أبو صطيف.. الثائر والفنان عندما واجه العاصفة

2019.11.08 | 14:24 دمشق

10628431_10154739812065727_798654090333877835_n.jpg
+A
حجم الخط
-A

كان الوقت السادسة صباحاً من فجر أحد أيام شهر آب الصيفية من العام 2013، عندما اقتحم عبد الوهاب الملا مكتبنا في حي طريق الباب بحلب وهو يحمل بيديه أكياس الفول والفلافل ويرتدي زيه الحلبي التقليدي، الطاقية (العرقية) القمباز الموشّى بالقصب، وزناراً خمرياً معرّقاً بالأسود، والشروال و"الصرماية" الحمراء الحلبية الشهيرة، ليصدح بأعلى صوته في فضاء البيت النائم:

"وإذا ما الدهرُ بنا دارَ ومضيتُ إلى حيث أوارى،

أكمل من بعدي المشوارَ لا تخلف ميعادَ الفجرِ..

يا ولدي..

لن يسقي دمعٌ أشجارك لن تبني بالآه جدارك

اصرخ بالخوفِ إذا زارك لا تخشى النار من الجمر"

كان يغني من كل قلبه وكأنه على مسرح وبنفس الوقت كان ينكز النائمين ليستيقظوا.

لم يكن حماس عبد الوهاب لأغاني الشيخ إمام واهتمامه بها إلا حديثاً وبعد انخراطه في الثورة السورية التي ترك بلاد المملكة العربية السعودية ليعود ويشارك بها قبل أن تنهي حياته طيور الظلام (داعش) في السابع من تشرين الثاني من العام 2013.

جميع من كانوا في المناطق المحررة آنذاك يعرفون أبو صطيف، ويعرفون لسانه السليط، ويحفظون عن ظهر قلب مونولوجاته التي كان يؤلف معظمها بنفسه قبل أن يشدني من كسلي ويدفعني لأكتب له عدداً من الأغاني السياسية التي غناها في المظاهرات وسجلنا بعضها بطريقة بدائية.

أعترف أنه ما من أحد استطاع أن يشحر ما بداخلي أدباً أو فناً كما فعل أبو صطيف، فالرجل يمتلك موهبة خاصة في الاستماع، ويمتلئ بالحماس حد الفيضان، وتفيض روحه بالطاقة، ويتمتع بذاكرة متقّدة وحسّ فكاهي عالٍ وسرعة بديهة رغم أنه لم يكن قد أكمل تعليمه الثانوي حتى، إلا أنه كان يفاجئني يومياً بمعلومة أو كتاب أو موسوعة ذكرها أحدهم أمامه فسارع لاقتنائها وقراءتها.

فمثلاً شاهد بيدي مرة كتاب "رزنامة حلب" للكاتب والشاعر الحلبي الضرير سمير طحان، كان الأخير أهداني هذه النسخة في مطلع العام 2010، وجن جنون عبد الوهاب عندما طالع ما بداخل الكتاب، الذي كان يروي حكايات شعبية من يوميات حلب، وعندما رأيت اهتمامه الكبير بالأمر، قلت له "إن كنت تحب هذا النمط فهناك موسوعة خير الدين الأسدي التي تزخر بهذا اللون من اليوميات الشعبية في حلب إضافة لجمع الأسدي فيها للأمثال والنكات..الخ" لمعت عينا عبد الوهاب عند تلك الجملة، وفي اليوم التالي جائني وقد بدا عليه السهر وكان واضحاً أنه لم ينم وعندما عاجلته بالسؤال "ليش مو نايم" فرد بتثاؤب "جبت موسوعة الأسدي وقريت منها 200 صفحة"، صعقت يومها وقلت له "إيمتا لحقت جبتا؟" فأجاب "من الإنترنت".

يذهلك عبد الوهاب دائماً بعجينته المرنة في كل شيء، فهو ناشط ثوري لا يساوم، وحالم بوطن لجميع السوريين، ونابذ للطائفية بكل معانيها، ويستطيع بصيحة واحدة أن يحشد تظاهرة.

يذهلك عبد الوهاب دائماً بعجينته المرنة في كل شيء، فهو ناشط ثوري لا يساوم، وحالم بوطن لجميع السوريين، ونابذ للطائفية بكل معانيها، ويستطيع بصيحة واحدة أن يحشد تظاهرة حتى إن كان في مجلس عزاء، ومغنٍ ومنولوجيست قل نظيره وممثل وفنان، كان عبد الوهاب انسيكلوبيديا متحركة، ولكن كانت هناك عيون في الخارج تراقب كل شيء وتتعقّب نشاطه.

