هل تشفى روسيا من "الحَوَل"؟

2018.09.17 | 00:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

قَتْلُ مسار جنيف السياسي، بخصوص القضية السورية، كان هاجساً لنظام الأسد. روسيا- الشريك في صياغة القرارات الدولية التي وُجِد جنيف للعمل بهديها- تكفلت بإنجاز المهمة؛ فهي- إن لم تتمكن من وأده- سعت إما لعرقلته والإقلال من قيمته بالتنسيق الخفي مع نظام الأسد، أو جعله مِطْيَة لإنجاز ما يخدم النظام. من جانبها، المعارضة السياسية السورية "الإيجابية" تجاه جنيف، رأت أن هذا المسار هو الذي سيجلب لسورية تغييراً وانتقالاً سياسياً تتخلص بموجبه سورية من منظومة الأسد الاستبدادية. كان وفد نظام الأسد يتأخر عن جولات جنيف، يهين المبعوث الدولي، يتهم المعارضة بالخيانة... يوقّت كل جولة بحدث إرهابي يلصقه بالمعارضة؛ بمعنى؛ لم يترك وسيلة إلا واستخدمها لقتل المسار. (وأجزم أنه كان يفعل ذلك بالتنسيق مع الروس). من جانبها، روسيا سعت إلى نسف مصداقية المعارضة وبعثرتها بكل الطرق والوسائل المتاحة وغيرها. كل ذلك لم يُجدِ؛ وبقي مسار جنيف حياً.

عملت روسيا على إفراغ القرارات الدولية من مضمونها: بيان جنيف 2012 أولاً، والقرار 2254 ثانياَ

وهنا، عملت روسيا على إفراغ القرارات الدولية من مضمونها: بيان جنيف 2012 أولاً، والقرار 2254 ثانياَ. فمتابعة لاستراتيجيتها في ضرب مصداقية المعارضة، اعتبرت روسيا مثلاً أن اجتماعات المعارضة التي تمّت في القاهرة وموسكو تستلزم وجود "منصات" جديدة، كي تكون المعارضة مؤهلة وممثِلة للسوريين. حتى ذلك لم يكفها؛ حيث كانت على الدوام تقول: هناك معارضات أخرى. وعندما كانت تُواجَه بذلك؛ وأن هاجسها هو الإبقاء على نظام الأسد بأي شكل- حتى لو استلزم التغطية على جرائم الحرب الكيماوية وحماية الإجرام باستخدام الفيتو- كانت تُنكر، وتقول بأن الأسد لا يعنيها، وهمها الدولة السورية.

كان أخطر ما فعلته روسيا في سورية- طبعاً إضافة لعملها العسكري الوحشي، وإبقائها بالقوة على النظام حياَ، وتحويلها سورية إلى معرض لأدوات القتل التي تصنعها- هو إفراغ وتشويه ما ورد في القرارات الدولية بخصوص سورية حول {وقف إطلاق النار}. ولهذا الأمر ابتدعت مساراَ سمّته "أستانة". بدأ أستانة من أنقرة إثر توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار بين فصائل من الجيش السوري الحر والنظام، ورعاية تركيا وروسيا للجانبين. تحددت علنياً أهداف أستانة بالعسكرية والإنسانية. عسكرياً تم مسخ "وقف إطلاق النار" إلى "هدنة" وصولاً إلى البدعة الجديدة "خفض تصعيد". إنسانياً؛ هناك فقرة في القرارات الدولية تتحدث عن {إجراءات بناء الثقة} وردت في المواد 12 و13 و14 من القرار 2254 تطلب "رفع الحصار عن المناطق، وإيصال الإغاثة الدولية إليها، وإطلاق سراح المعتقلين. زادت روسيا في الطنبور نغماً بإضافة إيران كضامن جديد في أستانة، لتواجدها "ميدانياً في سورية. وبذا ضمنت رجحان كفتها بتقرير ما يكون إمعاناً بتفصيل أي حل على مقاس مصالحها ومقاس الأسد. أستانة روسيا لم تطلق سراح معتقل؛ لم توصل إغاثة؛ ولا رفعت حصارا؛ بل إن مناطق "خفض التصعيد" سرعان ما تحوّلت إلى مناطق "رفع تصعيد"؛ وآخر فصولها إدلب.

