يوم تفرّس حافظ الأسد في وجه قاتله

2019.01.28 | 00:01 دمشق

+A
حجم الخط
-A

صباح الجمعة 27 حزيران 1980 ظهرت جريدة «الثورة» السورية دون افتتاحية. فاليوم عطلة وبإمكان الجماهير أن ترتاح من النضال طيلة أيام الأسبوع وأن تخلد إلى السكينة قليلاً، لكن الصحيفة الرسمية لم تحرم قراءها من أهم الأنباء. فقد استقبل الرئيس الأسد بالأمس وفد الحزب الشيوعي الروماني الذي نقل له، وللسيدة عقيلته، تحيات تشاوشيسكو وزوجته إيلينا، وسط «ارتياح تام لسير تطور العلاقات بين البلدين»، وهو ما سيتابع الرفيق عبد الله الأحمر بحثه مع الوفد. الرئيس الأسد يرعى الاحتفال الديني الذي أقامته وزارة الأوقاف بليلة النصف من شعبان، والآخر الحكومي بذكرى تحرير القنيطرة، وقد صادفا البارحة، ومؤتمر وزراء الثقافة واتحاد المهندسين الزراعيين العرب، اللذين سيقامان في الغد. الرئيس الأسد يعزّي بوفاة رئيس الهند السابق، ويهنئ الملك خوان كارلوس بالعيد الوطني لإسبانيا.

العميد محمد الخولي زار بيروت في نطاق «المشاورات مع الأطراف اللبنانية بشأن تحقيق الوفاق الوطني». أغناطيوس يعقوب الثالث، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للسريان الأرثوذكس، يتوفى في مقره بدمشق. جماهير شعبنا تواصل شجبها واستنكارها لجرائم عصابات الغدر والخيانة مطالبة بضربها بيد من حديد. اجتماعات كل من المجلس الصحي واتحاد شبيبة الثورة واتحاد العمال في طرطوس. تخريج دورة للرفاق طلاب الصف الخامس في معسكر طلائع البعث بدرعا. تمديد كابلات هاتف في حلب. صيانة شبكة الكهرباء في حمص. تشديد الرقابة وقمع مخالفات تموينية في حماة.

دعا صفوان قدسي، متابعاً مقاله في الأسبوع الماضي، إلى كتابة «نظريتنا القومية التي تختزل تجربتنا الوطنية والاجتماعية». أما بسام جعارة فحذّر من المطب الذي يقع فيه «البعض» حين يفتحون النار على القطاع العام، فيخدموا بذلك «القوى المضادة» التي تريد الانقضاض عليه. نبيل الملحم يهاجم هربرت ماركوز لعزلته عن الجماهير «في معمعان صراعها الطويل الذي تخوضه بالدم والدموع». حوار مع ممثلة يوغسلافية حول فيلمها الأول «سنوات الطيش»، وانطباعها الإيجابي عن الشعب السوري «الطيب والكريم»، بعد زيارتها لدمشق وصدمتها بآثار الدمار الوحشي في القنيطرة.

أمر واحد أغفلت الجريدة ذكره: لقد كادت البلاد أن تفقد رئيسها!!

العراقية فاطمة، ن، ص أضاعت جواز سفرها. المحامي فايز دقماق يوجه للمدعى عليه عصام، ع، ط مذكرة إخطار في دعوى التفريق والنفقة المرفوعة ضده. صابر فلحوط، المدير العام للوكالة السورية للأنباء، يعلن عن رغبة «سانا» في التعاقد مع مكاتب أو أشخاص للقيام بأعمال تنظيف بنائها الجديد في البرامكة، علماً أنه «مكون من أحد عشر طابقاً ومفروش بالموكيت». العميد علي زيود، رئيس المكتب التنفيذي بطرطوس، يطلب عروض أسعار لتجهيزات مشروع مياه «مجدلون البحر».

سينما «الزهراء» تعرض فيلم «عشاق على الطريق» لرفيق سبيعي وحبيبة وأديب قدورة، وسينما «الدنيا» الفيلم المصري «سنة أولى حب» لمحمود ياسين ونجلاء فتحي، وسينما «دمشق» فيلم «نساء للشتاء» المشترك من بطولة محمد جمال ونيللي وأبو صياح أيضاً. ستبث إذاعة دمشق برنامجها «ما يطلبه المستمعون» في العاشرة والربع صباحاً. وسيعرض التلفزيون، الوحيد، حلقة من البرنامج العلمي «أسرار البحار» عصراً، ومن مسلسل الكاوبوي الأميركي المترجم «الفيرجيني» مساء، وسيختم إرساله بحلقة من مسلسل «عذراء البادية» التاريخي في التاسعة والربع ليلاً.

