أحمد جودة.. حكاية راقص جنده النظام

2021.11.05 | 05:29 دمشق

أحمد جودة.. حكاية راقص جنده النظام
+A
حجم الخط
-A

في العام 2016 ضج الإعلام الهولندي والغربي عموماً براقص الباليه السوري الذي تحدى داعش ورقص على أبواب تدمر وبين آثارها، في الوقت الذي كانت فيه داعش تسيطر على تلك المدينة التاريخية.

جاء ذلك بعد أن بث التلفزيون الهولندي فيلماً وثائقياً عن الراقص أحمد جودة خريج قسم الباليه في المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق، وقد قام بإعداد هذا الفيلم الإعلامي الهولندي "روزبه كابولي" Roozbeh Kaboly.

وقبل أن تنتهي الزوبعة التي أثارها الفيلم، تلقى أحمد جودة دعوات كثيرة من معظم البلدان الأوروبية بما فيها هولندا لاستقباله ومنحه الإقامة، واختار جودة هولندا التي منحته اللجوء مباشرة، وفتحت له كبريات مسارحها.

القصة البريئة..

بالنسبة للحكومة الهولندية، كانت قصة أحمد جودة مثيرة للاهتمام والتعاطف، فالراقص السوري ذو الأصول الفلسطينية هو فنان تعرض للتهديد من قبل تنظيم (داعش)، ووصلت أخباره إلى أوروبا، وبالتالي فمن الواجب الأخلاقي والإنساني، وحتى السياسي، أن تكفل الدول الأوروبية له الحماية وحق اللجوء ليس باعتباره مهدداً فحسب، بل باعتباره فناناً وشخصية استثنائية، وهكذا فعلت الحكومة الهولندية التي سهلت عملية دخوله إلى أراضيها بفيزا رسمية مستعجلة، وبتوصية وترشيح من الصحفي الهولندي، وما إن وصل جودة حتى بدأ بالمشاركة مع فرق الباليه الكبرى كراقص أساسي، بل وسافر في خلال سنة إلى معظم دول العالم من بلدان أوروبا إلى أميركا وكندا، ليقدم فيها عروضه الراقصة..

رواية موازية

ولكن اللافت في قضية أحمد جودة، أنه لم يتوقف عند تقديم إنتاجه الفني، بل أخذ يردد على مسامع العالم ومن خلال اللقاءات الصحفية الكثيرة والمكثفة التي أجريت معه جوهر رواية النظام، والتي لخصها بأن الصراع في سوريا هو صراع ما بين السلطات الشرعية والإرهاب والمتمثل تحديداً في تنظيم "الدولة"، وبخلاف ذلك لم يذكر جودة شيئاً عن الثورة، عن المظاهرات السلمية، عن قمع النظام، ولا سيما أنه ابن مخيم اليرموك والذي شهد إرهاب النظام لسنوات، قبل أن تدخله داعش.

أرقص أو أموت

نقش جودة على رقبته من الخلف وشماً باللغة الإنكليزية هو عبارة عن كلمتين: أرقص أو أموت، Dance or Die وهذا كان عنواناً للفيلم التسجيلي الذي أعده الصحفي الهولندي، وقد اختار جودة ذلك الوشم ليتحدى من خلاله داعش حسب ادعاءاته التي رددها في غير لقاء تلفزيوني، وكان ذلك العنوان سبباً رئيسياً في تسليط الضوء على قصته ولفت النظر إليها وخاصة في أوروبا.

إلا أننا نستطيع أن نلاحظ منذ البداية أن اختيار اللغة الإنكليزية لكتابة الوشم، هو خطاب يستهدف الغرب أكثر من استهدافه لـ (داعش) وأخواتها..

جودة يكشف ارتباطه

في إحدى لقاءاته التلفزيونية، قص جودة قصته المتعلقة بالرقصة التي أداها على أسوار مدينة تدمر، تسأله محاورته: وكيف استطعت الوصول إلى هناك رغم وجود تنظيم داعش في تدمر؟ هل كنت في مأمن؟ فيجيب جودة: لقد ذهبت مع الصحفي الهولندي إلى هناك بحماية من السلطات السورية، اندعمنا (يضحك) تسأله: يعني كان معكم حماية؟ يجيب نعم.. لماذا اخترت تلك المنطقة؟ يجيب: أنا طلبت ذلك، داعش قتلت الناس هناك وأنا أردت أن أتحداهم..

الصلة الوثيقة مع سلطات النظام والتسهيلات التي قدمتها للراقص أحمد جودة بالذات رغم وجود كثير من راقصي الباليه في سوريا، تعد دليلاً ساطعاً على ارتباط الراقص بتلك السلطات

هذه الصلة الوثيقة مع السلطات السورية والتسهيلات التي قدمتها لهذا الراقص بالذات رغم وجود كثير من راقصي الباليه في سوريا، تعد دليلاً ساطعاً على ارتباط الراقص بتلك السلطات، ويمكن أن يبنى عليها كثير من الاستنتاجات، ولكن المسألة لا تتوقف عند هذا الحد..

والصحفي أيضاً

في عام 2018، بث التلفزيون الهولندي ريبورتاجاً مستفزاً عن النساء اللواتي خطفهن جيش الإسلام في الغوطة، واستطاع الصحفي أن يصور في الأماكن التي كان جيش الإسلام يعتمدها كسجون، والتقى بإحدى المخطوفات التي حكت عن معاناتها في أثناء الخطف ووحشية المعارضة، طبعاً لا يمكن نكران جرائم جيش الإسلام، ولكن السياق الذي أورد التقرير من خلاله تلك الوحشية كان منحازاً، بمعنى أنه لم يتحدث سوى عن وحشية المعارضة، وكان من الواضح جداً أن تصوير التقرير تم بحماية  السلطات السورية وتحت رقابتها، وكانت نتيجته لا تختلف عن أي تقرير تبثه قناة الدنيا أو غيرها من القنوات التابعة للنظام.

