أبعاد الأزمة بين تركيا والولايات المتحدة ومآلاتها

2018.09.24 | 17:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

مقدمة

تميّزت العلاقات التركية - الأميركية بالتعاون طوال سنوات الحرب الباردة بسبب الموقع الإستراتيجي لتركيا وعدم امتلاك الولايات المتحدة الأميركية بديلًا منها؛ مع استثناء عام 1974 حين اتخذت الحكومة الأميركية قرارًا بحظر توريد السلاح إلى تركيا بسبب عملية إنزال الجيش التركي في جزيرة قبرص، وقرار إعادة زرع الخشخاش في أراضيها بعد أن حظرت ذلك عام 1971 بعد الضغوطات الأميركية. وكان من غير المنطقي بالنسبة إلى تركيا مغادرة حلف شمال الأطلسي (الناتو) أو توتّر علاقاتها بالولايات المتحدة نظرًا إلى المعونات الأميركية الاقتصادية والعسكرية الهائلة في تلك الفترة.

لكن، عقب الحرب الباردة، بدا الارتباك واضحًا حول شكل النظام الذي تريد الولايات المتحدة تأسيسه في المنطقة والعالم من ناحية، والحيرة بخصوص نوع العلاقة بالحلفاء السابقين في هذا النظام الجديد الذي أدّى إلى تذبذب العلاقات بين الطرفين من ناحية أخرى.

وبعد العملية العسكرية الثانية في قبرص بادرت الولايات المتحدة إلى فرض عقوبات على تركيا في 14 آب/ أغسطس 1974، والتي دخلت حيز التنفيذ في 5 شباط/ فبراير 1975 رسميًّا مدة ثلاث سنوات. فجاء رد الحكومة التركية التي ترأّسها بولند أجاويد آنذاك بالحدة نفسها؛ إذ أغلقت جميع القواعد العسكرية في تركيا بما فيها القاعدة الإستراتيجية إنجرليك، إضافة إلى إلغاء اتفاقية التعاون والدفاع المشترك الموقّعة عام 1969، ووافق البرلمان التركي على إيقاف جميع الفعاليات العسكرية الأميركية في القواعد التابعة لحلف شمال الأطلسي.

بقيت الولايات المتحدة مصرة على قرار العقوبات مدة ثلاث سنوات حتى بدأت تظهر ملامح الثورة الإيرانية في الأفق، حيث قرر الكونغرس الأميركي إلغاء العقوبات بعد أن شعرت الإدارة الأميركية بحاجتها إلى تركيا في تلك المرحلة. وبالفعل أعلن الرئيس الأميركي جيمي كارتر إلغاء العقوبات في 26 أيلول/ سبتمبر 1978.

العلاقات التركية - الأميركية عقب الحرب الباردة

لم تتمكن تركيا والولايات المتحدة من تحديد مصالحهما المشتركة بعد انتهاء الحرب الباردة. وقد ساهم هاجس إقامة دولة كردية مستقلة سواء في سورية أو العراق، بمساعدة ومباركة أميركيتين في زيادة حدّة شكوك تركيا التي طالما كانت تعتبر نفسها قوة إقليمية وأنها تتمتع بهامش واسع للمناورة واستقلالية تمكّنها من توسيع دائرة نفوذها. كما توقّع صناع القرار الأتراك أن تلقى الدولة التركية احترامًا وقبولًا في النظام الدولي الجديد. لكنّ الولايات المتحدة لم تُبدِ ميلًا واضحًا إلى ذلك، حيث توجست واشنطن من أن تتيح فترة ما بعد الحرب الباردة لتركيا فرصة لتكون قوة إقليمية كبيرة، لا تستطيع السيطرة على سلوكها.

لم تتخلّ تركيا عن مشروع التكامل مع الحضارة الغربية، رغم الصعوبات والأزمات المتكررة؛ ويمكن القول إنّه لا يوجد فيها من يدافع عن القطيعة مع الدول الغربية. وقد رأى البعض أنّ رجب طيب أردوغان في مقالته الشهيرة التي نشرها في جريدة نيويورك تايمز شكك في إمكانية استمرار علاقات تركيا بالولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية. لكنّ هذا الكلام يفتقر إلى ما يدعمه من أدلة؛ فالاعتراضات التركية على بعض التصرفات الأميركية لا تعني أنّها تفضل المحور الروسي - الصيني حليفًا إستراتيجيًا، بل لا تعدو عن كونها امتصاصًا لغضب الرأي العام التركي. فتركيا تريد أن تُؤخذ مطالبها في الحسبان في وقت تتولى فيه القوى الكبرى إعادة صياغة النظام الإقليمي. وبناءً عليه، فإنّ إشارة أردوغان إلى أنّ الولايات المتحدة حليف قوي تثبت النيات الحقيقية لتركيا، ورغبتها في تحسين العلاقات بها. 

