أبو يعرب المرزوقي وإشكالية عمل الفيلسوف في الحياة السياسية

2022.06.04 | 06:37 دمشق

thumbs_b_c_bf9eac6b29f68987146bf8671cca4ec5.jpg
+A
حجم الخط
-A

التقيت بأبي يعرب المرزوقي عام 2005 بمكة المكرمة، في مؤتمر بحثي نظمته وزارة الحج، شارك في ذلك المؤتمر آنئذ عدد من المفكرين والباحثين العرب منهم: رضوان السيد، واحميدة النيفر، وتركي الربيعو، وأبو بكر باقادر، وعبد الجبار الرفاعي، إضافة إلى عدد من السياسيين من مثل رفيق عبد السلام الذي تولى وزارة الخارجية التونسية لاحقاً، وموفق الربيعي الذي كان وزيراً ومستشاراً أمنياً للحكومة العراقية.

وقد لفتني في أبي يعرب المرزوقي قدراتُه الحوارية العالية، وحضور شواهده، ولغته الفصحى، وانفتاحه على الجميع، ووضوح في الرؤيا، وعمق في التفكير، واستعماله لغة يقينية فيما يطرح من رؤى وأفكار في منطقة -بالنسبة لمفاهيمي على الأقل- نسبية، تقبلُ غير وجهة نظر، وكان يتعامل مع مقولاته بطريقة هندسية رياضية، تذكرني بلغة الأساتذة، وفيما بدا لي أنه منهم!

وكنت قد تعرفت إلى جوانب من أبي يعرب المرزوقي من قبل من خلال كتبه الصادرة بالاشتراك مع مؤلف آخر على شكل حواري، عن دار الفكر في سلسلة جميلة، أشرف عليها شخصياً محمد عدنان سالم رحمه الله الذي تُوفي قبل أسبوعين. كنت أرومُ من هذا النمط من الكتب التعلم والمعرفة لأنها تأخذنا إلى وجهين من وجوه الحوار وتعوِّدنا على ثقافة التنوع وتقليب وجهات النظر.

جلستُ مع الرجل، إبان ذلك المؤتمر، عدداً من الجلسات والسهرات برفقة ثلة من المفكرين والباحثين والسياسيين، وقد كان محورها يدور حول الفلسفة، والعقل، والفلسفة العربية والإغريقية، والفروق بينهما، وغالباً ما كان هو من يفتتح الأسئلة والنقاش، ويكاد يستحوذ على نصف الحديث، وهذا طبيعي بالنسبة لتجربته؛ فقد كانت بالنسبة لي جلسات مع معلم، وفيلسوف ومفكر، كنت في الخامسة والثلاثين أخط طريقي الفكري الجديد بعد إنهاء الدكتوراه والعمل في الجامعة، وكان الرجل على مشارف الستين وقد حدّد مسارات حياته واهتماماته، وطريقه. وكانت لغته الشفوية لا تختلف كثيراً عن لغته الفلسفية الصعبة المكتوبة، وميله لمناقشة المجردات، والمنطق، بشيء من الحدّة أحياناً، في حين كنت أميل إلى قراءة الفلسفة الاجتماعية وفلسفة الأخلاق.

حضرتُ تسجيل إحدى الحلقات التلفزيونية معه، فكان الرجل متحدثاً فياضاً، وهذا مألوف عادة من أستاذ جامعي، حتى إن الإعلامي الذي حاوره قال لي: نحن المذيعين نكون سعداء إنْ كان ضيفنا أستاذاً جامعياً؛ لأننا لن نُضطرَّ لجرّ الحديث من فمه، بقدر ما نحمل همّ إيقافه عن الكلام، مراعاة لأوقات البرامج أو إعطاء فرصة للضيوف الآخرين!

