هل يختلف المسار في المنطقة الكردية

2018.07.22 | 00:07 دمشق

+A
حجم الخط
-A

فيما ينفّذ نظام الأسد عملياته العسكرية في الجنوب السوري بمناطق حوران والجولان بأريحية تامة ووتيرة متسارعة أملتها التوافقات الدولية، فإن أنظار كثير من القوى السورية والأطراف الإقليمية تتجه إلى المنطقة الكردية، أو حتى إلى كافة الأراضي الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية "قسد" في كل من محافظات الحسكة ودير الزور والرقة، والتي يديرها حزب الاتحاد الديمقراطي PYD المحسوب على الكرد، والسؤال المطروح هو هل تسمح واشنطن وموسكو لبشار الأسد أن يتبع مع قسد نفس المسار الذي اتبعه مع فصائل المعارضة السورية المسلحة؟ أي تنفيذ عملية عسكرية تنهي الوجود السياسي والعسكري للـ PYD في تلك المناطق وتعيد سيطرة النظام عليها.

ورغم وجود سيناريوهات واحتمالات عدة إلا أنه لا يمكن تأكيد أو ترجيح حدوث أي منها وذلك تبعاً لغموض وتعقيدات الأزمة السورية وتقلب مواقف الأطراف الخارجية المتورطة فيها، ولكن يمكن الخروج باستنتاجات إذا أخذنا بعض النقاط في عين الاعتبار، إذ لو ألقينا نظرة بانورامية على المشهد الكردي منذ بدايات الأزمة السورية وحتى الآن، سوف نجد أن انطلاق الحراك الشبابي الكردي في المظاهرات تبنّت نفس مطالب وشعارات الحراك السوري، وكذلك نجد الأحزاب الكردية التقليدية تلتحق بالمعارضة السورية وتطالب برحيل نظام الأسد.

الأجهزة الأمنية للنظام (الاستخبارات والشرطة والجيش) التزمت مقراتها بل انسحبت سريعاً من مدن وبلدات كثيرة بالمنطقة، ولم تحاول قمع الحراك الكردي السلمي إلا ما ندر

وما يثير الانتباه هو أن الأجهزة الأمنية للنظام (الاستخبارات والشرطة والجيش) التزمت مقراتها بل انسحبت سريعاً من مدن وبلدات كثيرة بالمنطقة، ولم تحاول قمع الحراك الكردي السلمي إلا ما ندر، وكنا على مرأى ومسمع الاستخبارات نردد هتافات الشعب يريد إسقاط النظام، ونحطم أصنام المقبورين حافظ وباسل، ولم يتعرض الحراك لما تعرضت له المظاهرات السلمية في باقي المناطق السورية من قتل وتشبيح واعتقال، إذ يبدو أن العقل المدبر في النظام امتنع عن استخدام العنف المفرط ضد الكرد نظراً لخصوصية الملف الكردي وامتداده البشري والسياسي إلى خارج الحدود السورية.

حيث خشي النظام من احتمال تدخل غربي بالمنطقة فيما لو قمع الحراك الكردي فيها آخذاً العبرة من إعلان الحماية الدولية لكوردستان العراق في 1991 ما يشكل تهديدا خطيرا لنظامه، بناء عليه عرف النظام  كيف يتعاطى مع الكرد وبذل محاولات لكسبهم إلى صفه أو على الأقل لتحييدهم، وهذا يفسر لجمه لأجهزته الأمنية، وكذلك إسراعه إلى اتخاذ إجراءات مخالفة لسياسته التمييزية القمعية التي اتبعها قرابة نصف قرن بحق الكرد، حيث أعلن رأس النظام أن الكرد جزء من النسيج السوري وكذلك أصدر قرارا بإعادة تجنيس الكرد من ضحايا احصاء 1962 الذي نزع الجنسية السورية عن الكثير منهم، كما أن النظام تجنب استخدام الأسلحة الثقيلة حيث لم ينزل برميل متفجر واحد على قرية أو مدينة في تلك المناطق باستثناء قصف جوي محدود كان يستهدف تجمعات تنظيم داعش، لم يفعل النظام بمناطق الكرد قتلا وتدميرا كما فعل في حلب وغيرها، ليس حبا في الكرد بل لأنه وجد من مصلحته مهادنتهم ريثما يلتقط أنفاسه وينتزع زمام المبادرة.

