تنظيم حزب الله الكردي في تركيا.. الظهور والتأسيس 1

2020.05.18 | 00:00 دمشق

5abadc2ef2eec0d5e17d.jpg
+A
حجم الخط
-A

(الجزء الأول)

ظهر حزب الله النسخة التركية أو الكردية التركية -كون أغلب منتسبيه من الأكراد في تركيا- في مطلع ثمانينات القرن الماضي، ليكون أحد أكثر الأطراف غموضاً أثناء فترة الفوضى والنزاع المسلح الداخلي في تركيا، التي امتدت بشكل رئيسي مع بداية الثمانينات واستمرت حتى أواخر التسعينات خلال القرن العشرين.

واتخذت تلك الفترة في تركيا أشكالاً عديدة من الصراعات المسلحة مثل الصراع بين اليمين واليسار أو الصراع الكردي-التركي والكردي-الكردي هذا بالإضافة للعديد من الصراعات الفرعية والمتشابكة.

يسلط هذا المقال الضوء على حكاية حزب الله "التركي"، أحد أبرز اللاعبين -بطبيعته الهجينة المبنية على التناقضات- في تلك المرحلة الحساسة والشائكة قي تاريخ تركيا والمنطقة، لاعتباره عنصراً مهماً في فهم تلك المرحلة، بالإضافة لكونه -ربما- المغامرة الأكثر جرأة لأجهزة استخبارات الثورة الإسلامية الإيرانية، كتنظيم مبني على حاضنة سنية-كردية بشكل رئيسي.

الظهور:

بعد نجاح الثورة الإسلامية الإيرانية بقيادة روح الله الخميني عام 1979، افتُتِحت عشرات دور النشر التي تعرض كتباً تروّج لأفكار ثورة الخميني في عموم المنطقة. لم تكن تركيا مستثناة مما سبق، حيث افتُتِح العديد من دور النشر تلك في مدنها الرئيسية مثل إسطنبول وأنقرة ودياربكر. وخلال فترة قصيرة، وفي بداية الثمانينات بدأت دور النشر التي تركّز على نشر أفكار ثورة الخميني تتحول لمراكز فكرية لها مريدوها وأتباعها وذلك بمدينة ديار بكر ذات الأغلبية الكردية في جنوب شرقي تركيا بشكل رئيسي، تتبعها من حيث الزخم، مدينة بتمان المجاورة، مع تواجد محدود في عموم المناطق التركية ذات الطابع الإسلامي.

بعد نجاح الثورة الإسلامية الإيرانية بقيادة روح الله الخميني عام 1979، افتُتِحت عشرات دور النشر التي تعرض كتباً تروّج لأفكار ثورة الخميني في عموم المنطقة

وارتبط اسم دار "وحدة" للنشر الواقع في مدينة دياربكر بالمحاولات الأولى لتأسيس كيان فكري شعبوي داعم ومؤيد للثورة الإسلامية الإيرانية داخل الحدود التركية، وذلك لكونه السباق في تنظيم الحلقات والدروس الدورية للمهتمين. لكن الانتشار الحقيقي كان على يد دار "منزل" للنشر المؤسس في مدينة دياربكر أيضاً في عام 1981 على يد "فدان غونعور-Fidan Güngör" وأصحابه.

 

فدان.jpg
"فدان غونعور-Fidan Güngör"- مؤسس دار "منزل" للنشر

 

اعتُبر اتباع "منزل" -الذي تحول من دار نشر لما يمكن أن يسمى بمدرسة تنظيمية فكرية- أقرب للتيار المعتدل في الثورة الإسلامية الإيرانية، والذي ركّز جلّ اهتمامه للنشاطات الدعوية، بعيداً عن الصراعات المسلحة. وتم تجاوز عائق الاختلاف المذهبي بين جل أعضاء "منزل" المتمثل بالإسلام السني وبين المدرسة الأم في طهران والمتمثلة في الإسلام الشيعي الجعفري، برفضهم مفهوم المذاهب ودعوتهم لتوحيد المذهب السني والمذهب الشيعي الجعفري، مع عدم ممانعتهم على ممارسة بعض شعائر وعادات المذهب الشيعي الجعفري.

ومع انتشار اتباع "منزل" وتوسعهم بشكل رئيسي في المنطقة الجنوبية الشرقية في تركيا، وخصوصاً دياربكر، بدأت تيارات أكثر تطرفاً تظهر في تنظيمهم، ربما طمعاً في لعب دور أكبر خلال تلك المرحلة العنيفة، وبدعم من التيارات الأكثر راديكالية في إيران. لينشق في عام 1983 مجموعة من أعضاء تنظيم حزب الله الفكري في تركيا- مدرسة "منزل" وليسعوا لتشكيل مدرسة جديدة بافتتاح دار "علم" للنشر في مدينة دياربكر وذلك بقيادة خريج العلوم السياسية من جامعة أنقرة "حسين ولي أوغلو".

