"أحمد ميشيل عفلق".. عندما تقود "الشعبوية" البلاد

2022.07.05 | 07:05 دمشق

"أحمد ميشيل عفلق".. عندما تقود "الشعبوية" البلاد
+A
حجم الخط
-A

في 23 حزيران عام 1989م، توفي مؤسس حزب البعث "ميشيل عفلق" في باريس، وقرر رئيس العراق يومها "صدام حسين"، أن يُدفن في العراق، وأقيمت له مراسم تأبين مهيبة، ولم يكن قد مضى على وقف الحرب الإيرانية العراقية سوى تسعة أشهر، ويومها تم الإعلان عن رسالة وجدت في مصحف شريف قيل إن ميشيل عفلق كان يحمله، ويقرأ به أينما يتنقل، في تلك الرسالة يعلن إسلامه، ويُطلق على نفسه اسم: أحمد ميشيل عفلق.

في الحرب الإعلامية التي دارت خلال الحرب العسكرية بين إيران والعراق، كانت إيران تتهم صدام حسين ومعه حزب البعث الحاكم في بغداد، بأنهم أعداء الإسلام وكفرة، وكان دليلها على ذلك أن ميشيل عفلق مؤسس حزب البعث الذي يحكم العراق هو مسيحي، ولم يجد حزب البعث في العراق طريقة للرد أفضل من أن يروي قصصاً عن علاقة ميشيل عفلق بالإسلام، واعتباره له جوهر العروبة، وعن قراءته للقرآن بشكل دائم، وأخيراً إسلامه.

في سوريا شقيقة العراق والأكثر التصاقاً به، ومع هذا فقد أوصد جناحا البعث كل النوافذ والأبواب فيما بينهما، ورغم أنهما محكومان من حزب واحد، وتربطهما الجغرافيا، والديموغرافيا، واللغة وغير ذلك، إلا أنهما كانا أقرب للعداء، وليس هذا ما يهمني هنا، ما يهمني هو أن مسيحياً آخر اسمه "فارس الخوري"، لعب دوراً سياسياً مهماً في تاريخ سوريا، وكان الرجل الثاني في سوريا بعد 1925م، ويستشهد به السوريون كدليل على وحدتهم الوطنية دائماً.

لم يجد الحزب المسمى زوراً بأنه "علماني"، في العراق وسوريا تبريراً لما قام به كل من ميشيل عفلق وفارس الخوري، إلا عبر إعلان إسلام ميشيل عفلق في العراق

ما إن يذكر اسم "فارس الخوري"، حتى تنتفخ أوداج الوطنية فينا، لندلل على عظمة سوريا ومدى تماسك نسيجها الوطني، وكأننا لا ننتبه إلى الوجه الآخر لمنطوقنا، الوجه الذي يطلق الرصاص بكل بساطة على نسيجنا الوطني ويهتكه.

لم يجد الحزب المسمى زوراً بأنه "علماني"، في العراق وسوريا تبريراً لما قام به كل من ميشيل عفلق وفارس الخوري، إلا عبر إعلان إسلام ميشيل عفلق في العراق، وعبر التسامح والمحبة في سوريا، لكأنّما ميشيل عفلق وفارس الخوري ليسا مواطنين أولاً، قبل أي تصنيف آخر.

في 1860 م، تعرض المسيحيون في دمشق لحرب طائفية ذهب الآلاف ضحيتها، ورغم تعدد أسباب هذه الحرب، إلا أن جذرها الأساسي كان الفهم المتعلق باعتبارهم "ذميين"، وكان قانون المساواة أمام القانون الذي أقرّه السلطان العثماني آنذاك عاملاً مهما في احتقان اجتماعي طائفي رافض لهذا القانون، ويطالب بإبقاء اعتبار المسيحيين أهل ذمة، وليسوا على قدم المساواة مع المسلمين.