طلب بشار من الحركة الكردية التقليدية الدخول في حوار ولكنها كانت حسمت خيارها وانضمت إلى المعارضة ورفضت تلك العروض، حينها التقى النظام بالـ PYD وتم التفاهم بينهما على تمكينه من السيطرة على محافظة الحسكة ومنطقتي كوباني/ عين العرب وعفرين، وحدثت عمليات تسليم واستلام، تسلم الـ PYD بموجبها مراكز الشرطة ومقرات الاستخبارات والمعابر الحدودية، فيما احتفظ النظام بسلطته السياسية والمدنية والإدارية والمربع الأمني المركزي في القامشلي، وهذا يعني أن سلطة النظام لم تغب عن المنطقة تماما بل إن قواه الأمنية توارت عن الأنظار تكتيكيا لمدة محددة، ولهذا أسأل من يقول إن النظام يعود إلى المنطقة، هل كان خرج منها حتى يعود إليها؟!

حدثت عمليات تسليم واستلام، تسلم الـ PYD بموجبها مراكز الشرطة ومقرات الاستخبارات والمعابر الحدودية، فيما احتفظ النظام بسلطته السياسية والمدنية والإدارية

خطّ الـ PYD لنفسه طريقا غير طريق الحركة الكردية التقليدية أو طريق المعارضة السورية إجمالا، وحرص على مسألتين أساسيتين وهما عدم المطالبة برحيل النظام بل بالتغيير الديمقراطي وعدم فتح نزاع مسلح مع قوات النظام، وباتت مهمته حفظ الأمن بالمنطقة وتوطيد سلطته عليها، واحتكار القرار السياسي والميداني، وقد نجح هذا الحزب في زمن قياسي في بناء هيكل عسكري "وحدات حماية الشعب" YPG ، وحين تعرضت محافظة الحسكة لهجوم الجماعات المتطرفة المعارضة للنظام تولى الـ YPG عملية مواجهتها ومنعها من السيطرة على أراضي المنطقة ما أكسب تلك القوات سمعة قتالية جيدة، جعلت النظام يحسب لها أكثر من حساب.

ثم ظهر تنظيم داعش الذي اكتسح مساحات كبيرة في العراق وسوريا وهاجم مناطق نفوذ YPG، فوقعت معارك عنيفة بين الطرفين أبرزها معركة كوباني وتأتي أهميتها من أنها لفتت أنظار واشنطن إلى هذا الهيكل العسكري الذي يمتلك عقيدة قتالية مختلفة ما دفعها إلى تقديم دعم عسكري كبير للـ PYD وتوسيع جناحه العسكري تحت مسمى قسد، وتكليفه بمهام محاربة داعش في مناطق بعيدة عن منطقة نفوذها، وقد نجح قسد في الرقة ودير الزور، وهذا ما أرضى التحالف الدولي بقدر ما أرضى النظام والروس والإيرانيين، ما عزز احتمالات نجاح الإدارة الذاتية التي أعلن عنها PYD كصيغة للحكم في مناطق سيطرته، وهذا ما أثار مخاوف قوى سورية وإقليمية، وكذلك زاد من قلق النظام من تنامي علاقات واشنطن مع PYD على حسابه، ما أدى إلى وقوع  اشتباكات بين قوات النظام وقسد في مدينة الحسكة لأول مرة، حينها تدخل طيران التحالف وحذرت النظام من مغبة استخدام السلاح الثقيل ضد قسد، إلا أن الـ PYD حافظ على علاقاته الغامضة مع النظام وبنفس الوقت مع التحالف الدولي، وبدا أن مشروع الـ PYD يسير قدما، ولكن تقلبات الأزمة السورية اعتبارا من عام 2015  حيث بدأت تشهد تطورات حادة تمثلت في توجه عواصم إقليمية ودولية إلى التخلي عن مطلب اسقاط النظام ومنح الأولوية  لمحاربة الإرهاب ، ونتج عن ذلك توافق بين الأطراف الدولية على  تمكين قوات نظام الأسد من الانتصار على فصائل المعارضة المسلحة وإعادة سيطرته على كامل التراب السوري، وهذا ما يحدث الآن حيث تسيطر قوات النظام على مزيد من المناطق.

