هل قررنا أن نحرق الإنسان؟

2019.04.20 | 00:04 دمشق

+A
حجم الخط
-A

البحث عن الإنسان بين بارك غيون والبشير وهيرليند كاسنر وعبد الناصر والأسد ...

سرى في روحي السرور خلال متابعتي لإقدام السلطات المحلية على توقيف الرئيسة السابقة لكوريا الجنوبية بارك غيون، على خلفية فضيحة الفساد واستغلال النفوذ التي أدت إلى إقالتها، بعد أن أصدرت محكمة سيول المركزية مذكرة توقيف بحق بارك بتهم تلقي الرشاوي واستغلال السلطة وتسريب أسرار حكومية بعد جلسة محاكمة ماراتونية.

الشعور الجميل بهذا الخبر وأن في الدنيا رمق عدل مازال يحبو ذلك يطرده خبر عربي مضاد ومحزن عندما أعلن المجلس العسكري السوداني تقديم الرئيس المخلوع لمحاكمة داخلية، وأنه لن يقدم على خطوة تسليم عمر البشير للمحكمة الجنائية الدولية، نافياً أن تكون هذه الخطوة انحيازاً له.

 حسب رأيي أن الصرامة في محاسبة البشير من قبل زملائه ستكون متراخية بل ومفقودة وقريبة من مشهد مبارك الذي تحول من قاتل إلى شاهد محكمة!!!

هل قررنا أن نحرق الإنسان في داخلنا ذلك الطفل الصغير أو الفطرة أو الضمير بهكذا تمثيليات؟ فإما أن نموت ونحن أحياء قهراً من حاكم لا يمثلنا أو أن نعيش ميتين من حاكم قد يمثل فينا إن اعترضنا عليه!

لماذا لم ننجح في محاكمة بشار الأسد وعلي عبد الله صالح ومعمر القذافي ومبارك وزين العابدين وبوتفليقة والبشير وصدام ؟

هل قررنا أن نحرق الإنسان في داخلنا ذلك الطفل الصغير أو الفطرة أو الضمير بهكذا تمثيليات؟ فإما أن نموت ونحن أحياء قهراً من حاكم لا يمثلنا أو أن نعيش ميتين من حاكم قد يمثل فينا إن اعترضنا عليه!    

 بين شرق وغرب من هذه الأخبار كانت هذه الأخبار تستدعي ألمي وحزني...

فاضت جوانحي كمداً وضاقت نفسي بجوانحي وارتفعت في جسدي حرارة من الأسى يتعاقب عليها انكسار لاذع فلا أدري أأبكي أم أبتلع القهر وماهي إلا لحظة حتى انفجر الغيظ واندفع الدمع بلا استئذان بكيت وظللت أبكي..

 يا رب إنهم يحرقون حياتنا وهم يمتطون ظهورنا أثناء حكمهم ويذبحون رؤوسنا وهم أيضاً يترجلون من على ظهورنا آه آه أه ....

 وبعيداً عن هذين الخبرين السياسيين كنت أتابع ما أعلنه مكتب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الخميس 12.4.2019 عن وفاة والدتها السيدة هيرليند كاسنر عن عمر ناهز التسعين عاماً، جاء ذلك في بيان قصير للمكتب طالب فيه باحترام "خصوصية المستشارة وعائلتها".

كما تناقلت بعض وسائل الإعلام إلى أن ميركل كانت قريبة من والدتها التي كانت حاضرة في البرلمان عندما أقسمت المستشارة اليمين عندما تسلمت ولايتها الرابعة العام الماضي. ولم تصدر المستشارة -التي نادراً ما تتحدث عن حياتها الخاصة- أي تعليق علني على الوفاة.

لقد حكمت أخلاق ألمانيا قوانين لاتعرف الجهل والمزاجية ...

ماتت الأم، أم من تحكم البلاد بصمت وحكمت البلاد بنت قسيس بروتستاني السيدة أنجيلا ميركل والتي توصف على نطاق واسع بأنها القائد الحقيقي للاتحاد الأوروبي من خلال منصبها والتي تصنف منذ 2005 ضمن النساء العشر الأوائل الأكثر نفوذا في العالم، وفق مجلة فوربس، وقد حلت ميركل في المرتبة الرابعة بقائمة 2018 التي تضم 75 اسماً للأشخاص الأكثر نفوذا في العالم.

وكانت والدة المستشارة مُدرسة متقاعدة للغة الإنجليزية في بلدة تمبلين، في حين كان والدها الذي توفي عام 2011 قسيساً بروتستانتياً ...

لم يقل المجتمع الألماني:

نحن ضد الدين وأهله، وهذه بنت قسيس ينبغي أن تمنع من الترشح.

لم يتدخل أحد بوالدها ويتحدث عنه أو عن تاريخ الكنيسة وعن سيرة ومسيرة الدين وأنه سبب التخلف أو المأساة.

هذه البلاد عرفت معنى المجتمع المدني والدستوري و كيف تجعل من المختلف صورة مؤتلف رائع .

جراء وقع هذه الأخبار المتعددة في صورها ومصادرها والمتحدة في غايتها حضور الإنسان أو تغييبه ...

