ودع الشمس فإنك لن تراها مرّةً أخرى

2019.08.24 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

لم يكن لسوري واحد أن يتخيل للحظة أنه سيعيش وقائع وأحداث كان يغلق عينيه عنها عند عرضها في أفلام الرعب الخيالية.

محمد فواز الشريف شاب من محافظة الرقة درس الصيدلة وتخرج من جامعة البعث بُثت شهادته على تلفزيون سوريا في برنامج يا حرّية منذ أيام، محمد الذي لم يتاونَ عن الالتحاق بالثورة والمشاركة في المظاهرات والحراك السلمي، اعتقل من قبل داعش بعد سيطرتها على المدينة، على إثر تحريض المدنيين على داعش وأفكارها المتطرفة، وأطلق سراحه بعد فترة بوساطات عشائرية. انشغل عن الثورة وتفرغ لحياته المدنية وتزوج وكون أسرة.

يروي محمد قصة اعتقاله، فيقول: إنه اضطر للذهاب إلى حمص لاستخراج أوراق ثبوتية تساعده على تسجيل طفله، فقد صار له طفل. طِفلٌ ما كانت لِصورته أن تُغادِرَ مخيلته وسط الجثث المتفسخة.

كان محمد يتجه مع صديقه الذي دعاه إلى مأدبة طعام أراد من خلالها أن يرد دين وإحسان لمحمد عليه، فإن محمد قد أواه عند نزوحه من حمص، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان. انتبه محمد إلى سيارة تتجه نحوه وتوقفه لتطلب منه "الهويّة" دون أن تطلب من صديقه. أخبروه أن عليه أن يصعد إلى السيارة، المسألة لن تأخذ أكثر من عشر دقائق، وكانت زوجته تراه من شرفة المنزل، صعد محمد وانطلقت السيارة وكان آخر ما رآه هو يدي زوجته تضرب على السيارة المسرعة طالبة من السائق التوقف.

دخل محمد إلى فرع أمن الدولة في حمص، ولم تكن التهم الموجهة إليه تهم جديدة إنها ذات التهم التي اعتقل على إثرها أكثر من مليون سوري.

دخل محمد إلى فرع أمن الدولة في حمص، ولم تكن التهم الموجهة إليه تهم جديدة إنها ذات التهم التي اعتقل على إثرها أكثر من مليون سوري. تمويل إرهاب، اختطاف وقتل ضباط من الجيش السوري، المساس بأمن الدولة السورية.

كانت أول رحلة الذل الطويلة عندما جثى على ركبتيه حانياً رأسه للسجان كي يحلق له شعره، وهذا مالم تألفه العرب من قبل، فكانوا يرون أن انحناء الرأس حتى لقص الشعر إهانة وذلّ، وقد قتل جحدر بن ربيعة بالخطأ على يد من ناصرهم في يوم التحالق لأنه رفض أن يقص شعره.

بدأت حفلة التعذيب والتحقيق بعد سؤال يطرح على كل من يدخل فرع أمن الدول رجل أو امرأة شاب أو رضيع، من أعطاك البارودة؟ ويكفي لمتهم مثل محمد أن ينفي التهم الموجهة إليه حتى ينال عذابا أشد ويشبح بطرق جديدة ومبتكرة، فتعقد يداه خلف ظهره بأشرطة بلاستيكية وكذلك قدماه، ومن ثم تُوضعُ قدماه خلف يديه  فيتقلص المتهم إلى نصف جسد على شكل قوس.

لا يجد محمد ومن مثله وقتا طويلا للتفكير بإثباتات تنفي التهم الموجهة إليهم فيصرخون سنعترف بكل شيء تريدونه، وهذا ما حدث مع محمد، فإنه وفي إحدى المرات، لم يحتمل التعذيب وقال: سأعترف بكل شيء ونقل إلى غرفة المحقق وجثى على ركبتيه وما إن رفع رأسه المنحني حتى أكل " الكندرة البنية على وجهه" هكذا قال. لا يزال يذكر لون الحذاء الذي رُكِل به على وجهه.

