هكذا عاش أكراد سوريا

2018.09.02 | 00:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

الشام قبلة الشعوب

مثلت الديار الشامية قبلة لمختلف الشعوب منذ فجر التاريخ، مرت بها الشعوب اليونانية والإيرانية و القوقازية والآسيوية المغولية والجبلية، وانصهرت جميعها في بوتقة الثقافات السامية في الشام وباتت جزءا من هوية تلك الشعوب على مر القرون، وبهذه الهوية تعاقب أحفاد تلك الشعوب ضمن نسيج المجتمع الشامي كجزء أساسي منه، دون أن يبقى من تمايزهم بالعادات والثقافات واللغات والمعتقدات أي شيء يذكر.

 يستثنى من ذلك الجماعات التي استوطنت الديار الشامية في نهاية الحقبة العثمانية وبشكل خاص في فترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية. والتي شهدت نزوح بعض الجماعات القومية والدينية من مواطنها الأصلية في الأناضول وأرمينيا أو عموم القوقاز، وبقيت محتفظة ببعض الخصوصية اللغوية والثقافية كحال جزء من الأرمن والأكراد والتركمان، أقول "جزء" ، لأن هناك قسما كبيرا من هذه القوميات قديم ومنصهر تماماً في المحيط الاجتماعي السوري، أو الشركس والشيشان الذين استوطنوا الديار الشامية منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

 

الأكراد في عصر الخلافة الإسلامية

لقد عاش الأكراد ضمن محيطهم الإسلامي عموماً، والعربي بشكل خاص لقرون طويلة، وكان لاحتكاكهم بالعرب وبصورة أساسية في الحقبة العباسية الأثر الأكبر في ثقافتهم وهويتهم، وانعكس بشكل مباشر على لغتهم وهويتهم. وقد وحدت العديد من الأحداث التاريخية مصير العرب والأكراد، سواء تلك التي شهدت انخراطا مشتركا للعرب والأكراد في جيوش الخلافة، أو تلك التي خرج فيها جزء من العرب والأكراد عن طاعة الخليفة فيما عرف بحركات الخوارج، فضلا عن الأحداث التي شهدتها الدولة الحمدانية ونشوء الدولة المروانية على يد أسرة كردية، وصولاً إلى الحقبة الأيوبية التي وضعت كلا من العرب والأتراك والأكراد ضمن بوتقة الجيش الإسلامي المواجه للاحتلال الصليبي، مما أثر بشكل إيجابي على التعايش والاندماج بين هذه الشعوب في الشام ومصر، خاصة أن شعوب المنطقة منذ بداية الحقبة الإسلامية حتى نهاية الدولة العثمانية، كانت لا تخضع لتمييز قومي، كان تقسيم المجتمع يجري وفق انتمائهم الديني، تماماً كما عُرف في العهد العثماني بنظام الملل.

الأكراد هم جزء أساسي من نسيج المجتمع المسلم آنذاك، وجزء من ثقافة ولغة عربية في الشام والعراق، مع الأخذ بعين الاعتبار المناطق الأخرى في ديار فارس أو الأناضول والتي تأثر الأكراد فيها بثقافة ولغة تلك المجتمعات أيضاً

الأكراد بهذا المعنى هم جزء أساسي من نسيج المجتمع المسلم آنذاك، وجزء من ثقافة ولغة عربية في الشام والعراق، مع الأخذ بعين الاعتبار المناطق الأخرى في ديار فارس أو الأناضول والتي تأثر الأكراد فيها بثقافة ولغة تلك المجتمعات أيضاً، وحافظ القسم الأكبر منهم على تمايز لغوي وثقافي ضمن بيئتهم الجبلية الوعرة و المعزولة.

مرحلة الاستعمار الحديثة وسياسة الأقليات

مع تراجع الدولة العثمانية وتنازلها التدريجي للقوى الغربية، والذي اتخذ شكل الامتيازات وحماية الأجانب والأقليات، تعاظم نفوذ تلك الدول، وانتهى بالقضاء على الدولة العثمانية، واقتسام معظم أجزاء العالم العربي بين الدول الغربية، فأصبحت العراق وفلسطين وعدن ومصر والسودان وبعض أجزاء الخليج تابعة للإنكليز، بينما كانت سوريا وتونس والجزائر والمغرب من حصة فرنسا، في حين كانت ليبيا لإيطاليا مع نفوذ أسباني على بعض أجزاء المغرب.

حاول الاستعمار الغربي توسيع رقعة نفوذه في العالم العربي وبين السكان عبر اللعب على وتر الأقليات، التي يتم تشجيعها وإشعارها بتمايزها، وتوطين مزيد من الأقليات أو استقطابها من دول الجوار، وإعطائها حقوقاً ومزايا لم تكن متاحة لأعضاء الأكثرية، بحيث تتحول الأقلية إلى جيب سكاني يرتبط مصالحه وتطلعاته بالقوى الاستعمارية الجديدة "الحامية"، ويتم دعمها بالنفوذ لجعلها مجموعة وظيفية وسيطة بين الاستعمار والسكان المحليين، وغالباً ما يتم دعم تشكيلات قتالية منها لاستخدامها عند الحاجة كما فعل الفرنسيون في ما يسمى " بجيش المشرق".

