العلمانية في خطر

2020.10.06 | 00:16 دمشق

da-myswn.jpg
+A
حجم الخط
-A

تداولت صحف إسبانية في الأسبوع الأخير من شهر أيلول الماضي صورة لسيدة ترتدي الحجاب وترعى زواج سيدتين مثليتين في دار البلدية في إحدى مدن إسبانيا. السيدة التي ترتدي غطاء الرأس، هي من أعضاء المجلس المحلي المنتخبين عن حزب بوديموس اليساري. وقد أثارت هذه الصورة الاهتمام في الإعلام الإسباني الذي كان في غالبه مرحباً بها.

لقد أثار نشر هذه الصورة غضب متطرفي اليمين الإسباني، وكذا بعض من المتطرفين ممن يعتبرون أنهم أوصياء على الدين. ففاشيو إرث فرانكو أدانوا أن تقوم امرأة مسلمة ومحجبة برعاية عقد القران "المُحرّم" هذا. من جهتهم، أدان متطرفون دينيون ممن فرضوا أنفسهم كهنوتاً، قيامها بعقد قران شخصين مثليين. واعتبروا، على ندرتهم، بأنها تقترف إثماً وجدوا لأنفسهم الحق في تحديد درجات سلم عقوبته. دون التمييز بين قناعتها والتزامها الديني وبين أداءها لواجبها الوظيفي الذي تم انتخابها لأجله. فبدا واضحاً أنه من السهولة بمكان أن يتم إيجاد قواسم مشتركة بين المتطرفين على أنواعهم، خصوصاً إن تلاقت مصالحهم على تأجيج الفرقة والخلاف والنفور بين أبناء "الشعب" على مختلف مكوناتهم وانتماءاتهم.

وبعيداً عن الخوض بالمسألة الدينية، ليس الإسلامية فحسب، والتي تُحرّم عموماً قيام هذا الزواج، إلا أنه يمكن القول بأن السيدة، وبما أنها قد ترشّحت لشغل مقعد تمثيلي في مجلس محلي في الجمهورية الإسبانية، فقد التزمت بدورها وبقوانين الملكية حيث كان يمكن لها أن تعتذر متذرعة بمرض ما لكي يحل محلها زميل أو زميلة من المجلس. إن إصرارها على القبول برعاية هذا القران والذي يكون عادة مدرجاً بين مناسبات مشابهة عديدة في يوم واحد، هو إصرار نبيل تثبت من خلاله أنها فعلاً تُمثل من اقترع لها وهم حتماً ليسوا حصراً من المسلمين. واحترامها للقوانين والتزامها بتنفيذها، والقانون الإسباني يسمح بزواج المثليين، هو دليل آخر على احترامها لدورها ولناخبيها. أما قناعتها الذاتية، وحتى وإن كانت معارضة هذا الزواج لأسباب دينية، فبدا واضحاً بأنها لا يمكن أن تعدلها عن القيام بواجبها.

مرّت الواقعة بهدوء نسبي وسقطت عبارات التطرف في غياهب مستنقعات الكلام الذي اعتاد المتطرفون على استهلاكه. وبدا أن وعياً مجتمعياً أوسع من ضيق الصدر المتطرف قد رحّب بما "اقترفته" السيدة من جهات عدة مشيداً بالتزامها الديني الذي اعتقدت بأنه يسمح لها أن تضع باختيارها غطاء رأس، وبالتزامها السياسي الذي اعتقدت بأنه يسمح لها أيضاً أن تحترم قوانين بلاد اختارت العيش فيها.

هذه الملائمة البسيطة نسبياً والتي استطاع المجتمع كما الأفراد التناغم معها ومع متغيراتها قد لا تكاد تكون قابلة للتصديق في طرف سلسلة جبال البيرينيه الشمالي حيث تقع فرنسا. فمسألة غطاء الرأس هذا تُشغل الإعلام والسياسيين وحلقات النقاش وكأنما لا كوفيد19 ولا أزمة اقتصادية هائلة ولا فشل دبلوماسي تقترفه الحكومة يلي فشلاً سبقه ويسبق فشلاً سيلي. ويكاد الأمر يقتصر بداية على الظن أو سوئه بالطبقة السياسية الفرنسية وأنها تحتاج لمشاجب

من يراقب الجدالات السياسية والمجتمعية التي تدور رحاها في أروقة السياسة الأوروبية، يُميّز فوراً هذه الظاهرة "الحجابية" التي تعم فرنسا

تعلّق عليها الاهتمام وتجلب إليها الأنظار عشية الاستحقاقات الانتخابية. وصار من السهل على المعلقين السياسيين المحترفين للصحافة وهواة وسائل تواصل أن يحسموا بربط الأمرين معا: الحديث عن الإسلام والحجاب واقتراب موعد الانتخابات. إلا أن الموضوع يبدو أكثر تعقيدا من مجرد هذا الربط شبه التلقائي الذي نكرره ولا أستثني منا أحداً.

من يراقب الجدالات السياسية والمجتمعية التي تدور رحاها في أروقة السياسة الأوروبية، يُميّز فوراً هذه الظاهرة "الحجابية" التي تعم فرنسا. ويستغرب ضعف وجودها أو انعدامه تقريباً في باقي دول الاتحاد الأوروبي. وذلك على الرغم من قوة أحزاب اليمين المتطرف المعادي للأجانب وللمسلمين في الكثير منها. حيث يجد هؤلاء زوايا أخرى ربما مرروا منها خطابهم الترهيبي وتنحصر غالباً بالتطرق إلى مسائل الأمن والأمان. فيصير التساؤل حول أسباب هذا التميّز الفرنسي مشروعاً يبعث على البحث والتقصي وعدم التسرع باللجوء إلى الإجابات التلقائية التي تريح العقل وترضي الفؤاد.

صار لزاماً على العاملين في حقل العلوم الإنسانية والبحث فيها أن يتنبهوا إلى أهمية الغوص بعيداً وعميقاً في التاريخ القريب لموضوعتهم الفرنسية. حيث تميّزت وتمايزت المدرسة الاستشراقية الفرنسية عما وازاها لدى البلدان الأخرى بثقة عالية بالذات بُنيت أحياناً على دقة الملاحظة وسعة المعرفة وثراء العلم، وأحيانا أخرى على سرعة الملاحظة وضيق المعرفة وفقر العلم أو إفقاره عن سابق إرادة للوصول إلى النتائج الموضوعة على الطاولة قبل البدء في البحث. وكثيراً من الأحيان، انتبه الباحثون إلى سعي بعضهم إلى الوصول إلى نتائج وضعت مسبقاً لبحث هم بصدد تنفيذه، وهنا الطامة الكبرى والتي يقع فيها كثير ممن يبحثون عن سند نظري لبحوثهم العملية، فيلوون عنق نتائج البحث لتناسب النظرية التي يفترض بهم التقيد بمحتواها.

المسألة أعمق من تطرف يميني وحاجة انتخابية، إنها مسألة فهم خاص لمعنى العلمانية يميناً ويساراً، مما يسمح للباحث الجاد أوليفيه روا، أن يعتبر بأن ما يحصل حول الحجاب والعقيدة الإسلامية في فرنسا ما هو إلا انتهاك صريح لقانون 1905 الذي يحدد أسس العلمانية التي تدعو إلى حياد الدولة في المسألة الدينية.