كنا ثلاثة في مكتب مستأجر من أحد أحياء "طريق الباب" بحلب جميعنا صحفيون، أنا ورأفت الرفاعي ومصور وكالة رويترز مظفر سلمان، قبل أن يطلّ عبد الوهاب ويصعق لوجود آلة موسيقية في المكتب هي عودي الوحيد، ابتهج أبو صطيف كطفل صغير وبات يقضي ساعات وساعات معي ويصدح بصوته الجهور ليملأ المكان ليلاً ونهاراً، لتصبح زيارته للمكتب شبه يومية.

لم أكن عازفاً محترفاً فقد كنت أعزف "على قدي" كما يقولون لكن حماسة أبو صطيف والطاقة السحرية التي كان يكتنزها دفعتني لأجرؤ على اجتراح لحن لأغنية وأن أتعدى على المهنة لعدم وجود ملحنين في المدينة في ذلك الوقت فكانت أغنيتنا الاولى "عوجا وما إلها جارة" لتنهال الطقطوقات بعدها تباعاً "بالعربي مارح نسكت"، و "لا مسيرة ولا تأييد" و"ما كان العشم تبيع ثورتك"، وأخيراً "باص جنيف" التي تزامنت مع مؤتمر جنيف2 والتي حققت انتشاراً كبيراً فيما بعد.

ذهلتُ لاحقاً لأن أبو صطيف رغم وقته الطويل نسبياً الذي يقضيه معي، كان يقضي وقتاً موازياً تماماً في أماكن أخرى، فقد صور برنامجه ثورة 3 نجوم في تلك الفترة، وأيضاً كان يزور الريف الحلبي، وكان متطوعاً في منظمة إغاثية، وأخيراً كان صاحب فكرة إعادة إحياء حديقة السكّري جعل افتتاحها بعرض مسرحي يقدمه الأطفال.

لا أنسى يومها عندما دخل علي وفي عينيه نظرات رجاء وتوسّل كي أقوم بتسجيل موسيقا تصويرية لعرض الافتتاح بعد أن قمت بالاعتذار عن مساعدته في العرض بسبب انشغالاتي، وعندما وافقت قفز من مكان وقبلني قبلة رعناء ضحكنا عليها طويلاً، لكن ضحكته الأضخم كانت عندما عاد من البروفا وكانت عيناه تفيضان بالسعادة إذ أخبرني "لو تشوف الأطفال شقد انبسطوا على الموسيقا"، عندها أحسست أن أبو صطيف أشركني رغماً عني بعمل سامٍ جعلني أفخر به، واندم على اعتذاري عن المشاركة في البداية.

حضور أبو صطيف العالي في الوسط الحلبي وقدرته على تحريك المشاعر بسهولة كانت نعمة ونقمة بنفس الوقت، فهو بالنسبة لتنظيم الدولة خطر حقيقي خاصة بعدما خاض بمسألة الخلافة الإسلامية في إحدى حلقات برنامجه "ثورة 3 نجوم" وأطلق صيحته المدوّية "الخلافة بدا نضافة" التي حوّلتها لاحقاً إلى أغنية سجلها عبد الوهاب بصوته ولم يتسنَّ لي أن أنشرها خوفاً على حياته.

وفي ليلة السابع من تشرين الثاني/ نوفمبر طرق غربان الظلام الباب على أبو صطيف في بيته بمنطقة "مساكن هنانو" ليقتادوه إلى المجهول، ليفيق رفاقه في اليوم التالي على فاجعة عنوانها "اختطاف أبو صطيف".

غاب أبو صطيف صاحب مقولة "هلا بلد مني ومنك وبإيدينا منبنيها" مقولة تبناها عبد الوهاب منهجاً في كل مفاصل حياته، غاب صوت حرّ يبدو ألا مكان له اليوم وفي هذا الزمن الذي ارتهنت فيه الأصوات جميعاً، غاب الذي ما انفك يردّد "والله لنكيّف".

انكسر الباسق الذي أراد مواجهة العاصفة في وقت كانت كلّ الرقاب تنحني أمامها، ليس لأنه ضعيف بل لأنه كان مفرداً، عارٍ من كل سلاح إلا صوته فضّل أن يدفع حياته ثمناً مقابل أن يقول "لا".

تمهيد متأخر

كنا قد اشترينا بعض المعدات البدائية المستعملة لنقوم بتسجيل الأغاني وتزامن ذلك مع فترة كانت تشهد قتلاً واختطافاً للإعلاميين في حلب على تنظيم الدولة، ولا أدري أية مصادفة دفعت عبد الوهاب ليقوم بتسجيل صوتي ألمح فيه إلى أنه سيلاقي نفس المصير الذي لاقاه الإعلاميون من قبله على يد تنظيم الدولة.