أثر الحرب على المرأة السورية في رواية (جدائل الصفصاف العطشى) ( 1 )

2022.04.22 | 08:15 دمشق

alsfsaf-_tlfzywn_swrya.jpg
+A
حجم الخط
-A

أتاحت سنوات الحرب الممتدة إلى أكثر من عقد على الجغرافية السورية حافزاً شديد الحضور لكثير من الأقلام لتنثال بغزارة، مُستلهمةً من حياة السوريين موادّها الفكرية والأدبية والسياسية، بل يمكن الذهاب إلى أن الشاغل الأبرز لتلك الأقلام كان الاتجاه نحو توثيق سردية الثورة السورية منذ انطلاقتها في آذار 2011، وتداعياتها المختلفة على المجتمع السوري.

وعلى الرغم من تنوّع المساعي والجهود التي تقوم بها مراكز البحوث والدراسات وكذلك المبادرات الفردية التي تُعنى بالتوثيق والتأريخ لسيرورة الثورة، إلّا أن الحيّز الذي يشغله التوثيق الفني، يبقى خاطفاً للأنظار أكثر من سواه، باعتباره تجسيداً جمالياً للتجربة الإنسانية من جهة، وكذلك لكونه الأكثر قدرةً على استبطان التجربة الحياتية للكائن البشري من جهة أخرى. ومن هنا يمكن أن تكون رواية (جدائل الصفصاف العطشى) للكاتبة فريال العلي، هي إحدى الأعمال الأدبية التي قاربت بعمق، سردية الثورة من خلال تتبّع وقائعها ورصد تداعياتها الاجتماعية والإنسانية، إلّا أنه يمكننا الزعم أن هذه المقاربة تكتسي ببعض الخصوصية، لكونها اتخذت من أثر الحرب في سوريا على المرأة السورية عامة، وعلى المرأة الفراتية على وجه الخصوص، موضوعها الشاغل، أضف إلى ذلك أن الكاتبة فريال العلي نجحت ببراعة واقتدار في استثمار عنصر (المكان) وتوظيفه ليكون حاملاً أساسياً من الحوامل الفنية التي تنهض عليها الرواية.

تدور أحداث رواية (جدائل الصفصاف العطشى) في مدينة منبج، تلك المدينة التي تقع في الريف الشرقي لمدينة حلب، وتفصل بينها وبين نهر الفرات مسافة (35 كم)، ولا أعتقد أن اختيار الكاتبة لمدينة منبج يعود إلى انتمائها لتلك المدينة، أو لأنها عايشت أحداث روايتها كوقائع يومية فحسب، بل يمكن التأكيد أن هذا الاختيار له بواعث أخرى، لعل أهمها أن مدينة منبج قد شهدت تعاقب جميع سلطات الأمر الواقع الموجودة على الأرض السورية، فبعد أن تحررت المدينة من سلطات الأسد في تموز 2012، قام بإدارة شؤونها مجلس ثوري مدني من أبنائها حتى بداية العام 2014، وقد جسّدت تلك الفترة الطور الأنقى من أطوار الثورة، ثم وقعت منبج بعد ذلك تحت سلطة تنظيم (داعش) حتى شهر آب من العام 2016، إذ قام التحالف الدولي بالتنسيق مع قسد، بحرب على تنظيم داعش، انتهت إلى خروج هذا الأخير، ومنذ ذلك الحين ما تزال منبج تحت سيطرة قسد بقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي(pyd)، الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني (pkk).

توزّعت الرواية على ثمانية فصول قصيرة ولكنها مكثّفة، يحاول كل فصل أن يجسّد فكرة ما، لدى شريحة اجتماعية محددة، إلّا أن الأفكار جميعها تلتقي وتتفاعل لدى الشخصية المحورية في الرواية

توزّعت الرواية على ثمانية فصول قصيرة ولكنها مكثّفة، يحاول كل فصل أن يجسّد فكرة ما، لدى شريحة اجتماعية محددة، إلّا أن الأفكار جميعها تلتقي وتتفاعل لدى الشخصية المحورية في الرواية، أعني شخصية (ليلى) التي تتلاقى عندها خيوط الأحداث على امتداد الرواية.

