن كان من الصعب على المثقف إقناع المواطن المستقر وتحفيزه للمطالبة بحريته، فلا بد له من تصحيح علاقته مع الثورة، والكرة في ملعبه. فلكي تُقنع الثائر بالإصغاء والقبول ثم العمل بما تقول، لا بد من الاقتراب منه وفهمه.

الآراء السليمة لا تُجدي إن لم تجد من يؤمن بها. (وفي الأمر تفصيل لاحق).