«حلب العلَوية»

2020.04.27 | 00:01 دمشق

6e2e620f17cfa474c451cb8b.jpg
+A
حجم الخط
-A

يوم الجمعة الفائت، 24 نيسان، مرت الذكرى المفترضة لمجزرة التلل. هل هذا التاريخ خاطئ؟ نعم، ولكن ذلك أبسط معالم زيف هذه القصة.

تقول الرواية، التي تعد أحد أبرز ركائز المظلومية العلوية: إن القوات العثمانية، المتقدمة في سورية، أقدمت على مذبحة في حق أهالي مدينة حلب إثر انتزاعها من يد المماليك في معركة مرج دابق. وأن هؤلاء السكان من العلويين المتبقين من عهد الحمدانيين. وقد قتل منهم أربعون ألفاً، أو تسعون، وصولاً إلى مائتي ألف، من الرجال والنساء والأطفال والشيوخ وعلماء الطائفة، جُمعت جماجمهم فصنعت تلالاً أعطت حي (سوق حالياً) التلل المعروف اسمه. المسؤول المفترض عن هذه المجزرة هو السلطان العثماني سليم الأول، بالاستناد إلى فتوى ابن تيمية الشهيرة ضد العلويين، وقد أعاد إنتاجها في تلك الأيام من يطلقون عليه اسم «الشيخ نوح الحنفي الدمشقي». أفضت إلى هروب من نجا إلى الساحل، وتسنّن من تبقى، وانتهاء دور حلب كحاضرة علوية منذ نشأة المذهب واستيطان الخصيبي فيها. الدليل الشائع ذكره عند الحديث عن هذه المجزرة هو رسالة مزعومة وجّهها قائد الحملة العثمانية لمولاه السلطان سليم، يدّعي رواة القصة أنها محفوظة في «مكتبة ستراسبورغ الوطنية الجامعية الفرنسية، قسم المخطوطات العربية». ودون أن يقدّم أحدهم صورة لها فإننا يجب أن نصدق وجودها بسبب ما يتداولونه من افتتاحيتها الركيكة: «تحيات إجلال مقامات: تنفيذاً لأوامر سعادات، فقد تم تنفيذ القرارات والتوصيات»!!

في كتابه المهم المترجم حديثاً، «تاريخ العلويين من حلب القرون الوسطى إلى الجمهورية التركية«، يحاجج ستيفان وينتر ضد هذه المجزرة المزعومة رغم دورها المفصلي في تشكيل مخيال الهوية الجمعية العلوية. فإن أياً من كتب التاريخ العربية أو العثمانية لم يذكرها، بل قوبل العثمانيون بالترحاب من السكان الذين لم يكونوا علويين، على كل حال، بعد خمسة قرون على سقوط إمارة الحمدانيين الذين كانوا شيعة «بشكل من الأشكال» غير واضح المعالم. وقد أتاح بلاط أميرهم سيف الدولة لعلماء الإمامية، بمدارسها المختلفة، الحضور والتأثير. وكان بين هؤلاء حسين بن حمدان الخصيبي، أحد أبرز دعاة الجماعة العلوية ومؤسسيها. دون أن يعني هذا أن الحمدانيين صاروا علويين، فضلاً عن تحول السكان إلى هذا المذهب ومحافظتهم عليه خلال تلك المدة الساحقة التي حكم فيها الزنكيون والأيوبيون. ناهيك عن أن الشيخ نوح، الذي تنسب إليه الطبعة الجديدة من فتوى ابن تيمية لاستباحة دماء العلويين، شخص غير موجود خارج هذه القصة ولا تذكره كتب التراجم. وأخيراً فإن ابن تيمية لم يكن، في ذلك الزمان، مرجعاً جليلاً كما سترسّخه الدعوة السلفية (الوهابية) والحروب الشرق أوسطية لاحقاً. وخاصة لدى السلطان سليم الذي عُرف بتشييد جامع المتصوف الشهير محيي الدين ابن عربي بدمشق، لا بالميل إلى ابن تيمية الحنبلي.