 

حسين.jpg
"حسين ولي أوغلو"،مؤسس دار "علم" للنشر

 

ستنجح محاولة "حسين ولي أوغلو" بعد عدة سنوات، وسيكون الحامل الوحيد لراية حزب الله التركي-الكردي لسنوات، والمؤسس لتنظيم حزب الله الحقيقي والمسلح داخل الحدود التركية، وطبعا العدو اللدود، لزميله السابق في مقاعد الدراسة في جامعة أنقرة "عبد الله أوجلان" قائد حزب العمال الكردستاني.

 

التأسيس والعمل المسلح:

منذ ظهورها في بداية الثمانينات من القرن المنصرم، ارتبطت كافة تيارات تنظيم حزب الله في تركيا ارتباطاً وثيقاً مع إيران، وعكست الاختلافات بين تيارات التنظيم الصراعات بين التيارات المتحاربة داخل جمهورية إيران الإسلامية حديثة العهد في ذلك الوقت. وكان معظمها (تيارات التنظيم) على تواصل مباشر مع طهران بل وحصل العديد منها على الدعم المادي المباشر وخضع أعضاؤها لدورات محدودة سرية عسكرية وفكرية على الأراضي الإيرانية ضمن مساعي تصدير الثورة إيديولجياً للمنطقة، لكن مع ما سبق غابت نية طهران الفعلية لتحويل مجموعات الطابور الخامس في تركيا (حزب الله) لتنظيم أو ذراع مسلح حتى وفاة الخميني عام 1989، باستثناء ظهور بعض النشاطات المسلحة لبعض تيارات التنظيم كانت غير ذات أهمية وتأثير ملحوظ.

أحد تلك النشاطات المحدودة، كان بعيداً عن مناطق الصراع الحقيقة في الجنوب الشرقي التركي، وذلك في عام 1983 في حي "كاسم باشا" في مدينة إسطنبول الذي ترعرع فيه الرئيس التركي الحالي "أردوغان". وتعد جماعة "حزب الله-كاسم باشا" أشبه لمجموعة سطو منها لتنظيم إيديولوجي مسلح. ونفذت 19 عملية سطو خلال عام، قبل أن تفكك على يد الجهات الأمنية التركية. ليكون الاختلاف المذهبي بين خلفية التنظيم والمجتمع التركي، العامل الرئيسي لمحدودية انتشار أفكار التنظيم وبالتالي عدم ظهور تجارب مسلحة مشابهة في المدن الرئيسية التركية.

في الطرف المقابل قدّمت منطقة جنوب شرقي تركيا عوامل عدة ساعدت على انتشار التنظيم هناك بل وحتى تحوله للعمل المسلح، أبرزها: أزمة الانتماء لدى الأكراد الإسلاميين، وانفتاح أبناء المنطقة آنفة الذكر وذات الأغلبية الكردية للاختلاف الإثني والفكري والمذهبي مقارنة بالإسلاميين من المدن الرئيسية التركية، وغرق المنطقة بالصراعات المسلحة في تلك الفترة، ونهاية قرب المنطقة النسبي لطهران.

بدأ علي فلاحيان، وزير الاستخبارات في الجمهورية الإسلامية، ومنذ ترفعه لهذا المنصب عام 1989 باتخاذ خطوات جدية لتحويل مجموعات الطابور الخامس (حزب الله) في تركيا لتنظيم مسلح

وبرزت الحاجة لتشكيل تنظيم مسلح يمثّل المصالح الإيرانية في الجنوب الشرقي التركي بشكل رئيسي عام 1987 بعد سيطرة نظام الأسد الأب على كافة لبنان على حساب الحصة الإيرانية، لتبدأ طهران بالبحث عن خيارات لصراع المصالح مع النظام في سوريا لتعويض خسارتها في لبنان، ضمن ما هو أشبه بحرب باردة إقليمية ظهرت بين الطرفين في تلك الفترة -رغم جهود الاتحاد السوفييتي ليقارب بين إيران وسوريا. ليكون تنظيم حزب الله في جنوب شرقي تركيا خياراً ممتازاً لينافس حزب العمال الكردستاني المدعوم من دمشق وقتها. لكن لم تتوافر الشروط الداخلية المناسبة في طهران لاتخاذ هذه الخطوة، حتى وفات الخميني عام 1989، وصعود تيار أكثر راديكالية وجرأة للحكم.

بدأ علي فلاحيان، وزير الاستخبارات في الجمهورية الإسلامية، ومنذ ترفعه لهذا المنصب عام 1989 باتخاذ خطوات جدية لتحويل مجموعات الطابور الخامس (حزب الله) في تركيا لتنظيم مسلح، ووقع اختياره من بين تيارات حزب الله في تركيا على التيار الأكثر راديكالية "علم" تحت قيادة "حسين ولي أوغلو" والمنشق عن تيار "منزل". خضع "حسين ولي أوغلو" وعناصره لتدريبات مكثفة من وزارة الاستخبارات والأمن الوطني الإيرانية، وزوّدتهم بالدعم العسكري واللوجستي، ليبدأ العصر الأكثر أهمية وتأثيراً في تاريخ التنظيم وليظهر كعنصر رئيسي في الصراع المسلح في تلك المنطقة، رافعاً شعار تطبيق الشريعة الإسلامية في تركيا، شريعة إسلامية عُدّلت لتتوافق مع الفكر السياسي الثوري الإيراني. أما بالنسبة لتيارات التنظيم الأخرى وأبرزها "منزل" فقد استمرت بتلقي الدعم الفكري واللوجستي من الأطراف الأكثر اعتدالاً في إيران، وواصلت نشاطاتها الفكرية.