ليلى فتاة منبجية تبلغ من العمر ستة وعشرين عاماً، حاصلة على إجازة في التاريخ، لم يُتح لها أن تمارس مهنة التدريس بسبب نشوب الحرب في البلاد، فاتخذت ركناً صغيراً من بيتها وجعلت منه (صالوناً لتجهيز العرائس) لإعالة والدتها وإخوتها الصغار. إلّا أن هذه الشخصية البسيطة في بدايتها، تميل شيئاً فشيئاً نحو التعقيد، إلى أن تغدو شخصية مُركّبة، وذلك بفعل التناقضات التي تبدأ تعصف في داخلها، فيتحول تفكيرها إلى زوبعة ملتهبة دائمة بالتناقضات القائمة بين ما تؤمن به وتراه صحيحاً، وبين ظروف الحرب التي تداهمها، بل تقهرها. شرارة التناقضات تبدأ من وجود أحد إخوتها في جيش النظام، ورفضه للانشقاق عنه، الأمر الذي كان سبباً لنقاشات وشجارات حادة ومستمرة بينها وبين والدتها التي تحاول على الدوام إيجاد المبررات، متذرعة بالسطوة الأمنية التي لا تتيح لابنها الانشقاق، في حين أن انحياز ليلى إلى الثورة ورفضها المطلق لدموية قوات النظام يجعلها تشعر بالعار من فعلة أخيها، وغالباً ما تبلغ أزمتها الشعورية ذروتها حين يتداخل لديها حبها الفطري والدفين لأخيها من جهة، ونقمتها واحتجاجها على سلوكه من جهة أخرى. ثم لا تلبث تلك المشاعر المتناحرة أن تتنامى، بل تزداد احتداماً، حين يدفعها هاجسها الدائم بالزواج والبحث عن الزوج المناسب، إلى وقوعها في حب (حسن) صاحب الوسامة والعيون الزرقاء والشعر الأشقر، فضلاً عن قوامه الرشيق وخجله المحبب، فهو قد جمع – بنظرها – علامات الوسامة والرجولة معاً، ولم يكن انتماء حسن لإحدى الجماعات الإسلامية المتطرفة رادعاً لحب ليلى، ظنّاً منها أن الحب قوة جارفة، تمحو التناقضات مهما تفاقمت، وكذلك انطلاقاً من ثقة كبيرة بذاتها، تجعلها قادرةً على التأثير بحبيبها، وثنيه عن أفكاره السوداء، بل لعلها كانت تعتقد أن الحب أقوى وأكثر ثباتاً من الحرب، ليقينها بأن التطرف ليس نزعة متأصلة لدى حسن، بل ربما ساقته ظروف الحرب إلى الانخراط في جماعة ظلامية، وبالتالي فإن من شأن الحب إن أثمر وأينع، أن يُعيد حسن إلى جبلّته الأصلية، ولكن سيرورة الأحداث تفضي إلى عكس ما كانت تظن، فزواجها من حبيبها وإنجابها لطفلين منه، لم يزده إلّا عناداً وتشبثّاً بأفكاره، وكذلك حنانها ومشاعرها الفيّاضة تجاهه لم تستطع زحزحة صلفه وتماهيه مع جبروته وسواد أفكاره، إذ تكشف النقاشات المحتدمة بين ليلى وحسن على امتداد فترة زواجهما عن أنهما شخصيتان متناقضتان لا يمكن أن يتجانسا البتة، بل غالباً ما تنمّ حدة النقاش بينهما عن حرب فكرية ضروس، بين الحياة والعدم، فالتكوين الفكري والنفسي لليلى إنما هو نتاج الوعي التحرري ذي البعد الإنساني الذي أفرزته ثورات الربيع العربي، فهي تحب الحياة، وتحلم بمستقبل جميل لأطفالها وأسرتها، وتنشد وطناً جميلاً لا حروب فيه ولا دمار، بينما حسن الذي لا يفارق بندقيته إلا حين ينام، يحدثها عن الموت في سبيل العقيدة، وعن تحفّزه الدائم لمواجهة أعداء الأمة، ولا يتوانى عن وصيته المستمرة لها بأن تحافظ على أولاده بعد موته، فهو لا يتخيّل نفسه إلا ميتاً. ولعل نقاشهما المحتد والمستمر قد أفضى بليلى إلى مرحلة اليأس، وهنا يبدأ الحب بالانحلال، تاركاً نفس ليلى مرتعاً للخوف المتراكم مما هو آتٍ، يتكرر هذا الشعور بوضوح أثناء حديثها مع صديقتها روضة: (المشكلة في تشكّل عقيدة القتال والنصر في عقله الباطن، أفكار خيالية تستقر في نقطة الوعي، لدرجة تعشعش سواداً مثل كهوف الخفافيش، لستُ مقتنعةً بما يدعو إليه، ولو بحجم حبة رمل، لكن اندفاع مخيف لطموحه الشغوف يصم أذنيه عن استماع النصح، يرفض الرأي المخالف، ولا يتقبل سماعه) بل ربما استشرفت ليلى نهاية زواجها من حسن قبل أن تفجعها الوقائع: (تحجّر زواجنا وتقوقع داخل القسوة، غدا بيت الزوجية كالقشرة الخارجية الجوفاء التي تغطي جسد السلحفاة، وبنقرة خفيفة ستنكسر وينهال ما بداخلها). ص 110 – 111.