ستحضر سردية «اضطهاد العلويين» واعتزالهم في «الملاذ الجبلي» خلال «الحكم السنّي القروسطي» بتأثير «متلازمة ابن تيمية»؛ كلما احتاجت صراعات راهنة إلى تبرير نفسها بعمق تاريخي مزعوم. وهو ما يفسّر عودة حكاية «مجزرة التلل» إلى الانتشار مجدداً، والدور الذي لعبته في إثارة الذعر وتغذية الأعمال العسكرية، إلى درجة ذكرها في «مجلس الشعب» السوري منذ شهرين، في إطار العداء للعثمانيين ووريثهم المفترض، الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. وفي سياق ترسيخ «نصر حلب» الذي أسفر عن سيطرة قوات النظام على مساحات واسعة من المحافظة، مستكملة ما سبق أن أنجزته باحتلال القسم المحرر من أحياء المدينة في أواخر 2016، عندما حرص العميد سهيل حسن (النمر)، القائد الشهير في قوات الأسد، على التقاط صورة ظفر تذكارية له عند ضريح الخصيبي والإيعاز ببدء ترميمه فوراً.

01سهيل حسن أمام مقام الخصيبي.jpg
سهيل حسن أمام مقام الخصيبي

 

02المقام بعد الترميم.jpg
المقام بعد الترميم

غير أن الحملة الأخيرة لقوات النظام منذ أشهر كشفت عن حكاية أخرى كانت تقبع في الظل المحلي، حين أقدم شبّيح منتصر على إهانة مقدسات الثوار المهزومين في كفر داعل، لينفتح الباب على قصة عمرها أكثر من نصف قرن، هي حكاية تبشير علوي أنتج عشرات آلاف ممن يعرفون بوصف «النصوحيين».

وفق وثيقة كتبها أحد البارزين من هذه الجماعة فإن الشيخ حسن ديب حجل (ت 1976 م) استجاب لرؤيا تدعوه إلى مغادرة قريته المِجْوِة قرب مصياف والسفر إلى ريف حلب في أربعينيات القرن العشرين. بعد استشارة مشايخه، الذين سينصحونه بتلبية النداء، سيرحل للإقامة في قرية النيرب قرب المطار، وسيعرّف عن نفسه كشيخ قادم من حماة باسم حسن نصّوح. وسيستغل الأجواء الرمزية الصوفية لبث دعوته بشكل سرّي حتى اعتنقها عدد من الرجال الذين سيصبحون، مع مرور السنين، رؤوس عائلات كبيرة بحكم السلالة. وهكذا سيغدو حوالي نصف أهالي كفر داعل وخان العسل من العلويين، بالإضافة إلى نسبة ملحوظة من سكان قرية المالكية قرب النيرب، وبعض عائلات قريتي القراصي وعبطين جنوب حلب، وسلقين في إدلب، وأماكن أخرى.

03.jpeg

 

04.jpeg

مع تزايد الأعداد سيفصح المعتنقون الجدد عن مذهبهم حيثما قويت شوكتهم، ولا سيما بعد وصول حافظ الأسد إلى السلطة وشملهم بحمايته. وسيسافرون دورياً إلى مناطق الكثافة العلوية في الوسط والساحل للتبرك بالمزارات ولقاء المشايخ. ورغم الشرخ الاجتماعي الحاصل في قرى ريف حلب هذه لن يحدث عداء سياسي كبير بين أبنائها طالما لم ينخرط علويوها بشكل كثيف في أجهزة الأمن والجيش، مكتفين بمناصب مناطقية متوسطة. غير أن كل شيء سيتغير بعد قيام الثورة، عندما وزّع النظام البنادق الروسية على عدد من الشبان، المنتقين طائفياً، لقمع الاحتجاجات التي سرعان ما ستنحو إلى التسلّح أيضاً.

ففي كفر داعل، كمثال مركّز، جرى توزيع 150 بارودة ستصبح من نصيب الثوار الذين أحاطوا ببيوت من استلموها في ليلة واحدة مباغتة واستولوا عليها، لتكون تلك خطوة فارقة في نشوء المجموعة المحلية لحركة معارضة ذات اسم دال سنّياً، هو «نور الدين الزنكي»، ويبدأ التهجير والتهجير المضاد.