أستانة روسيا لم تطلق سراح معتقل؛ لم توصل إغاثة؛ ولا رفعت حصارا؛ بل إن مناطق "خفض التصعيد" سرعان ما تحوّلت إلى مناطق "رفع تصعيد"

استشعرت روسيا أنها تقتل جنيف بأستانة: "في جنيف كل شيء نظري"؛ "لا ثقل ولا ترجمة على الأرض والواقع"؛ في أستانة، على الطاولة المقررين لا المنظرين. هكذا سعت روسيا إلى رسم الانطباع عالمياَ. استجلبت حضور المبعوث الدولي "ستيفان دي مستورة" بعض الجولات. وكان هناك حضور دولي أحيانا. بقي عليها أن تطعِّم أستانة بنكهة سياسية كي تُجْهِزَ على جنيف كلياً. فكان أن قدمت في أحد الجولات دستوراً لسورية. كل ذلك لم ينفع. فبعد أن قطعت روسيا شوطاَ في ابتلاع مناطق "خفض التصعيد"، خلقت مساراً إضافياً للسياسة؛ فكان "مؤتمر سوتشي"، الذي بدأ كمؤتمر لـ "الشعوب السورية" بلغة بوتين إلى أن وصل إلى تجمع غريب عجيب لـ "سوريين" يشبه السرك. وهذا أيضاً كان انتقاءً من القرارات الدولية التي تتحدث عن {مؤتمر وطني سوري} شامل. ولكن ما أغفله أو نسيَه بوتين هو أن من يدعو لمؤتمر كهذا، حسب القرارات الدولية، هو {هيئة الحكم الانتقالي} كاملة الصلاحيات التي نصّت عليها القرارات الدولية. وهنا خرج المؤتمر بما يحفظ قليلاً ماء وجه بوتين، الذي سفكه المؤتمر بإقرار المبادئ الـ 12، التي وضعتها أساساً المعارضة بصيغتها النهائية، وتبنتها الأمم المتحدة؛ إضافة إلى خروجه بـ "لجنة دستورية". كل ذلك من أجل أن يكون لسوتشي رائحة سياسية ترضي طموحات بوتين، بأنه ملك الفعل العسكري والسياسي أيضاً في سورية.

مجمل مقاربات موسكو للقضية السورية عكست قدرة في الفعل العسكري الغاشم وتكتيكات سياسية قاصرة يوشحها الخبث والتخطيط والإيحاء الإيراني مضافاً إليها ألاعيب نظام الأسد ونذالة توجهاتها في البقاء بالسلطة؛ ولو فنيت سورية، أو هلك داعموه أو تشوهوا.

روسيا الآن تعود إلى الدائرة صفر؛ العالم يقف في وجهها تجاه سوريا المصغرة في إدلب. لا هي تستطيع ارتكاب ما يصفه العالم بكارثة القرن

صحيح أن روسيا أخذت تفويضاَ أمريكياً بالملف السوري لتعقيداته؛ بحيث تجني أمريكا الثمر دون أن تتسخ أيديها بأي فعل دموي، تاركة روسيا تغوص بالمستنقع بسجل شريكٍ للإجرام؛ ولكنها تصرفت بكل حماقة معتمدة على "تكتيكات" رخيصة خسرت من خلالها شعباً كان حتى الأمس صديقها مثبتة أنها ليست أكثر من قوة إقليمية ضخمة تتحرك كالدب بلا عقل أو هداية كما وصفها أحد قادة العالم.

وهذا ما يفسر موقفها المربك المتعثر في إدلب. روسيا الآن تعود إلى الدائرة صفر؛ العالم يقف في وجهها تجاه سورية المصغرة في إدلب. لا هي تستطيع ارتكاب ما يصفه العالم بكارثة القرن، ولا هي تستطيع ألا تنفذ ما صرّحت بأنها ستقوم به؛ لا هي تستطيع أن تخسر تركيا، ولا أن تغضب الملالي، ولا أن ترضي طموحات نظام الأسد المريضة. كل ذلك سببه الحَوَل في رؤية حقيقة ما جرى ويجري في سوريا. قرارها الالتصاق بطغمة استبدادية على حساب حق ملايين السوريين أوصلها إلى لحظة الحرج هذه. على كل طريق العودة إلى الرؤية حسب البوصلة الصح ما زال ممكناً؛ فهل تفعلها؟ القمة مع "أردوغان" اليوم ستكون الجواب.