وطـنٌ للخيانة

2018.04.17 | 16:04 دمشق

+A
حجم الخط
-A

الوطن.. ذاك المفهوم الموغل بالقداسة الذي تعلمنا يوماً أن حدوده ترسم بالدم وترخص لأجله الأنفس وسواها، هل مازال المفهوم يحمل ذاته؟ الرمزية والدلالة ذاتها؟ هل هو واحد بالنسبة لمن يرقص في ساحة الأمويين فرحا بــ"النصر"  ومن يمسح الزبد على وجه طفله المختنق في الغوطة القريبة، هل لهم كلهم فعلاً وطن واحد؟

قد يكون من الإجحاف اليوم سؤال السوريين عن وطنهم الواحد بصورة عامة، فمنهم من لا يعرفه ومنهم من نسيه، ومنهم من لم يتعرف عليه أصلا "وهذا لعمري جيل لا يمكن أن يُعرف أهو محظوظ كونه لم يعرف الوطن بلونه الأصفر، أم هو منكوب دون وطن"، لكن ألا يحتاج السوريون اليوم وطناً واحداً يتفقون على الأقل على إحراقه أو بنائه يجمعون مثلا على أنه محتل أو مستقل، وطن يشبه ذاك الموغل بالقداسة ذا الحدود المرسومة بالدم!

جملة هذه الأسئلة تباغت ذهن الباحث في سيكولوجيا وتركيبة هذا "الشعب السوري" الذي استيقظ فجأة يعلن النصر على العدوان، ويرى أن القصف التجميلي الذي طال بعض منشآت تصنيع الموت الأصفر الذي يجول به بشار الأسد وجيشه على سوريين آخرين يراه فعل احتلال وعدوان، بينما لم يرَ هذا "الشعب" أنَّه هو والوطن ذاته محتل بكل تفاصيله، محتل حتى من خلال المحتفلين الرافعين رايات روسيا وإيران وحزب الله في قلب الوطن "المعتدى عليه"، هذا "الشعب" الساكن الساكت طيلة قرابة العقد عن قتل رهيب يرتكب هنا في الجوار بالغوطة الشرقية وقبلها الغربية، قتلٌ أخر فصوله تسميم حتى النَفس يرافقه دمار لم يبق حجرا على حجر يليه تهجير مستمر سبقه موت في البحار وتشريد في الأصقاع أصاب شعبا كان يسكن الوطن ذاته.. وفي مفارقة أشنع، هذا "الشعب" المنتشي المحتفل كان عرضة لقصف إسرائيلي طيلة سنوات، لم ينته حتى بعد الاحتفال كان القصف يطال جزءاً من الوطن ذاته لكن بعيداً عن ساحات الفرح.

يبدو أن سوريا لم تعد للكل أو بالأحرى أصبح فيها "كلّين"؛ كلٌّ يحشر أو سيحشر في إدلب وجوارها في ريف حلب وكلُّ آخر تجاوز سنوات القتل والدمار والتشريد فرحا

بحثٌ عما يُجمّع.. لن تكون مهمة الأجيال القادمة سهلة في إعادة رسم الوطن الواحد لأن ما نتابعه لا يمكن محو آثاره بسهولة، ولا يمكن مستقبلا أن يعاد إنتاج المفهوم الوطني من خلال كتب المنهاج الدراسي الإجبارية، ولا من خلال مسيرات الوحدة الوطنية الحاشدة، هذا تدمير فعل فعله حتى في نفوس الأطفال، تلك طفلة مغادرة من الغوطة برداء أحمر، شعثاء غبراء ترفض أن تسمي بشار الأسد "بابا"، وذاك مهجّر يختصر بالقول "سنعود عندما تعود الديار ديارنا .. وتكون سوريا لنا كلنا"، يبدو أن سوريا لم تعد للكل أو بالأحرى أصبح فيها "كلّين"؛ كلٌّ يحشر أو سيحشر في إدلب وجوارها في ريف حلب وكلُّ آخر تجاوز سنوات القتل والدمار والتشريد فرحا غير آبه، استمرأ ما جرى رغم سيل العذابات والألم والدم.

مهمة إضافية إذاً لرأب الصدع ورتق الفتق بعد أن كبر وصار بحجم وطن يُختلف عليه، فما حدث من قصف ليس مساً بكرامة الوطن ولا اعتداء على سوريا، ولا ما تلاه من تفعيل لحلقات الدبكة نصر، كل ما حصل هو محاولة لكف يد القاتل عن القتل بالسلاح الكيماوي، ولا ضير إن فعل بسواه فهو باق بإرادة الغرب المهاجم ذاته، وبقوة الاحتلالين الروسي والإيراني، باق مختصرا الوطن وسلامته وكرامته بطلته الصباحية، تاركا عسكره القتلة لمهام "التعفيش" الأخيرة لما تبقى من ذكريات أهل الغوطة الباحثين عن وطن بعيد عن قصف الأسد وموته الأصفر وشماتة الراقصين المنتصرين، وطنا يحبونه.. ويخونونه كما خانه محمد الماغوط.