في جوهر جميع هذه الحوادث، ثمة تحطيم لمعنى المواطنة، وثمة ترسيخ لمبدأ لا يمكن لدولة حديثة أن تقوم بوجوده، وهو تمييز المواطنين على أسس أخرى غير المواطنة والقانون، وفيها كلّها أيضاً انسياق وراء شعبوية سائدة، تقول بفكرة أن قيادة المجال العام والدولة لاتجوز لمن لاينتمي للدين الإسلامي.

اليوم وفي سعي هذه البلاد لانتقال سياسي يقطع مع سياسة التمويه، والتكاذب اللفظي، والمسامحات، وصولا لدولة المواطنة، لم يعد التصدي لظاهر هذه المشكلات كافياً، إذ لا بدّ من فتح ملفات جذور هذه المشكلات، بوصفها مانعاً حقيقياً لديمقراطية حقيقية، أساسها المواطنة المتساوية.

في النصف الثاني من القرن الماضي، انتشرت تصنيفات للأنظمة العربية، فمنها من صُنف على أنه نظام تقدمي، ومنها من صُنف على أنه نظام رجعي، لم تختلف هذه الأنظمة في جوهرها كثيراً، وإنّما تركّز اختلافها في الشعارات التي ترفعها، وفي بعض علاقاتها الدولية، لا سيما أن البشرية عاشت تلك المرحلة في ظل القطبية الثنائية للعالم، وفي ظل الحرب الباردة، وجاءت الهزيمة المرة في حرب حزيران 1967م، لتسحب الشرعية المنفعلة والشعبوية من هذه الأنظمة، ومن الأحزاب التي صعدت في حينها بوهج هذه الشعارات، وكان من الطبيعي أن تُهزم هذه الأحزاب، وأن تدير شعوب المنطقة الظهر لها.

في أسباب هزيمة هذه الأحزاب، ما يمكن أن يلقي الضوء على أسباب هزائمنا الحالية، فمعظم هذه الأحزاب استمد أفكاره من تجارب أحزاب أخرى قامت في دول أخرى، ومعظمها انحصر نشاطه في بؤر نخبوية معزولة عن محيطها الاجتماعي، ومعظمها مارس خطاباً فوقياً لم يرَ، في مجتمع تغلب عليه الفردية والعشائرية، أي خصوصية تحتم عليه خطاباً مغايراً.

في المسكوت عنه اليوم، تكمن كارثة الغد، فهذا النكوص الواسع إلى الماضي البعيد واستحضاره، ليس بدافع الدراسة والتمحيص، بل استحضاره للعيش فيه، والانتصار لأطرافه

باختصار، لم تتسبب هزيمة حزيران بهزيمة النظام العربي وحسب، بل إن الهزيمة الأهم إنّما ترسخت أساساً في هزيمة النخب الثقافية العربية، وفي الفكر السياسي العربي السائد، وخصوصاً أن نتائج هذه الحرب لم تدفع هذه النخب لفتح ملفات الهزيمة، وأسبابها وكيفية معالجة الثغرات التي كشفتها، لا بل وهنا الكارثة، أنها تسببت بصعود أحزاب شعبوية أخرى، وبشعبوية جماهيرية أخرى، وبنخب تقيس دورها على معيار هذه الشعبوية، فدفعت إلى انتهاج سياسات لم تكن أقل كارثية، وتسببت ولا تزال بهزائم تتتالى، والأخطر من كل ذلك، أنها استنزفت إمكانات هذه الشعوب، وفرص انتقالها إلى مصاف الدول الحديثة.

في المسكوت عنه اليوم، تكمن كارثة الغد، فهذا النكوص الواسع إلى الماضي البعيد واستحضاره، ليس بدافع الدراسة والتمحيص، بل استحضاره للعيش فيه، والانتصار لأطرافه، كما لو أنهم لا يزالون بيننا، هو الكارثة الأدهى اليوم، وهو ما يعيد التأسيس لهزيمة قد تكون الأفدح في التاريخ.

لم يعد أمامنا إلا أن ننبش جذور مشكلاتنا كي نعيد صياغة غدنا على نحو قابل للحياة، أو لننتهي كما انتهت أمم كثيرة أخرى.