ويبدو أنّ العامل المفجّر للخلاف في العلاقات التركية - الأميركية تاريخيًا هو احتلال العراق وتداعياته على المنطقة؛ علمًا أنّ تركيا كانت قد خرجت من حرب الخليج الأولى من دون مكاسب بسبب الحسابات الخاطئة للحكومة في تلك الفترة، إضافة إلى خسارتها بعد حرب الخليج الثانية من الناحيتين الاقتصادية والسياسية. فقد شهدت العلاقات التجارية مع العراق انهيارًا كبيرًا لم تستطع تركيا تحصيل تعويضات عليه من الولايات المتحدة رغم تقديمها دعمًا سياسيًا كبيرًا لها. ومن الناحية السياسية، بدأت المؤشرات الأولية للكيان السياسي الكردي تظهر في شمال العراق، إضافة إلى حادثة قيام الجنود الأميركيين باعتقال عدد من العسكريين الأتراك في شمال العراق في تموز/ يوليو 2003، وتغطية رؤوسهم بأكياس على نحو أثار موجة غضب في الرأي العام التركي. وقد فُهمت هذه التصرفات كعملية ثأر ومعاقبة لتركيا التي رفضت السماح للقوات الأميركية بالمرور عبر أراضيها واستخدامها قاعدة للإنزال في العراق.

العلاقات التركية - الأميركية في عهد حزب العدالة والتنمية

لا يمكن تفسير موقف حزب العدالة والتنمية في الآونة الأخيرة من الولايات المتحدة أو تأويله ببراغماتيته فحسب، خاصة إذا أخذنا في الحسبان إمكانية إغلاق القواعد العسكرية الأميركية على نحو مشابه لموقف الحكومة التركية عام 1974. في الوقت نفسه، تبدو ريبة تركيا حيال سياسات القوى الكبرى في سورية وعدم رغبتها في الاستسلام للروس يمنعانها من اللجوء إلى سياسات غير مرنة تجاه الولايات المتحدة. فردات أفعال الحكومة التركية تجاه الأزمة الأخيرة كانت قاسية في مظهرها ولكنها مرنة في جوهرها لأنّها مبنية على مواقف سياسية في الأغلب، سواء فيما يخص الموقف التركي بشأن تسليم فتح الله غولن، أو الخلاف مع الولايات المتحدة حول وجود القوات التركية في منبج. ومع ذلك، يبذل الطرفان قصارى جهدهما لإنقاذ العلاقات، وهو ما يبدو جليًا عند تحليل تصريحات المسؤولين الأتراك رفيعي المستوى، كوزير الخارجية مولود جاويش أوغلو، فمن السهل ملاحظة أنّ تركيا لا تريد خسارة حليفها الإستراتيجي رغم كل الخلافات.

وبالعودة إلى السنوات التي تسلّم فيها حزب العدالة والتنمية مقاليد الحكم، يلاحَظ أنّ جذور الموقف التركي تكمن جزئيًا في احتلال الأميركيين العراق، وشكل النظام الذي تحاول الولايات المتحدة صناعته. يضاف إلى هذه العوامل الربيع العربي الذي دفع وزارة الخارجية التركية إلى تغيير سياسة "صفر مشاكل" من جهة، في الوقت الذي ترك بصماته الإيجابية على العلاقات التركية - الأميركية من جهة أخرى. فقد عملت تركيا والولايات المتحدة معًا في معظم البلدان التي شهدت ثورات، ولكنّ التعاون والتنسيق الأميركي مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة بشأن الانقلاب في مصر، وعدم تلبية الولايات المتحدة المطالب والتوقعات التركية هي من العوامل التي أدّت إلى التصدع في العلاقات بين الطرفين.