يحمل خطاب المرزوقي، عامة، وثوقية لافتة، وبعداً هندسياً ورياضياً حاداً في منطقة عمل سائلة، ويبدو أنه يتحدث عن يقين شيخ وداعية، وليست ثقة خطاب فلسفي أو تحليل سياسي يترك هامشاً للنسبية

المرزوقي أستاذ الفلسفة في الجامعة التونسية لمدة تزيد على الربع قرن، وهو خريج السوربون، ومتخصص بالفلسفة العربية واليونانية والألمانية، وانشغل بمحاولة التأسيس لفلسفة عربية معاصرة، باحثاً عن الأرضية الدينية للفلسفة بحيث يمدُّ الحبال مع الدين الإسلامي لاعتقاده أن المؤدى واحد، على المستوى النظري على الأقل، وإلا ستبقى الفلسفة تغرد في مجال آخر غير المجال الذي يجب أن تكون فيه، وهي تأطير حياة الناس، والبحث عن أسسها وأسئلتها واستراتيجياتها، والرغبة بإبراز المشتركات بين الفكر الإسلامي، والفكر الإنساني تاريخياً وبنيوياً، وبغض النظر عن الاتفاق معه أو لا، يُسَجّل للرجل من موقعه أنه كان يرى مشتركات وأسساً فلسفية يمكن الإفادة منها والتعويل عليها، ويحمل خطاب المرزوقي، عامة، وثوقية لافتة، وبعداً هندسياً ورياضياً حاداً في منطقة عمل سائلة، ويبدو أنه يتحدث عن يقين شيخ وداعية، وليست ثقة خطاب فلسفي أو تحليل سياسي يترك هامشاً للنسبية، وقد كان في جوانب عدة من مشروعه الفلسفي يغرد خارج حركة الفكر الفلسفي المعاصر، كما يرى باحثون لا يتفقون مع رؤيته ونظريته، التي حاول إبرازها في كتب عدة منها: إبستمولوجيا أرسطو أو منزلة الرياضيات في الخطاب العلمي الأرسطي- الاجتماع النظري الخلدوني والتاريخ العربي المعاصر - إصلاح العقل في الفلسفة العربية: من واقعية أرسطو وأفلاطون إلى اسمية ابن تيمية وابن خلدون - وحدة الفكرين الديني والفلسفي - النظر والعمل والمأزق الحضاري العربي والإسلامي الراهن - آفاق النهضة العربية ومستقبل الإنسان في مهب العولمة - استئناف العرب لتاريخهم الكوني (ثورة الحرية و الكرامة : تونس نموذجاً).

لم يلقَ منهج أبو يعرب المرزوقي هذا كثيرا من الترحيب في المشهد الفلسفي العربي، بل إن كثيرين رأوا فيه أنه يحاول فتح مجالات فلسفية للإسلام السياسي، وما ساعدهم على استسهال هذه القراءة أنه ترشح على قوائم النهضة أو بمباركة منها في أول انتخابات تونسية للمجلس الوطني التأسيسي بعد الثورة عام 2011، بيدَ أن المرزوقي حين وجد أن السلطة مرامُ حزب النهضة وليسJ مصلحة العامة لم يتردد في الاستقالة عام 2013 وقد وجه خطاباً قال فيه إنها بهذه الطريقة تُظهِرُ أن الحركات الإسلامية ليست ساعية إلى الإصلاح، بقدر ما هي ساعية سعيَ من تقدم عليها، إلى التحكم، ومن ثم فلا يحق لها الكلام عن الإصلاح فضلاً عن قيم الإسلام. وبهذا المعنى فإن الإكثار من الكلام بمبتذلات الخطاب الديني.. يصبح مجرد استغفال للشعب لأن الأعمال المخالفة للأقوال ليس أدل منها على النفاق، ولو كنتُ أعلم ذلك قبل المشاركة بصفتي مستشاراً، وأن تعييني كان من باب الترضية، لَنأيت بنفسي عن المشاركة.

وجد المرزوقي، كما فعل عدد من المفكرين العرب، أن من واجبه ألا يقف جانباً إبان هذا التحول الفكري والاجتماعي الثوري الذي تمر به تونس والدول العربية، بل إن عليه أن يدخل في المطبخ السياسي، وهو مطبخ حراق للمفكر، الذي لا تصلح أدواته غالباً لمكر السياسة ودهائها ومصلحيتها وزئبقيتها، وبُعدها غالباً عن أخلاقيات الفيلسوف أو طريقة تفكيره، لذلك ها هو يدفع اليوم ثمن دهاليز السياسة ومطاطيتها ويتعرض لمحنة التحقيق من قبل العسكر بحجج واهية. وقد أعلن الرجل موقفه بصوت جهير منذ سنوات، ودعا إلى محاكمة قيس سعيد لمخالفته الدستور التونسي دون استئذان الشعب منذ أكثر من ثلاث سنوات، وأطلق عليه لقب الرئيس الدمية، وأنه لا يعبر عن آمال التونسيين، ويرى أن إيران وفرنسا وعدداً من دول الخليج لها مصلحة في "لبْننة" تونس عبر ذلك الرئيس المتعطش للاستبداد كما يرى المرزوقي.