معركة كوباني وتأتي أهميتها من أنها لفتت أنظار واشنطن إلى هذا الهيكل العسكري الذي يمتلك عقيدة قتالية مختلفة ما دفعها إلى تقديم دعم عسكري كبير للـ PYD

وفي حال انتهائه من حوران والجولان لا يمكن معرفة ما إذا سيهاجم النظام الأراضي الخاضعة للـ PYD  في شرق الفرات أم لا، في هذه المناطق تحديدا النظام لا يملك قراره إذ إنه بدون دعم روسي وبدون موافقة أمريكية لا يستطيع محاربة قوات قسد، ولن تستطيع موسكو نفسها تنفيذ عمليات عسكرية إلى جانب قوات النظام في شرق الفرات نظرا لتواجد قوات أمريكية هناك، وإذا كان الطيران الروسي يهاجم المناطق السورية الأخرى بذريعة محاربة الجماعات الإرهابية، فإن المنطقة الكردية تخلو من هذه الجماعات ومن المعارضة السورية المسلحة كونها تخضع لقوات قسد التي لم تدرجها موسكو على لائحة الإرهاب، إضافة إلى أن العلاقات بين الروس الكرد ليست صدامية بل لها أبعادا سياسية واقتصادية وتاريخية تتعدى ملف الكرد في سوريا، وربما لن يكون من مصلحة موسكو شن عدوان على شرق الفرات، بالنسبة للإدارة الأمريكية فإنها تُعامل هذه المنطقة معاملة خاصة وتفرض عليها نوعا من الحماية حيث تنتشر فيها القواعد الأمريكية.

العلاقات بين الروس الكرد ليست صدامية بل لها أبعادا سياسية واقتصادية وتاريخية تتعدى ملف الكرد في سوريا

وتتجه إدارة الرئيس دونالد ترامب إلى إحكام قبضتها على الحدود السورية - العراقية لقطع طريق الإيرانيين إلى البحر المتوسط وذلك بالاعتماد على قوات قسد، ورغم أن الخطاب المعلن للبيت الأبيض يحصر علاقة التحالف الدولي مع الـ PYD في إطار مكافحة الإرهاب فقط، إلا أن جملة من الوقائع تشير إلى وجود علاقات أعمق من ذلك، حيث بذلت واشنطن جهدا كبيرا مع أنقرة لتفادي اجتياح تركي للأراضي الخاضعة لقوات قسد في شمال سوريا كما حصل في عفرين.

لهذه الأسباب مجتمعة ربما لن يحصل النظام على فرصة لشن هجوم عسكري على شرق الفرات لمحاربة قسد، وطالما اتفق الروس والأمريكان على مسودة خارطة طريق لإنهاء الأزمة السورية عنوانها الفاقع إعادة تدوير نظام الأسد، فلن يختلفوا على إيجاد صيغة حل لمناطق شرق الفرات وبتعبير أدق إيجاد حل للملف الكردي في سوريا، وبهذا الصدد فإن مصالح الروس والأمريكان تجعل وجهات نظر بوتين وترامب متقاربة، وهناك تسريبات تتحدث عن عمل الروس والأمريكان على صيغة للحكم الذاتي في المنطقة الكردية، وربما هذه التسريبات تفسر التصريحات الأخيرة لقادة الـ PYD حول استعدادهم للحوار مع النظام، وكذلك تفسر تفعيل أجهزته الأمنية لنشاطها بالمنطقة، وعودة رموز سلطة النظام إليها، فيما يرى مراقبون كورد أن قادة الـ PYD يتخوّفون من ضغوط أمريكية تجبرهم على الانفتاح على الأحزاب الكردية التقليدية الموالية للمعارضة السورية ولتركيا، وعلى كسر احتكارهم للمصير الكردي وذلك بإشراك تلك الأحزاب في إدارة المنطقة.

وهذه الخطوة قد تطمئن الجانب التركي، كما أنهم يتخوفون من تخلّي واشنطن عن دعم وحماية قوات قسد، ما يسمح للنظام بتنفيذ عملية عسكرية ضدها، وتحسبا لذلك فإن قادة الحزب يبدون حسن النوايا تجاه النظام كي لا يخسروا كل شيء، ويجب التنويه إلى أن القضية الكردية في سوريا ليست ملكا للـ PYD، وليست مطية لأجندته وارتباطاته، كما أنها ليست ملك أي حزب آخر بل هي قضية شعب عانى من الاضطهاد القومي والدكتاتورية طيلة نصف قرن ومن حقه نيل حقوقه القومية، فهذا لا يضر سوريا بل يساهم في تذليل المشاكل التي تنتظرها بعد انتهاء الحرب، وفي النهاية فإن ما يدور حول هذا الملف مجرد تكهنات مثلها مثل الأزمة السورية التي تخضع لتجاذبات القوى الدولية والإقليمية.