أراشيف الاستبداد الذاتي ونزواته

2021.04.15 | 06:12 دمشق

لجنة العدالة والمساءلة الدولية
+A
حجم الخط
-A

تنقل الوكالات بين حين وآخر، أخبارا عن افتتاح مواقع تسمي وظيفتها ومحتواها، بالأراشيف.

وعادة ما تحمل هذه المواقع، في البلدان المستقرة حول العالم صفة "الوطنية"، فيكون ما تعرضه جزءاً من ذاكرة أممها، وقد تمت المحافظة عليها، لتكون متاحة للمؤرخين وللباحثين والطلاب والدارسين.

كما أن حق الاطلاع عليها، هو جزء من حقوق المواطنة، تحميه الدساتير، وتضع له سبلاً وأدوات، وبما يجعل من سعي كثيرين للوصول إلى معلوماتها، سياقاً يغذي تعميم المعرفة، وإزالة اللبس والغموض، عن كثير من تفاصيل التاريخ.

ضمن هذا السياق، نتذكر أن ألمانيا قد سنت قانوناً خاصاً يعرف بقانون وثائق شتازي (جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية)، ينظم عملية التعامل مع مواد تاريخه، وطرق نشرها، وسماحية الوصول إليها.

لكن العلاقة مع الوثيقة، والمعلومة، وبالتالي مع الأرشيف، في البلدان المحكومة بالأنظمة القمعية، كما في سوريا، قد تؤدي إلى مصير غير سار، فالمعرفة تؤذي صاحبها، خاصة، إذا كان جوهر ما يتم البحث عنها ومعرفته، مرتبط بالسلطة، وأفعالها، وقواعد عملها، ووقائعه.

وفقاً لهذا، وفي الدولة الأمنية، يصبح القادرون على الوصول إلى أي جزء من الأرشيف، أي أرشيف، هم جزء من خاصة القوم، المتمتعين بالحماية، إن لم يكن بالقوة!

بحكم واقع الحال هذا، يعتبر تعذر الوصول إلى الوثائق التاريخية السورية، سبباً وجيهاً، للاندفاع العام نحو إنشاء مواقع تحمل أسماء مثيرة مثل "التاريخ السوري" و"وثيقة وطن" و"التاريخ السوري المعاصر"، تحاول وبحسب خطاب أصحابها، ترميم ما تحطم من تفاصيل على هذا الجدار.

وربما يمكن إدراج كثير من المواقع في سياقات مماثلة، كموقع ما عن الموسيقا السورية، وآخر عن الصور القديمة، والمسرح والسينما.. إلخ.

لكن غياب الواقع السوي، ليس كافياً لتبرير اللجوء إلى حلول غير سوية، فغياب الأرشيف الوطني لا يمنح أي أحد، الحق في استخدام هذه التسمية ذاتها في قناة نشر المحتوى الخاصة به، خاصة حينما يكون هذا المحتوى عاماً، يتصل بعموم السوريين، أو بعض فئاتهم!

ويمكن للمرء في المقابل، أن يتفهم في سياق معركة السوريين في مواجهة النظام، والجهود للحفاظ على سردية الثورة، أن تظهر مواقع تسمي نفسها هكذا، مثل الأرشيف السوري الذي يهدف حالياً إلى "صون، تحسين، واستدامة الوثائق المتعلّقة بانتهاكات حقوق الإنسان والجرائم الأخرى المُرتكبة من قبل جميع أطراف النزاع في سوريا، بهدف استخدامها في قضايا المناصرة، العدالة والمساءلة القانونية".

وأيضاً موقع Syrian Heritage Archive وهو مبادرة سورية ألمانية لحفظ تفاصيل عن الآثار والثقافة السورية. وأيضاً أرشيف المطبوعات السورية الخاص بحفظ جرائد ومجلات الإعلام البديل السوري

وحتى تلك المبادرات التي انطوت عليها مواقع مثل أرشيف التراث الدمشقي، أو أرشيف الشرائط السورية، وأيضاً مشاريع أعلن عنها ولم يتضح مصيرها مثل أرشيف الفن السوري الحديث (MASA) الذي أعلنت عنه غاليري أتاسي الدمشقية.