نسي محمد أنه لا يحق للمواطن السوري أن ينظر إلى الأعلى رافعاً الرأس، كي لا تكسر عنقه بحذاء بني اللون، ولا يحق له حتى في ذروة اعتزازه بنفسه أن يرفع رأسه لدرجة تسمح له أن يرى ركبتي من يعذبه.

نقل محمد إلى فرع الخطيب بعد أن أتم عملية التسوية في فرع أمن الدولة، التي استطاع من بعدها أن يكمل عملية "الإيداع" في زنزانة التسوية التي لا مكان فيها إلا للقمل والحشرات  وبعض المعتقلين من ذوي الحاجات المرضية الحرجة، فهو صيدلي وشهادته الجامعية تستطيع أن تؤمن له عيشة كريمة على هذا النحو في فرع أمن الدولة كما أخبره الضابط.

أدخل محمد إلى المجمع الخارجي في فرع الخطيب وتم استقباله كما يتم استقبال الأحرار عادةً من قبل بعض عناصر اللجان الموجودين في المجمع بعد أن عرفوا أنه من الرقة. لا يمكن لشيء أن يجعلك عرضة للموت في سوريا الأسد "كالهويّة الشخصية" الهويّة الشخصية تحيي وتميت في سوريا الأسد.

أُحيل محمد إلى التحقيق من جديد، وتحدث عن السيخ الحديدي المحمى على نار هادئة عندما اخترق جسده بعد أن نفى تهمة اختطاف محافظ الرقة وأمين الحزب.

كان يتمدد على البلاط ويتألم ولا يطلب شيء سوى أمه، فزعجت هذه الآهات والأنات أحد عناصر اللجان، فعمد إليه بحذاء وراح يضربه على رأسه حتى هشم له جمجمته.

روى محمد عن شاب قُتِلَ بعد عودته من التحقيق فقط لأنه من حمص، كان يتمدد على البلاط ويتألم ولا يطلب شيء سوى أمه، فزعجت هذه الآهات والأنات أحد عناصر اللجان، فعمد إليه بحذاء وراح يضربه على رأسه حتى هشم له جمجمته ومات دون أن يرى أمه. الحذاء هو الثقافة الأكثر انتشاراً في سورية الأسد، فإما أن تأكل الحذاء وإما أن تموت به.

تحدث محمد عن قدميه كيف كُسِرت من شدة التعذيب، وكيف كان يحبو على ركبتيه كطفلٍ يتعلم المشي عند عودته من التحقيق أو زحفاً على بطنه كدودة القز، وكيف كان محمد قباني ولورنس قباني من عناصر اللجان يدوسون على قدميه بعد عودته من التحقيق.

تحدث عن الكهرباء في الحمام وكيف أنه حاول الانتحار أثناء عملية التعذيب، إلا أن محاولته باءت بالفشل مما جعل القائم على تعذيبه يُجن وينهال عليه بالضرب قائلاً: بدك تموت، والله لشهيك الموت.

الموت السريع في سوريا العلمانية الديمقراطية أمر جميل ومحبب لدى الشعب السوري، إلا أن الموت السريع خدمة غير متوفرة بالأفرع الأمنية والمسالخ البشرية السورية، إنه يتوفر فقط وبكمية غير محدودة في المناطق غير الخاضعة لسيطرة النظام السوري، وبأنواع كثيرة كالبراميل المتفجرة، والصواريخ الارتجاجية، والأسلحة الكيميائية المحرمة دولياً وغيرها من الأنواع التي لا مجال لذكرها هنا، إلا أنه يمكن للمهتمين زيارة مواقِعنا على صفحات التواصل الاجتماعي لرؤية الأنواع الأخرى.