وبالتوازي مع هذه التطورات بدأت تركيا تدرك أنّها الخاسر الأكبر في سورية على جميع المستويات، ومن هنا عليها تغيير سياساتها تجاه روسيا وحلفائها. وكان العامل المغذّي لهذه الرؤية هو توسع النفوذ الكردي وتمدده في مناطق مختلفة شمال سورية مع احتمال إقامة دولة كردية مستقلة أو شبه مستقلة فيها، واستعادة جيش النظام السوري معظم المناطق من الجماعات المسلحة وتقدّمه في بعض المحافظات. لقد بدت هذه التحولات كأنّها مؤشر واضح على أنّ المغامرة التي خاضتها تركيا في سورية قد اقتربت من نهايتها.

أمّا العملية العسكرية في مدينة الباب في حلب، التي تزامنت مع تغير أولويات الدول الغربية من إطاحة الرئيس بشار الأسد إلى مكافحة الإرهاب، فلم تكن سوى إثبات للذات أمام الحلفاء الغربيين، إضافة إلى كونها محاولة لكسر هيبة تنظيم وحدات حماية الشعب الكردي ونفوذه. وبناء عليه، باتت تركيا على دراية تامّة بأنّ علاقتها بالولايات المتحدة لا يمكن أن تعود إلى سابق عهدها.

وكان فوز دونالد ترامب في الانتخابات الأميركية بمنزلة الحبل الذي تريد تركيا التمسّك به لإنقاذ ما تبقى من الجهود التركية هناك. لكنّ ترامب لم يعر مطالب تركيا في شمال سورية اهتمامًا، بل تعدّى ذلك نحو الموافقة على السياسات السابقة التي ترى مواصلة سياسة التسليح للوحدات الكردية، إضافة إلى اتخاذ قرارات أخرى، كنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس. والأهّم من ذلك تعامل ترامب مع السعودية والإمارات من منطلق اقتصادي مصلحي، على نحو قوّض التطلعات والآمال التي علقتها تركيا على ترامب.

انعكاسات الأزمة التركية - الأميركية على العلاقات بروسيا

تعتبر روسيا هذا النمط من العلاقات التركية – الأميركية والتوتر السائد بينهما إيجابيًا في المدى القريب إذ إنّه يوفرّ لها مكاسب هائلة؛ بدءًا من حدوث تصدعات في الناتو، وصولًا إلى الحصول على تنازلات من تركيا لا سيما فيما يخصّ التبادل التجاري في المجالات المختلفة. أمّا من جانب تركيا، فمن المرجّح أن تكون روسيا بديلًا من الولايات المتحدة في المدى القريب فقط. ولكن في المدى البعيد يبدو هذا صعبًا؛ فتركيا لا يمكنها الابتعاد عن المحور الغربي بسبب علاقاتها الاقتصادية به، رغم تعرّضها لأزمات. فمن الناحية الاقتصادية، لا يمكن أن تحلّ روسيا في أي حال من الأحوال محلّ الشركاء الغربيين.

في مقابل ذلك، فإنّ فرض العقوبات المالية على تركيا من شأنه أن يؤدي إلى اللجوء إلى سياسات الاكتفاء الذاتي اقتصاديًا. وبإلقاء نظرة فاحصة على الأزمات التي تعرّضت لها تركيا في السنوات السابقة، يبدو أنّه من غير المنطقي أن تنتهج الولايات المتحدة سياسات تدفع تركيا إلى محور الصين وروسيا، وتتسبب في اتباع سياسات تجعل تركيا بعيدة عن الارتباط صناعيًا بها خاصة في مجال الدفاع.

تدرك موسكو جيّدًا أنّ تركيا سوف توفّر لها مكاسب هائلة وفرصًا كثيرة في مجالات مختلفة. لذلك تبذل قصارى جهدها في الوقت الحالي للحؤول دون الإضرار بها، لا سيما في ما يتعلق بالقضايا التي تعتبرها تركيا إستراتيجية وحيوية بالنسبة إليها؛ فلم تكن اتفاقية أستانا سوى ضمٍ لتركيا التي تضررت ولم تستفد من تحالفها مع المحور الغربي في سورية، إلى عملية المفاوضات للحل السلمي في سورية وتحويلها إلى لاعب قريب، يخضع لمراقبتها. ويبدو أنّ الولايات المتحدة وروسيا خَلُصتا إلى أنّ تركيا تقوم حاليًا على معادلات حساسة جدًا، وبناء عليه، يجب تجنّب الخطوات التي تدفعها إلى الذهاب إلى صفوف المعسكر الآخر.