ولكن، لماذا هذا الافتتان بالكلمة، وبما يجعلها حاضرة، كيفما أتفقُ، هنا وهناك؟

لهذه الكلمة وقعٌ مثير ولافت، يكاد يجعلها تتساوى مع كلمة مكتبة! فعلى رفوف كل منهما، تتراصف بوابات للمعارف، وللتفاصيل التي لا يعرفها من يقصد أي منهما.

المكتبة من حيث الوظيفة والمحتوى تكاد أن تحوز صفتي العلنية والرسمية، طالما أنها مكان متاح للعموم أو للباحثين أو الفئة المستهدفة من وراء إنشائها.

غير أن الأرشيف، وهو "مكان لحفظ الملفَّات والسِّجلات والوثائق أو أيَّة موادّ لها أهمية تاريخيّة" بحسب قاموس المعاني، يكاد أن يتفوق على المكتبة لجهة اكتنازه للمادة غير المتاحة للعموم، إلا من خلال طلب وموافقة.

وضمن هذا التقابل، وإذا خيّر أي شخص، ممن يعيش في زمننا الحالي، وقد حقن دمه بالمثير، الذي يجذب الآخرين، وفق إيقاعات شبكات التواصل الاجتماعي، بين أن يسمي المكان الذي سينشر فيه ما يملكه، من أي نمط ونوع، من الأشياء المادية أو غير المادية، كمكتبة أو كأرشيف، فإنه بالتأكيد سيختار الكلمة الأخيرة!

ورغم أن لكل موقعٍ على الإنترنيت أرشيفه، مثلما لكل جريدة أو مجلة أو إذاعة أو قناة تلفزيونية أرشيفها، إلا أن التفكير بإلصاق الكلمة بهذه أو تلك من قنوات نشر المحتوى، يكتنف ملمحين مهمين، أولهما السيطرة والتحكم، فصاحب الأرشيف، غير الشخصي، يستحوذ على محتوى يخص آخرين، وهو بهذا الشكل يخص نفسه بالمعلومة، ويتملكها، ويتحكم بمن يستطيع أن يصل إليها، ومن يستخدمها.

وثانيهما هو افتراض السعة والامتلاء، وبما يجعل من قناة النشر مكرسة على أنها وحيدة في مجالها!

فإذا كنا كسوريين، عاملين في مجالات النشر، الصحفي والثقافي، نعرف أن تشتت التراث السوري بهذا الشكل المفجع، يجعل من المستحيل على أي شخص أو مؤسسة، في الوقت الحالي، ادعاء السعة والامتلاء، فإن هذا يقودنا إلى افتراض أن تضافر الجهود بين أصحاب المشاريع وجمع نتاجها في إطار مؤسساتي واحد مستقبلاً، سيرمم الفجوة الحاصلة حالياً، لا سيما وأن معظم تمويلات هذه المشاريع إنما تأتي من مؤسسات تقوم بتوجيه مالها من أجل أهداف وطنية محلية، ما يثبت الحق العام في ملكيتها مستقبلاً.

غير أن ما لا يمكننا معالجته دون هدم النظام التسلطي الأسدي، هو ذلك الظفر المغروز في عقول البعض، والذي يجعلهم يحاولون رؤية أنفسهم في مرآة تلبسهم ثياب السلطة وترسم على وجوههم ملامحها، فتجعل شخصاً هنا وآخرين هناك، يدعون أنهم يمتلكون المعرفة الناجزة والمبرمة، وأن بين أيديهم وثائق السوريين وحيواتهم، ما يجعلهم يفترضون أنهم بدائل النظام، وأنهم ورثة الماضي والحاضر والمستقبل!