ينتهي حسن مقتولاً في إحدى قرى منبج نتيجة الحرب التي شنها التحالف الدولي على تنظيم داعش في صيف 2016، تاركاً لليلى طفلاً يدرج أمامها وآخر في بطنها، وفي محاولة منها لتجاوز محنتها، تقبل بالزواج من رجل آخر، بعد انقضاء مكوثها في العدّة، وذلك سعياً لوضع حدّ لما سيطالها من كلام الناس ونظرتهم إليها كأرملة ما تزال في مقتبل العمر، إلّا أن زواجها الثاني كان تعزيزاً لانكساراتها الأولى، فآثرت النكوص إلى ذاتها، لتكابد قسوة الحياة وحيدة، لا يلوح في وجهها سوى أخاديد حفرتها الهموم والأحزان.

كثيرة هي الأفكار التي حفلت بها الرواية، ولعلها تتزاحم من حيث الأهمية، إلّا أن هذا الحيّز من المقالة لا يتيح ذلك، إذ يجد القارىء كل أشكال الخراب الاجتماعي التي خلفتها الحرب في سرديات الرواية، فضلاً عن حضور متميّز لقضية المعتقلات السوريات وما يجري للمعتقلين من عذابات داخل السجون الأسدية (الفصل السابع ص 163 إلى 170).

يبقى التأكيد مهمّا على أن عمق الأفكار وجديتها في الرواية، إنما يكتسي أهميته أو مشروعيته الأدبية من قدرة فريدة لدى فريال العلي على المقاربة الإبداعية للحدث، فهي ليست مجرّد شاهدة على تعاقب أحداث عايشتها عن قرب فحسب، بل ما هو جدير بالتقدير هو أن التجربة الإبداعية لدى الكاتبة استطاعت إنتاج تلك الأحداث إنتاجاً جمالياً يتجاوز السرد التقريري والتعاطي المباشر مع الأفكار والأحداث، بل يمضي بنا إلى آفاق واسعة من الحيوية والجمال. ولئن كانت غاية هذه المقالة لا تذهب إلى أبعد من التعريف بالرواية، فمما لا شك فيه، أن الحديث عن جانبها الأدبي وعن بنائها الفني يستوجب كلاماً آخر.

 

1 – جدائل الصفصاف العطشى – فريال العلي – دار موزياييك للنشر – استانبول – 184 صفحة