الصيدليات المناوبة في العاصمة هي «المشرق» خلف القصر العدلي و«الكواكبي» بكورنيش الميدان. لا جديد على صعيد الأبراج. في الكلمات المتقاطعة أفقياً الاسم الأول لممثل كوميدي سوري من أربعة أحرف، وأغنية عمودية لعبد الحليم حافظ من تسعة، و«قدر بث» مبعثرة في مكان ما. حددت مديرية التموين أسعار الخضار والفواكه حسب مواصفاتها؛ بندورة حمراء متماسكة، كوسا صغير، فليفلة حدة أو حلوة، موز إكوادوري أو لبناني، باذنجان مدعبل أو أسود مطاول، خسة إفرنجية، ليمون حامض، جزر، بقدونس، بصل يابس...

أمر واحد أغفلت الجريدة ذكره: لقد كادت البلاد أن تفقد رئيسها!!

ففي الرابعة والنصف من عصر اليوم السابق كان من المفترض أن تنطلق طائرة رئيس النيجر الزائر حسين كونتشي من مطار دمشق الدولي لولا أن أفراداً من المكلفين بحماية حافظ الأسد حاولوا قتله. لكن العدد الذي بين أيدينا من «الثورة» ينهي المشهد كالمعتاد، فقد أصدر الرئيسان بياناً مشتركاً أوضحا فيه أن «النضال ضد الصهيونية والعنصرية كلٌّ لا يتجزأ»، بعد مباحثات تناولا فيها العلاقات الثنائية و«القضايا الدولية ذات الاهتمام المشترك وفي طليعتها الوضع المتفجر في منطقة الشرق الأوسط». وأخيراً وجّه الكولونيل الانقلابي دعوة لنظيره السوري لزيارة النيجر، قبلها بسرور، ثم اصطحب ضيفه إلى سلم الطائرة و«عانقه وتمنى له سفراً سعيداً».

ففي الرابعة والنصف من عصر اليوم السابق كان من المفترض أن تنطلق طائرة رئيس النيجر الزائر حسين كونتشي من مطار دمشق الدولي لولا أن أفراداً من المكلفين بحماية حافظ الأسد حاولوا قتله

ما أمكنت معرفته عن العملية أنها مبادرة غير مرتبطة تنظيمياً قام بها ثلاثة شبان ينتمون إلى بيئات كانت تتعرض للقمع أثناء «أحداث الإخوان المسلمين» وقتها، صادف وجودهم في سلك الشرطة العسكرية لأداء الخدمة الإلزامية. وكان هذا الجهاز مكلّفاً بشكل روتيني بحراسة «قصر الضيافة» بأبو رمانة. تدبر الشبان أمر الحصول على قنبلتين تدريبيتين بانتظار الفرصة التي حانت ذلك اليوم. لكن مبادرة أحد ضباط الفرع الداخلي لرمي نفسه على إحداهما، مما مزقه فوراً، ومسارعة خالد الحسين، مرافق الأسد الخاص، إلى تغطيته بجسده، حالتا دون نجاح العملية التي خلفت جروحاً طفيفة في ساقي الرئيس وصدره، وندوباً عميقة في شعوره بالعظمة، وهوة ستتسع في تاريخ سوريا بعد أن أمر شقيقُه رفعت قواته «سرايا الدفاع» بتنفيذ مجزرة في سجن تدمر بعد ساعات من الحادثة كرد مباشر عليها، ومرّر حافظ الأسد لـ«مجلس الشعب» القانون 49 الشهير، بعد ذلك بأيام، القاضي بإعدام أي منتسب إلى جماعة الإخوان المسلمين.

قُتل أحد منفذي العملية على الفور. واستطاع عبد الحميد الدامور، ابن كفرنبل، مغادرة البلاد دون عودة ولا كلام. فيما نجا الثالث، محمد زيتوني من حلب، لأشهر كانت كافية لينقل الحكاية.

ولم يكن صاحب القصر يريد السؤال عن شيء. كان يود التأمل فقط في وجه من تجرأ على ألوهته

يقول من عاصروا الأيام الأخيرة للشاب الذي أعدم، في سجن تدمر أيضاً، عام 1981، في الرابعة والعشرين من عمره، أنه اقتيد في زيارة خاصة سيرويها لهم عندما يعود. فقد نقله جهاز المخابرات العامة (أمن الدولة) من السجن الصحراوي إلى دمشق دون سبب مفهوم. وهناك جرت العناية به لأسبوع حتى استعاد هيئة البشر؛ لم يتعرض للتعذيب، غذّي بشكل جيد، استحم وقصوا شعره وأعطاه السجانون ملابس جديدة مناسبة. حتى جاء اليوم الذي اكتشف فيه سبب تلك السلوكات الغريبة، عندما صحبته دورية إلى القصر الجمهوري وأدخلته إلى مكتب الأسد.

كانت التحقيقات مكتملة، ولم يكن صاحب القصر يريد السؤال عن شيء. كان يود التأمل فقط في وجه من تجرأ على ألوهته. روى زيتوني أن الأسد لم يقل كلمة، بل تفرّس وحيداً في وجه ضحيته التي كادت أن تقتله. وعندما رفع نظره عنّي بعد دقائق طويلة، يقول محمد: أخذوني.

كلمات مفتاحية