وبالبحث عن الصحفي تبين أنه الصحفي الهولندي ذاته الذي أعد الفيلم الوثائقي عن الراقص أحمد جودة، وأنه أيضاً الصحفي ذاته الذي رتب إجراءات الحوار الذي أجراه أحد الصحفيين الهولنديين مع بشار الأسد في العام 2014. وبالبحث أكثر عن هذا الصحفي تبين أنه إيراني حاصل على الجنسية الهولندية، وأنه بقي لسنوات طويلة في سوريا يغطي الأحداث من وجهة نظر النظام نفسه..

إلى نيويورك

الفيلم الوثائقي "أرقص أو أموت" الذي أنجزه الصحفي عن أحمد جودة، نال الجائزة الأولى في مهرجان إيمي الدولي للأفلام الوثائقية عام 2019، وسافر الراقص والصحفي معاً إلى نيويورك وتسلما الجائزة، وهناك كرر جودة روايته عن سوريا، أي رواية النظام، مدعوماً بشهادة الصحفي الهولندي/ الإيراني، وكان من الواضح تماماً أن الهدف البعيد ليس المهرجان، ولا الباليه وإنما نقل رواية النظام بطريقة غير مباشرة لتكريسها عبر فنانين نوعيين يحترمهم العالم ويثق بهم ثقة عمياء..

التهديد المريب

هُدد أحمد جودة من قبل تنظيم (داعش) إذن، واستطاع جودة أن يتحدى التنظيم لسنوات، ولكنه بدأ بالخوف وأخذ تلك التهديدات على محمل الجد فقط بعد أن تخرج من المعهد، تهديد (داعش) لم يفل من عزيمة الراقص خلال سنوات دراسته، ولكنه شعر بخطر التهديد بعد التخرج، ومن ثم سعى للخروج من سوريا، كل ذلك أمر مريب بالطبع ويؤكد كلام جودة عن استعانته بالسلطات السورية لتأمين الحماية له في تدمر، وبالتالي عن صلته الوثيقة بتلك السلطات.

غير أن جودة يقر بتلك العلاقة دون أن يدري في إحدى لقاءاته التلفزيونية حيث ذكر أنه كان مطلوباً للجيش بعد تخرجه من المعهد، ولكنه مع ذلك استطاع مغادرة البلد بشكل قانوني في ظل ظروف معقدة كان النظام فيها يسد خرم الإبرة على المطلوبين للجيش فلا يستطيع أحد مغادرة سوريا إلا بطريقة غير شرعية، ولكن أحمد جودة لم يعان من كل تلك التعقيدات، وسافر من مطار دمشق دون أي عوائق..

مستوى أحمد جودة الفني

ثمة عشرات من خريجي معهد الباليه في دمشق، ومنهم من هو أعلى من جودة من حيث المستوى الفني والحرفي، غير أن الصحفي الهولندي الذي بقي لسنوات في دمشق لم يركز إلا على جودة، ذلك أمر يستدعي التوقف لبرهة وطرح السؤال الذي لا يمكن إغفاله: لماذا جودة فقط؟، أيضاً فمن بين الملايين التي هربت من سوريا، ثمة عشرات من راقصي الباليه ومعظمهم أهم من جودة، وأعلى من حيث المستوى الفني، ومن هؤلاء مجموعة استقرت في أوروبا وفي هولندا بالتحديد، ولكن أحداً لم يسلط الضوء عليهم أو يعاملهم معاملة خاصة أو حتى يعطيهم فرصاً للعمل أو الدراسة، الأمر الذي يجعل من قضية جودة أمراً لافتاً ومثيراً للارتياب.

حقوق "الهومو"

بالإضافة إلى كونه راقصاً ومهدداً من قبل داعش، فقد استثمر جودة أيضاً في موضوع "الهومو"، وطرح نفسه على أنه مثلي الجنس، ربما هي قضية ثانوية، ولكن الإشارة إليها قد تعزز الاستنتاجات السابقة، فالمثلية نقطة قوية جداً ليس فقط في ملف طالب اللجوء، بل أيضاً في مصداقية تهديده من المتطرفين، وبالتالي في ليبرالية مثليي الجنس، يقر جودة في أحد لقاءاته أنه اختار هولندا نظراً لعلاقته المتوطدة مع الصحفي المذكور، ويقول أيضاً أن الصدفة وحدها قادته للسكن في ذات الحي الذي يسكن فيه الصحفي في أمستردام.

ليس من حقنا بالطبع البحث في العلاقات الشخصية، ولكن سكن أحد المجندين من قبل نظام الأسد بالقرب من أحد الصحفيين الذين دافعوا لسنوات عن نظام الأسد مسألة لا يمكن أن تكون بلا معنى أو بمحض المصادفة.

خلاصة..

 إن كل المعطيات في قصة صعود أحمد جودة بهذا الشكل يدفعنا للتعامل مع هذه القضية على أنها مدروسة، وأن الراقص تم تجنيده من ضمن كثير ممن جندهم النظام للدفاع عن روايته في الغرب، سواء كان التجنيد مباشراً بالاتفاق مع جودة أو توظيفه دون أن يدري من قبل مخابرات الأسد، ولكن وعي جودة بمهمته من خلال كل تصريحاته وترديده لرواية النظام بدقة يؤكد صلته المباشرة به، يدفعنا للتوقف عند مثل هذه الحالات، وما أكثرها في أوروبا.