آن الأوان أن نصرخ عالياً..

2020.12.14 | 23:04 دمشق

1607772765.jpg
+A
حجم الخط
-A

حصل أن أفشى لي كثير من الزميلات والزملاء بسر مفاده أنهم لن ينصحوا  أطفالهم أبدا بدخول عالم السلطة الرابعة كصحفيين، وهذا  في الحقيقة ما أدهشني بادئ الأمر فذلك بالنسبة لي ولعديد غيري،  لم يكن مفهوما، لا سيما  أن دور  الصحافة والعمل الصحفي  جوهري في أي اجتماع سياسي، وغياب الصحافة عن مجتمع ما يشكل في الواقع إخلالا جديا بوجوده وتوازنه، وكما أن السلطات الثلاث تشكل معا شرطا محددا لانتظام مجتمع وتعيين وجوده في دولة، كذا هي الصحافة تجسد السلطة الرابعة فيه، تلك التي تمكنه من النظر لنفسه ومعايرة مشكلاته وتصويبها، حيث يرتكس دونها ويفقد مقومات تطوره وقد يتهدد وجوده برمته .

حجم المخاطر يزداد ويتضاعف إلى الحد الذي تصبح فيه وجودية الطابع في بلاد كبلادنا تعيش واقعا صعبا ومعقدا، متداخلا وانفجاريا

لكن بعد تأنٍ وتفكير أدركت أن لهذه النصيحة أسبابها المتعلقة بمتاعبها المتوالدة والمتكاثرة، وبتحديات ومعيقات تزداد باطّراد وكثافة حينما يعترض العمل الصحفي مخاطر ذات خلفيات سياسية أو ثقافية، ناهيك عن ما تتطلبه مهنة الصحافة ويحتاج إليه الصحفي من توافر ملكات ومقومات شخصية صعبة ومنهكة تمكنه من أن يكون متجردا وموضوعيا، فالواقع الذي يعنى الصحفي بتصويره وإظهاره صعبٌ ولا يقدم نفسه بسهولة، ومهما يبذل من جهد وعمل استقصائي مهني وعلمي تظل منظوراته ذاتية في بعض أوجهها، وبهذا المعنى  يظل عمل الصحفي وفقا للتقديم أعلاه محفوفا بمخاطر ومحكوما بإشكاليات مادية ومعنوية كثيرة، وبالعودة إلى النصيحة التي ابتدأت فيها هذه السطور، من منا يريد لمن يحب أن يعيش في خضم معاناة كهذه؟ 

إلا أن حجم المخاطر تزداد وتتضاعف إلى الحد الذي تصبح فيه وجودية الطابع في بلاد كبلادنا تعيش واقعا صعبا ومعقدا، متداخلا وانفجاريا. ورغم أن هذا النوع الوجودي من المخاطر كانت قد عانت منه الصحافة في أرجاء مختلفة من العالم بما في ذلك دول عظمى كروسيا وأوروبية كمالطا وسلوفاكيا بما قد يشكل صدمة للوهلة الأولى إلا أن ما يعانيه الباحثون عن الحقيقة في مختلف أرجاء العالم يواجه أضعافه زملاؤهم السوريون، فالصحفي السوري يواجه حربا ممنهجة عليه، حربا هي القاعدة وليست الاستثناء، وما اغتيال الزميل الصحفي حسين خطاب أثناء عمله يوم 12 كانون الأول بخمس رصاصات أنهت حياته إلا مثال حيٌّ وحارٌّ على ما تعانيه الصحافة ويواجهه الصحفي من مخاطر وجودية مستمرة ومتزايدة يوما إثر يوم في بلدنا، والحقيقة أن الشيء المريع في حادثة اغتيال الزميل حسين هو الاستخفاف إلى حد التواطؤ من قبل الشرطة التي لم تفعل شيئا مع شكوى الزميل الراحل التي رفعها على من يهدده بالقتل سابقا ومن عدم القبض على الجناة لاحقا، وهو ما يبعث على الشعور بأن هذا الاعتداء الإجرامي وما قبله وما سيأتي بعده إنما يرتكز على سياسة ممنهجة ترمي إلى كم الأفواه ومحاربة الحقيقة واغتيال الشفافية وكسر كل مرايا الواقع وأدوات المجتمع في دفاعه عن حقوقه وحياته وكرامته.

وللأسف ومن موقعي كصحفي وفي سياق تعليقي على حادثة اغتيال الزميل حسين، أقول إنه لدي شعور قوي بأنه ما لم ندفع ونضغط باتخاذ خطوات جذرية وجادة لمنع هذا الإجرام ضد الحقيقة والحياة والمستقبل في بلدنا فإن هذه الجريمة لن تكون الأخيرة التي نفقد فيها زميلا أو زميلة لنا، فقد تكررت حواث الاغتيال التي تستهدف الصحفيين عشرات المرات في السنوات الأخيرة.

آن الأوان لوقف الفوضى في الشمال السوري وآن الأوان لكي تخرج الأغلبية الصامتة عن صمتها

إن هذه الجريمة التي لم تحدث في مناطق سيطرة النظام وإنما في مناطق تسيطر عليها قوات من المفترض أنها معارضة للاستبداد، قوات كان يجب أن تتحمل مسؤوليتها وتقوم بواجبها في حماية الصحفيبن وخاصة أن الزميل الراحل كان قد أشار في منشور له على الفيسبوك إلى تهديدات خطيرة واشتكى أكثر من مرة لدى الشرطة المحلية دون أدنى فائدة، هي وصمة عار إضافية على أداء الطرف الذي يدعي أنه خرج دفاعا عن قيم الحرية والكرامة، وإن المراقب والمعني بما يحصل في مناطق سيطرة هذه القوات لن يرى ثمة سيناريوهات لتشرح ما حصل  إلا اثنين، فإما أن هذه القوات متواطئة واقعيا بالمعنى الموضوعي مع القتلة، أو أن هذه القوات غير معنية أو غير قادرة على القيام بواجبها كطرف يقوم بمهام الإدارة والسلطة وهو ما قد  تدل عليه وتؤشر عليه بقوة كثرة التفجيرات وعمليات الاختطاف وانتشار السلاح في كل مكان واستخدامه دون قيد أو ضبط أو شرط. و في كلتا الحالتين لا نكون إلا إزاء سلطة تفقد شرعيتها ومحلها وضرورة وجودها كله، لذا آن الأوان بتقديري أن تأخذ منظمات المجتمع المدني دورها وأن تصرخ معنا في وجه كل استهتار بحياة الناس، وضد حالات القتل والاختطاف والاحتجاز بحق المدنيين السوريين العزل التي تحصل كل يوم .

آن الأوان لوقف الفوضى في الشمال السوري وآن الأوان لكي تخرج الأغلبية الصامتة عن صمتها لأننا إذا تساهلنا مع القتلة فستكون حياة آخرين رخيصة، وكما انتهت حياة زميلنا حسين بهذه الصورة المأساوية والإجرامية، قد تنتهي حياة المزيد والمزيد من زملائنا الصحفيين.

يجب علينا ملاحقة المجرمين كي يمثلوا أمام قضاء عادل وينالوا قصاصهم.

ويجب على كل من يعتبر نفسه معارضا لنظام القتل والاستبداد في دمشق أن يرفع صوته في وجه هذا الإجرام بحق المدنيين.

إذا لم نصرخ الآن وعلى الفور ونعلن عن تضامننا قولا وفعلا مع ضحايا العنف في سوريا فلن نكون قد كسبنا شيئا من ثورة الحرية والكرامة التي راح ضحيتها مئات الآلاف من السوريات والسوريين.