وفضلًا عن ذلك، أخذ البنتاغون زمام الأمور في ما يخص العمليات العسكرية في الشمال السوري، على نحو من شأنه الـتأثير أكثر في مستوى العلاقات التركية - الأميركية ومستقبلها، خاصة في ظرف يتم فيه تعطيل دور وزارة الخارجية الأميركية التي تتقن ممارسة الدبلوماسية وضبط الخلافات، في حين يميل البنتاغون إلى التعامل بلغة عسكرية حتى مع الحلفاء أحيانًا. ويُنبئ هذا بأن تحسّن العلاقات بين الطرفين ربما يحتاج إلى وقت.

مستقبل العلاقات التركية - الأميركية

يبدو أنّ السؤال الإستراتيجي المطروح حاليًا هو: كيف يمكن تحسين العلاقات التركية - الأميركية ومعالجة الأزمة الراهنة على نحو يزيل المشاكل بين الطرفين؟

وفقًا للمعطيات، فإنّ هذا الأمر بات مرتبطًا بتغيير السياسات الأميركية بخصوص ما يسمى حماية جماعة غولن، وحل وحدات حماية الشعب الكردي التي ترتبط الإدارة الأميركية بعلاقات مميزة بها. والأهّم من ذلك حل الخلافات بشأن التزام تركيا بالعقوبات المفروضة على إيران التي تعتبرها الولايات المتحدة عدوًا إقليميًا لها. يضاف إلى ما سبق، مدى رغبة تركيا في الحصول على الدور الذي ترسمه لها الولايات المتحدة ضمن النظام الإقليمي.

يمكن توقّع استمرار التوتر بين الطرفين بسبب عدم تطابق النظام الإقليمي الذي تريد الولايات المتحدة الأميركية إقامته في المنطقة مع التطلّعات التركية على المدى المتوسط، إضافةً إلى تحفظات الإدارة الأميركية تجاه سياسات الحكومة التركية، في الوقت الذي تنتقد هذه الأخيرة أميركا انتقادًا لاذعًا بسبب تخلّيها عن هدف إطاحة النظام السوري ورئيسه بشار الأسد، والتقاعس في سبيل ذلك، وتفضيل وحدات حماية الشعب الكردي على تركيا الحليف الإستراتيجي في إطار منظومة الناتو. في المقابل تدّعي الولايات المتحدة أنّ تركيا لم تؤدّ دورها في الحرب ضدّ تنظيم "داعش" مما أجبر الإدارة الأميركية على التعاون مع وحدات حماية الشعب الكردي "القوة الوحيدة العلمانية أو غير المتطرفة".

خاتمة

ما زال التوتر قائمًا في العلاقات التركية - الأميركية. وتمثلت ردة الفعل الأميركية حول هذه الأزمة في فرض عقوبات على وزيرين في الحكومة التركية. أما ذرائع ذلك فتخطّت قضية القس الأميركي نحو خروقات حقوق الإنسان وحرية الرأي وانتهاكاتها في تركيا. 

يمكن القول إنّ النخبة السياسية التركية أساءت تقدير قضية القس الأميركي، ولم تتمكن من التنبؤ باهتمام المسيحيين الإنجيليين بها، الذين لهم دور ونفوذ كبيران في الإدارة الأميركية. بالتوازي مع ذلك، يبدو أنّ تقييمها كان خاطئًا بشأن التنازلات التي يمكن أن تحصل عليها الحكومة التركية من القيادة الأميركية التي فضّلت قصدًا عدم استخدام القنوات الدبلوماسية؛ فقد تعمد دونالد ترامب ونائبه مايك بنس في تصريحاتهما استهداف الحكومة التركية مباشرة. فقد اختارت الإدارة الأميركية المشادات الكلامية مع تركيا على مرأى الرأي العام العالمي، وهذا الأسلوب في التصعيد هو الذي حدد نمط الرد التركي.

والواضح في الوقت الراهن أنّ العودة إلى القنوات الدبلوماسية ليست أمرًا سهلًا مع أنّ ذلك ليس مستحيلًا، فالتصريحات المكشوفة أمام الرأي العام جعلت فرصة التعامل مع القضية من الناحية الدبلوماسية أشدّ صعوبة. 

 

للاطلاع على المادة من المصدر اضغط هنا