مازلت أذكر كيف تحول الوطن في سوريا إلى عائلة سوريا الأسد وأن موت باسل ابن حافظ في 21 من كانون الثاني  1994 تحول إلى عويل جماعي وكأنه حدث فجائعي أصبنا كلنا به وبتنا نضع في بيوتنا ومدارسنا ومكاتب عملنا صورة باسل بالإضافة إلى صورة الأب الرئيس الابن الفقيد.

 كم هو قاس أن تعيش شعوراً مزيفاً فقط لتدفع عن نفسك أي تهمة؟

 كم هي المصيبة كبيرة أن تكون نعم نفاقية كي لا تتعرض لغضب أبي الجماجم الرئيس الحاكم في بلادك ذلك الوحش الناقم؟

لقد قرر المتسيد بالإكراه حرق الإنسان الذي في داخلنا ...وقد قال أتباع الأسد: الأسد أو نحرق البلد ...حرقوا الورد يا شام ...

 كم هي المصيبة كبيرة أن تكون نعم نفاقية كي لا تتعرض لغضب أبي الجماجم الرئيس الحاكم في بلادك ذلك الوحش الناقم؟

 أثناء كتابتي لهذا المقال كان الروائي علاء الأسواني يسرد قصة مفادها أن الكاتب الكبير إحسان عبد القدوس كان صديقاً مقرباً لجمال عبد الناصر وعندما قام الضباط الأحرار بالانقلاب في 23 يوليو/ تموز 1952 ساندهم إحسان بكل حماس وكان مؤمناً أنهم سيصلحون المسار الديمقراطي ويعودون إلى ثكناتهم.

في عام 1954 صار واضحاً أن الجيش جاء ليبقى في السلطة، عندئذ كتب إحسان مقالا بعنوان "الجمعية السرية التي تحكم مصر" دافع فيه عن الديمقراطية ودعا فيه الضباط الأحرار إلى الاستقالة من الجيش والانضمام إلى الأحزاب السياسية. تم القبض على إحسان عبد القدوس وأُودع في السجن الحربي حيث تعرض لإهانات رهيبة وبعد ثلاثة أشهر تم الإفراج عنه وبمجرد دخوله إلى بيته تلقى إحسان مكالمة تلفونية من عبد الناصر الذي ضحك وسأله:

-  ازيك يا إحسان .. اتأدبت ولا لسه؟

ثم دعاه عبد الناصر إلى الغداء وكأن شيئا لم يكن. هل كان عبد الناصر يكره إحسان عبد القدوس؟!

بالعكس، كان يحبه ويحترمه لكن عبد الناصر كان رجلا عسكريا يتلخص عمله في تلقي الأوامر وإصدارها ومثل أي عسكري لم يكن يفهم المعارضة السياسية ولايتقبلها إطلاقا. لقد استاء عبد الناصر من مقالة إحسان فوضعه في السجن ليؤدبه قليلا. كان إحسان محظوظا فهناك آلاف المعارضين لم يكونوا أصدقاء عبد الناصر فقضوا أعواما طويلة في السجن تعرضوا خلالها لتعذيب بشع. في عام 1960 أصدر عبد الناصر قرارا بتأميم الصحافة المصرية وقال بوضوح:

"نحن نبني المجتمع الاشتراكي. أمام الصحفي اختياران: إما أن يلتزم بخط الدولة أو يقعد في بيته".

العنف الذي يقع في بلادنا اليوم هو عنف في جوهره يتعلق بالسلطة ورموزها ويتناول ذلك صنفان:

 صنف يضرب باسم السلطة.

 وصنف يصنعه تعنت السلطة وهو صنف مأجور بعلم أو مستحمر ومأجور بغير علم فيضرب يد السلطة الضاربة بجهل ويقابل الجهل بجهل والدم بدم ليحترق المجتمع بأكمله بين فاعل حاكم ناقم وردود أفعال غير واعية يحرق الإنسان!!

إن العنف الذي يمارس في بلادنا عنف معلن يتمترس تارة باسم العلمانية وتارة باسم الدين وتارة باسم القومية وهو يجتث الفطرة من داخلنا بعد أن قرر حرق الإنسان والدين والقومية والحجر والوطن وركل الدين والتاريخ والمسجد والصليب وكل مقدس ...

 في بلادنا فقط عش بصمت كي تنجو.

في بلادنا لا تنعم بأمان إلا إن كنت فرداً من القطيع المعد للذبح متى أمر صاحب السكين الكبير بذلك ...

إن العنف الذي يمارس في بلادنا عنف معلن يتمترس تارة باسم العلمانية وتارة باسم الدين وتارة باسم القومية وهو يجتث الفطرة من داخلنا بعد أن قرر حرق الإنسان والدين والقومية والحجر والوطن وركل الدين والتاريخ والمسجد والصليب وكل مقدس ...

أظن أننا جميعاً نتحمل المسوؤلية فترهل بطنك لن يزيله رضا جارك ولا شتمك لبطنك وعلل المجتمع لا يكتفي أن نحذر منها بل لابد من علاجها ... وأنه يتوجب علينا أن نبحث عن السبب بدلاً من البحث عن المسؤول وأن نحاول الوصول إلى الجذر بدلاً من الوقوف على الصورة.

 جذر مشاكلنا أننا لم نعرف يوماً الحكم الذاتي ولا التعددية ولا سيادة القانون ولا احترام الخصوصيات الدينية والقومية والحل كل الحل في الديمقراطية وفي بناء مجتمع العلم والسلم.