 

نقل محمد بعد ستة أشهر إلى "إدارة فرع أمن الدولة" ونظراً لوضعه الصحي المتردي وضِعَ في جناح 26 مع خمسين معتقلاً آخرين بغرفة مساحتها ثلاثة أمتار، من ضمن المعتقلين شخص اسمه أبو النور، عطلت قصة أبو النور لُغةَ الكلام عند محمد فاسترسلت دموعه، أبو النور ناشط بالحراك الثوري منذ بداية الثورة، متزوج ولديه طفل صغير يعاني من مرض بفتحة القلب، أرادت الأم أن تذهب به إلى دمشق للعلاج، أوقفها حاجز لقوات النظام واعتقلها على خلفية زوجها الثورية، وبدأت عملية المفاوضات على أن يسلم أبو النور نفسه مقابل أن تخرج زوجته وطفله، وسلم أبو النور نفسه وبقيت زوجته معتقلة بنفس الفرع. كانوا لا يسمحون له أن يفتح عينه إلا لرؤيتهم وهم يتحرشون بزوجته، وفي إحدى المرات سمع صوتها وهي تُغتصب من الغرفة المجاورة لغرفته، فراح يضرب رأسه من الخلف بالجدار وكأنه يحاول أن يفتح ثغرة، فملأت دماؤه الجدار وأغمي عليه.

مات أبو النور فيما بعد "بسجن صيدنايا" عندما دخل إليه اثنان وبدؤوا يضربونه ومن ثم سحبوه إلى الحمام وقال أحدهم للآخر: "ادبك عليه" والدبك هو متعة النصر عند فرعون سوريا وجنوده وينقسم الدبك إلى نوعين: دبكٌ على أضلاع متكسرة أمثال أضلاع أبو النور بعد ما انتصروا عليه، وآخر بالساحات بعد عملية اغتصاب السيادة السورية من قبل إسرائيل. دُبك على أبو النور حتى كُسِرت رقبته في حفرة الفضلات.

نقل محمد ومئة آخرون إلى السجن المركزي ومن ثم إلى صيدنايا لتبدأ رحلة التعذيب من جديد، فإنهم وعند دخولهم إلى صيدنايا أُمِروا أن يخلعوا ثيابهم تحضيراً لاستقبالهم وبدأ الاستقبال، وكان الضرب شديدا، والألم والصراخ ممنوعان فمن يصرخ يموت، كانوا يصرخون خانقين أصواتهم في صدورهم ، تقلص عددهم بعد ساعة واحدة من مئة إلى سبعة وأربعين رجلاً وعند دخولهم إلى الزنزانة  كان العدد قد تقلص إلى خمسة عشر. خمسة عشرا رجلا سيُعانون من أجل الحرّية.

كانت مدة الزيارة هي ذات المدة التي قال فيها محمد مندهشاً أمي!! كيف استطعتِ؟ فصرخ به العسكري انتهت الزيارة. واُعيد محمد وأحمد إلى الزنزانة.

تحدث محمد كثيراً عن تجربته في صيدنايا وروى أحداث و وقائع حقيقية من الجيد أن تُمثل في أفلام وتُبث على أنها من نسج الخيال.

منها كيف كُسِرَ ظهره أثناء التعذيب لأنه رفض أن يفتح عينه فتكون آخر صورة يراها هي وجه من يعذبه، كان يغلق عينيه بشدة كي تبقى آخر صورة يراها هي صورة طفله.

مات كثير من أصدقاء محمد من العطش فالمياه كانت قليلة، مما جعل البعض يضطرُ إلى التبول بقصعة صغيرة ومن ثم يعود ليشرب بوله. كان فراعنة مصر يشربون البول مخلوطاً بالعسل للعلاج، وأراد لنا فرعون سوريا أن نشرب البول مخلوطاً بالدّم لندرأ الموت من العطش.