ووفقاً لأحد محاميه فإن استجوابه جاء بسبب “5 شكايات مقدمة من محاميتين في رئاسة الجمهورية على خلفية 5 تدوينات مؤرخة في 9 فبراير/شباط و23 يونيو/حزيران و31 يوليو/تموز و26 أكتوبر/تشرين الأول 2020”. حيث يرى محامو الرئيس أن التدوينات تتضمن “عبارات وألفاظاً تمس هيبة الدولة التونسية، وفيها إساءة كبيرة وتهجم واضح على القائد الأعلى للقوات المسلحة في شخص رئيس الجمهورية قيس سعيّد، وتم توجيه الشكايات للقضاء العسكري بتهمة التآمر على أمن الدولة وتحقير القائد الأعلى للقوات المسلحة وإحداث البلبلة بالأوساط الاجتماعية والسياسية".

مؤدَّى المستبدين في التعامل مع الأصوات المعارضة واحد، إذ إنَّ لديهم استعداداً لتغييب كل من يخالفهم، أو يعلن أن لديه رؤية خاصة به

ليست هذه الاتهامات الموجهة للمرزوقي بجديدة على الشعوب العربية، فالأنظمة الاستبدادية والمستبدون يتخذون من القانون مظلة لهم لقمع معارضيهم والمخالفين لهم، ولعلنا نتذكر في هذا السياق اعتقال كل من عبد المنعم أبو الفتوح وعلاء عبد الفتاح في مصر مثلاً، في حين يتفرد نظام الأسد في سوريا بأنه لا يأبه بكل القوانين، بل يجعل المخابرات هي صاحبة السلطة في بلد قانون الطوارئ، غير أنَّ مؤدَّى المستبدين في التعامل مع الأصوات المعارضة واحد، إذ إنَّ لديهم استعداداً لتغييب كل من يخالفهم، أو يعلن أن لديه رؤية خاصة به.

وقد أطلق أكثر من مئة مثقف عربي، كثيرٌ منهم يحمل توجهاً فكرياً مختلفاً عن المرزوقي، بياناً نُشِرَ عبر الفيسبوك ضد محاكمته، لكون ذلك الإجراء غير دستوري ومخالفاً لحرية التعبير، ووفقاً للبيان فإنَّ الرئيس التونسي قد حلّ المجلس النيابي وعطَّل دوره، وفوّض نفسه بالسلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية وها هو ينتقل في خطوة قمعية جديدة إلى المفكرين والكتاب وأصحاب الرأي الآخر محاولاً منعهم من التعبير عن آرائهم وأفكارهم.

ليست هذه هي المعركة الأولى التي يخوضها المرزوقي دفاعاً عن قناعاته، وهو الذي يعدّ نفسه أحد المدافعين عن الفلسفة الإسلامية "السنية" الجدلية معتمداً على الأشعرية الخلدونية في وجه الفلسفة الغيبية، التي تحاول إيران إشاعتها من خلال تقديس الحاكم أو الإمام والانصياع له لفرض فلسفتها ونمطها، غير آبه بمن يرى في مشروعه أنه متهافت ولا يصمد أمام الجدل والمناقشة، خاصة في سياقات تحليله ودفاعه عن شخصيات إشكالية مثل ابن تيمية، الذي أنتج أفكاراً كانت وقائعها مؤلمة في الواقع، واتُخِذَتْ فتاواه حجة لوقوع ظلم كثير على شرائح بشرية عدة.

إنَّ محاولة تكميم صوت المرزوقي أو أفكاره، بحجج عادة ما تستعملها الأنظمة المستبدة غيرُ مقبول، ويستدعي من المثقفين العرب والمنظمات المعنية إشهار صوت الإدانة والرفض لتلك الخطوات القمعية.