6 أيار 1916: صحافة سوريا ولبنان معاً ضد جمال باشا ونظام الأسد

2019.05.05 | 00:05 دمشق

+A
حجم الخط
-A

في السادس من أيار عام 1916، قامت السلطات العسكرية العثمانية في وقت واحد بإعدام حوالي 22 مواطناً في كل من "ساحة البرج" ببيروت، و"ساحة المرجة" في دمشق. وقبل هذا التاريخ وبعده، أعدمت المحاكم العرفية العثمانية العشرات ممن أدانتهم بالتهمة نفسها: الخيانة.

والمعدومون هؤلاء، من السوريين واللبنانيين، هم من خيرة الصحفيين والمتعلمين والوجهاء السياسيين المحليين ونخبة المثقفين. ويجمع بينهم انحيازهم لأفكار النهضة والإصلاح ودعوتهم إلى الاستقلال والتحرر، على تفاوتهم وتباينهم في تأويلهم لهذه الأفكار.

والثابت في الذكرى أنها تؤرخ لحظة نهاية الإمبراطورية العثمانية وخسارتها لولاء "رعاياها" ونفاد شرعيتها. فما عاد لديها من مسوغات السيطرة والحكم سوى قوة العنف العاري والعسف والترهيب. وفي المقابل، تؤرخ هذه الذكرى لحظة التضحية التي بذلتها طبقة اجتماعية جديدة، ولدت ما بين منتصف القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، عمادها ما يعرف باسم "رجال النهضة". وهؤلاء أصل ولادة الصحافة في بلاد الشام وبلاد النيل.

وتنكب هؤلاء التبشير ببناء أوطان وإصلاح حال المجتمعات وتهذيب الأخلاق وبث قيم الحرية والتقدم والمساواة، وسوى ذلك من أفكار في السياسة وفي بناء الدول وأنماط الحكم، تجاوزاً لسبات تاريخي استمر قروناً من الانحطاط.

ورغم إعدامهم، فإن انهيار السلطنة العثمانية ونهايتها بعد سنتين من تعليق المشانق في بيروت ودمشق، أفضى إلى سيادة تفاؤل تاريخي، رغم الانتدابات الأجنبية والثورات والاضطرابات أو بالتضافر والتفاعل معها كمخاض ثوري وتغييري.

وترسّخ الصحفيون كقوة اجتماعية وثقافية وسياسية، تنسج الصلة ما بين السلطة (وإنتاجها) وعموم المواطنين، وتصنع هذا الكائن الجديد المسمى "الرأي العام".

وفي كل الأحوال، ترسّخت الصحافة كأداة هائلة التأثير في التعبير العام الحر وفي توطين ممارسة النقد والرأي والمراقبة والمحاسبة، كما في عرض الحال وتداول الأخبار والمعرفة والأفكار. وترسّخ الصحفيون كقوة اجتماعية وثقافية وسياسية، تنسج الصلة ما بين السلطة (وإنتاجها) وعموم المواطنين، وتصنع هذا الكائن الجديد المسمى "الرأي العام".

ومنذ العشرينات وحتى وصول "حزب البعث" إلى السلطة في سوريا، كانت الصحافة وكان الصحفيون شركاء في رسم السياسة ويومياتها، وفي تأسيس الأحزاب والنقابات والجمعيات، كما في مهام توطيد الكيان الاستقلالي الوليد. بل إن المعارك الكبرى، كجلاء الانتداب أو كتابة الدستور أو مواجهة الانقلابات العسكرية أو ما هو أقل خطورة كتشكيل الحكومات أو اقتراح القوانين العامة.. كان الصحفيون السوريون هم المساهمين الأساسيين فيها.

كان شرط استبداد حكم الحزب الواحد، ثم استبداد الفرد الواحد.. هو مصادرة الصحافة وإسكات الصحفيين واستقالتهم من دورهم. منذ العام 1963 وحتى العام 1970، ظلت الصحافة تنازع أمام القوة والجبروت إلى أن انهزمت تماماً مع مجيء حافظ الأسد. انتهت كل أنواع "المشاركة" السياسية. وانتهى معها التعبير، وتوقفت الإرادات والمصالح عن حركتها وحل الجمود والصمت. وعلى هذا المنوال، انتهى المسار المبتدئ من العام 1916 وحل "الأبد" المفارق لحركة الزمن.

وبدلاً من ساحة المرجة والمشانق والإعدامات العلنية الممسرحة، حل المعتقل والزنزانة والرصاصة في الرأس. لا صحافة إلا ما يقوله الديكتاتور ولا صحافي إلا الرئيس نفسه.