دخل تنظيم حزب الله المسلح بقيادة "والي أوغلو" في بداية التسعينيات بقوة في الصراع المسلح في جنوب شرقي تركيا، واتبع سياسة تجنب فيها أي احتكاك مع أجهزة الأمن التركي، وركّز على كسب النفوذ من مناطق حزب العمال الكردستاني -الذي أطلقوا عليه اسم "حزب الكفار الكردستاني" -المنهك أساساً في الصراع مع الدولة التركية، وليكون صاحب غلبة في المدن خلال سنوات قليلة كونه على عكس تنظيم حزب العمال الكردستاني، متمركزاً أساساً في مراكز المدن، وليس الجبال القاحلة.

وسقط مئات الضحايا في الصراع الكردي-الكردي من الطرفين خلال الاشتباكات التي امتدت لسنوات رغم جهود الوساطة التي بذلت من قبل زعماء أكراد -خصوصاً الزعماء الأكراد في شمال العراق. ليسيطر حزب الله تركيا (الكردي) على مناطق وأحياء كاملة في الجنوب الشرقي التركي، مثل منطقة "سيلفان" التابعة لولاية ديار بكر، والتي كانت تحت سيطرة التنظيم في الكامل.

كان للتنظيم اليد العليا في معظم المسائل الحياتية في مناطق سيطرته، بل وجمع من الأهالي الإتاوات تحت مسمى "الزكاة". وبعد أن كانت عمليات العنف للتنظيم منحصرة بالاشتباكات مع الغريم التقليدي لهم حزب العمال الكردستاني، بدأ تنظيم حزب الله تركيا باستهداف كل من يشكل تهديد لسلطاته، ولم يستثن حتى الصحفيين المعارضين للتنظيم بالمنطقة من عمليات الاغتيال.

يعود الفضل في الصعود السريع للتنظيم في ساحة القوى في تركيا -المنطقة الجنوب الشرقية على وجه الخصوص، لاجتماع عدة عوامل داخلية وخارجية

وصل تنظيم حزب الله في تركيا لذروة الانتشار والقوة بعد انهيار حزب العمال الكردستاني في مراكز المدن في منطقة جنوب شرق تركيا عام 1994، ليصل عدد الجوامع والمساجد التي تتبع له في تلك السنة في مدينة دياربكر فقط لـما يقارب الـ 160 مسجداً. وليقرر التنظيم في العام نفسه وبدعم المخابرات الإيرانية (والتي كانت تحت سيطرة التيار الراديكالي في إيران) أن يقضي على تيار التنظيم الذي انشق عنه "منزل" وذلك بتصفية كل قياداته ومنهم المؤسس والقائد السياسي لتيار "منزل"، "فدان غونعور-Fidan Güngör" والذي قتل بعد أن أعطي الأمان لحضور اجتماع تسوية في أحد المراكز السرية لتيار "علم" بقيادة "ولي أوغلو". ليستأثر "ولي أوغلو" أخيراً براية "حزب الله" في تركيا، ولتتزامن هذه الأحداث مع الصعود السياسي للأحزاب والجماعات الإسلامية في تركيا.

يعود الفضل في الصعود السريع للتنظيم في ساحة القوى في تركيا -المنطقة الجنوب الشرقية على وجه الخصوص، لاجتماع عدة عوامل داخلية وخارجية، مثل حالة الفوضى المسلحة في المنطقة وتقاطع مصالح "حزب الله" -مرحلياً- مع الدولة التركية صاحبة العدو المشترك: حزب العمال الكردستاني، والدعم الجيد من المخابرات الإيرانية. لكن دوام الحال من المحال، ستتغير المعادلة في مطلع النصف الأخير من القرن العشرين، ليجد التنظيم نفسه أمام تحديات وجودية لن ينجح في تجاوزها وليدخل في مرحلة الانهيار، لينتهي المطاف بقياداته في المقابر أو السجون أو المنفى، وليصبح التنظيم لا يتعدى الذكرى التي يراها الكثيرون ذكرى أليمة ، هذا قبل أن يقدم القدر -بعد ما يقارب العشر سنوات من الخمول- فرصة جديدة للتنظيم للعودة على الساحة لكن بشكل خجول ومختلف نسبياً.

 سيبحث ويناقش الجزء الثاني من هذا المقال، تحديات النتظيم التي سببت انهياره ثم عودته الخجولة ومصيره الآن، بالإضافة لعلاقته بالدولة التركية خلال فترات نشاطه المسلح.