لم يكن الطعام بأفضل حال، فكان يقدم للمهجع الواحد الذي يضم 35 رجلاً عشرين حبّة زيتون وثلاثة رغفان من الخبز، فيقسم الطعام بالتساوي يأكل البعض الزيتون ويترك لصديقه البذور، روى محمد عن جرذ خرج من بين البطانيات وبدأ يركض بالزنزانة فحاصروهُ وألقوا القبض عليه، وراح أحدهم يضربه حتى ملئت بذور مخه الجدران، وقرر الجميع أن يقسمه بالتساوي ليكون وجبة عشاءٍ دسمة، إلا أن أحدهم ذكرهم أن هذا جرذ وإن أكله سيُسبب لهم الطاعون وأنه من الأفضل أن يرميه في حفرة الفضلات في الحمام فاقتنعوا منه وذهب إلى الحمام وتبعوه فوجدوه يأكل ذلك الجرذ بشراهة وسرعة ولم يستطع أحد أن يقاسمه وجبته فإنهم وصلوا متأخرين ولم يبق من ذلك الجرذ إلا ذنبه الخارج من فمِ الرجل. وكم أتمنى ألا يصل هذا المقال إلى أحدٍ من كهنة معبد "كارني ماتا" في الهند لكي لا يحرك قضية ضدنا تجعلنا نخضع لعقوبات صارمة على إثر تناول الجرذان التي وجدت من يحميها. وهذا ما يبحث عنه الشعب السوري منذ ثماني سنوات ولم يجده.

استطاعت والدة محمد المحامية العثور عليه بعد بحث طويل في متاهة الأفرع الأمنية والسجون المركزية، وذكر أنه عند خروجه إلى الزيارة خرج برفقته شاب فلسطيني اسمه "أحمد العبوش" من الحجر الأسود، وكانت مدة الزيارة هي ذات المدة التي قال فيها محمد مندهشاً أمي!! كيف استطعتِ؟ فصرخ به العسكري انتهت الزيارة. واُعيد محمد وأحمد إلى الزنزانة.

توفي "أحمد العبوش" أثناء تعذيبه، إلا أنه توفي وهو مسرور فقد رأى أمه قبل أن يموت.

فأن تموت في الوطن الأم سوريا وقد أُشبعت عيناك من أمك التي حملتك وهنا على وهن أمرٌ قلَّ ما يحدث ويستحق أن تحسد عليه.

نُقل محمد إلى "سجن عدرا المدني" بعد وساطات كانت قد حركتها أسرته من خارج السجن بمبالغ مالية، ومع أن محمد شاب لا يستحق الحياة كما قال له الضابط إلا أن هذا النقل ليس لأجله بل لأجل أهله.

عمل محمد فترة وجوده في سجن عدرا في الصيدلية وتحدث عن عمليات السرقة وتهريب الأدوية إلى خارج السجن من قبل ضباط السجن.

خرج محمد من السجن بعد أن دفعت أسرته مبلغ قدره "مئة ألف دولار" الأمر ليس بالصعب، في سوريا الأسد الفاسدة ليس من المهم أن تكون بريئاً أو مذنباً،  ما يهم فقط هو أن تمتلك المال الكافي لكي تستطع إثبات براءتك. فالمتهم مذنب حتى تمتلئ جيوب المحققين.

قضى محمد أربع سنوات من العذاب وهو يصارع الموت لأنه قال حرّية، قضاها بعد ما صَبِأ عن دين البعث ورئيسه، ودعا إلى تحطيم الصنم الجاثم على صدرونا منذ أربعة عقود، متناسياً أن هذا الصنم لم يُصنع من تمرٍ وطين، بل من نارٍ وحديد نارِ من سموم ما زال لظاها يأكل أكبادنا منذ سنين، محمد الشريف ليس الشريف الوحيد الذي عانى في مسالخِ النظام السوري، ما زال هنالك شرفاءٌ كُثر يعيشون ويموتون تحت السياط لأنهم قالوا يوماً حرّية.

كلمات مفتاحية