ما حدث في دمشق، كان يجب أن يستكمل في بيروت. فبعد ست سنوات على وصول حافظ الأسد إلى السلطة، سيرسل جيشه إلى لبنان. كان بند مراقبة الصحف والدخول إلى مكاتبها وإقفال بعضها، واحداً من أبرز بنود خطة "إحلال السلام" التي نفذها الجيش السوري ما بين أواخر العام 1976 والعام 1977. وكان الخطاب السياسي الذي روجته دعاية النظام السوري أن "الصحافة اللبنانية" هي سبب رئيسي في اندلاع الحرب وتأجيجها، كذريعة لتدجينها أو قمعها.

ما حدث في دمشق، كان يجب أن يستكمل في بيروت. فبعد ست سنوات على وصول حافظ الأسد إلى السلطة، سيرسل جيشه إلى لبنان. كان بند مراقبة الصحف والدخول إلى مكاتبها وإقفال بعضها، واحداً من أبرز بنود خطة "إحلال السلام" التي نفذها الجيش السوري

وعلى الفور بدأ جهاز القتل الأسدي في اغتيال الصحفيين، أولهم نقيبهم رياض طه، ثم أبرزهم سليم اللوزي. ومن لم يُقتل كان عليه الهروب إلى المنفى. بدأ أيضاً مسلسل الخطف أو مكالمات التهديد، إضافة إلى مسلسل الترغيب والرشوة والاستتباع والتجنيد.. وحتى بعد نهاية الحرب، فإن أول حكومة لبنانية بعد اتفاق الطائف، تحت الوصاية السورية، كانت مقرراتها الأولى خطة وضعها أقرب المقربين إلى النظام السوري، الوزير ميشال سماحة، للسيطرة على الفحوى الإعلامية ومراقبة مضمون الصحافة.

وطوال أكثر من ثلاثين عاماً، عاشت الصحافة اللبنانية هذه المناخات، التي أرست "أخلاقاً" هي بالأحرى انحطاط نخر الصحافة اللبنانية إلى حد فسادها العميم. لكن، ومع ذلك، كانت تقاليد المهنة وذاكرتها تقاوم، وتمارس سلوكها الاعتراضي.

وكما كان الحال في مطلع القرن العشرين، فقط شهد مطلع القرن الواحد والعشرين الظاهرة نفسها: صحفيون ومثقفون سوريون يشتركون مع صحفيين لبنانيين في تدبيج الصفحات والمقالات والبيانات المشتركة والوثائق السياسية، في واحدة من أفضل لحظات الدعوة إلى التغيير وطلب الديموقراطية. كانت الصحافة اللبنانية حينها منبراً لربيع دمشق الأول.

وهذا الاعتراض الصحفي وروحيته، كانا المدماك السياسي الأول لانتفاضة الاستقلال اللبنانية عام 2005، وكانت رموزها المتألقة من الصحفيين والمثقفين، ومنهم جبران تويني وسمير قصير اللذين سيكونان هدفين للاغتيال.

صحفيون ومثقفون سوريون يشتركون مع صحفيين لبنانيين في تدبيج الصفحات والمقالات والبيانات المشتركة والوثائق السياسية، في واحدة من أفضل لحظات الدعوة إلى التغيير وطلب الديموقراطية. كانت الصحافة اللبنانية حينها منبراً لربيع دمشق الأول

أول ما فعلته الثورة السورية أنها ولّدت كائنين: المتظاهر والصحفي. الكائن الأول، خرج إلى الشارع والساحة. والكائن الثاني رافقه خروجاً ليصنع الصورة ويسجل الصوت ويبثهما. أما أول ما فعله النظام فهو مطاردة واعتقال وقتل المتظاهرين، مع منح الأولوية القصوى للقضاء على الكائن المسمى "المواطن الصحفي".

الناشط والصحفي في الثورة السورية، كانا في أغلب الأوقات متوحدين في الشخص ذاته. الفعل الثوري والفعل الصحفي كانا متلازمين. تماماً كما كان شهداء 6 أيار 1916، رجال النهضة وحلم التغيير وحرية والاستقلال.

وبعد مئة وثلاث سنوات على انقضاء المحاكم العرفية العثمانية واستبداد الجنرال جمال باشا، ما زال المشهد ذاته يتكرر، على طول خريطة الاستبداد العربي: الجنرال يقيم حفل الاعدامات للصحفيين، ويسلط أحكامه العرفية على العباد، ويجر الرجال إلى "سفربرلك" الحروب الخاسرة، وينزل المجاعة والفقر في البلاد.. مقيماً سلطته على انعدام الشرعية، ولا مسوغات لسيطرته وبقائه وحكمه سوى قوة العنف العاري والعسف والترهيب.