وكجزء من هذه العقلية الاستعمارية، قامت فرنسا بتطبيق هذه السياسات في سوريا تحت شعار "حماية الأقليات"، وبدأت تجري إحصائيات سكانية وترسم خرائط مُقسمةً بذلك الشعب السوري بدلالة الدين والقومية والمذهب والطائفة لتعزيز فكرة وادعاء "الفسيفساء السورية"، التي تهمل معها حقيقة وجود أكثرية سكانية لها ثقافة ولغة وهوية مشتركة، وبدأت تعزز مبدأ المحاصصات على هذا الأساس مع تفضيل للأقليات في مواقع النفوذ والجيش، مع دعم لهجرة الأقليات الدينية واللغوية من دول الجوار وخاصة العراق وتركيا إلى سوريا، فحدثت موجات لهجرة السريان والأرمن وجزء من الأكراد والآشوريين، مع تفضيل للأقليات المسيحية في هذا الإطار.

جزء من خارطة فرنسية تظهر التقسميات الديموغرافية وفق الطوائف والمذاهب والقوميات.

 

أكراد سوريا قبل الاحتلال الفرنسي

قبل مجيء الفرنسيين يمكن تمييز نمطين من الأكراد في سورية وهما:

1-  أكراد المناطق داخل سورية: وهؤلاء اندمجوا بشكل كامل في المجتمع الشامي كما أشرنا، وخاصة الأسر التي وُجدت في حماة أو في حوران والتي في أحسن الأحوال كانت تعرف بجذورها الكردية عن طريق لقبها "الكردي" فقط، أما أكراد حي الأكراد، فالغالبية العظمى كانوا قد نسوا لغتهم الكردية، لكن معظمهم يعرف بأسماء البلدات أو العشائر التي انحدر منها أجداده من الأناضول في الحقبة العثمانية، وساهمت الهجرات المستمرة إلى هذا الحي بتغذيته بعوائل جديدة ساهمت إلى حد كبير بالحفاظ على أسماء عشائرها الأصلية.

2- أكراد المناطق الحدودية: وهؤلاء كانوا من نمط العشائر الرحل وأنصاف المستقرين أيضاً، وينتشرون في مناطق الجزيرة وعين العرب وعفرين "جبل الأكراد"، وهم وعلى الرغم من تأثرهم الواضح بثقافة محيطهم من القبائل العربية من حيث العادات والتقاليد واللباس وإتقانهم للعربية، إلا أنهم لم ينسوا لغتهم الكردية وحافظوا عليها، خاصة أن معظم هذه العشائر كانت تقيم في الصيف بقطعانها في براري ديار بكر وماردين وبحيرة وان وتتصل مع باقي العشائر الكردية هناك، وفي الربيع والصيف تكون متصلة بالقبائل العربية في المناطق السهلية.

صورة تجمع وجهاء عشيرة الميران الكردية مع البرلماني عبد الكريم آغا

أكراد سورية بعد الاحتلال الفرنسي

مثلت سوريا في تلك المرحلة وجهة مفضلة لديهم في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية والأمنية في مناطقهم مقابل ازدهار البيئة الاقتصادية في المناطق الخاضعة للإدارة الفرنسية. 

بعد الاحتلال الفرنسي، ونتيجة للهجرات التي شهدتها المناطق الحدودية بعد ترسيم الحدود الجديدة بين تركيا وسوريا، وتشجيع الفرنسيين كما أشرنا إلى الهجرة إلى هذا الجانب السوري لأهداف عديدة سياسية واقتصادية أيضاً، شهدت المنطقة نزوح العديد من الأكراد أيضاً إلى المنطقة، بعضهم من تلك القبائل التي كانت تتنقل بين مناطق رعيها الصيفية والشتوية التي بات جزءا منها ضمن الحدود التركية والآخر ضمن الحدود السورية، ففضل جزء منها العيش ضمن الأراضي السورية، وقسم من تلك الهجرات كان يمثل هجرة أكراد القرى التي تعرضت لتدمير في الجانب التركي على أثر الثورات الكردية، وهؤلاء كانت لغتهم وثقافتهم كردية خالصة، ومثلت سوريا في تلك المرحلة وجهة مفضلة لديهم في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية والأمنية في مناطقهم مقابل ازدهار البيئة الاقتصادية في المناطق الخاضعة للإدارة الفرنسية. وقد ساهمت هذه الهجرات التي ضمت أيضاً القوميين والثوار الأكراد والرعيل الأول للحركة الكردية التي بدأت بنشاطها السياسي والثقافي انطلاقاً من سوريا، بتعزيز الشعور القومي لدى الأكراد في هذه المنطقة، بما في ذلك العشائر الكردية القديمة العهد بالمنطقة.

 

الأكراد بوصفهم عنصر "ريبة" في العقلية السورية

لا شك في أن السياسات الفرنسية كانت تصطدم بتطلعات النخب السورية المتطلعة للاستقلال، وكانت رجالات الدولة السورية ومثقفوها والمشتغلون في السياسة آنذاك، يحذرون من سياسة فرنسا اتجاه الأقليات أو توطين العناصر غير العربية في سوريا ومنحها امتيازات، هذا ما دفع بالعلامة محمد كرد علي سنة 1931 إلى إطلاق تحذيرات عبر رسالته إلى رئيس الجمهورية تاج الدين الحسني، يشير من خلالها إلى وضع المهاجرين في المناطق الحدودية من الجزيرة، وسياسة الفرنسيين بمنحهم الأراضي على ضفاف الأنهار ومنابعها، ويطلب نقلهم وتوزيعهم في مناطق مختلفة من سوريا، عبد الرحمن الكيالي أيضاً أشار إلى استياء الوطنيين من مسألة توطين الآشوريين في الأراضي الخصبة على نهر الخابور، واتهم الفرنسيين بتشجيع استيطان العناصر الغريبة في المنطقة. أما الملازم محمد طلب الهلال المسؤول الأمني في الجزيرة في بداية تسلم البعث للسلطة، فقد تضمن تقريره تحذيرات من الأكراد القريبين من الحدود وعلاقتهم المتنامية مع البرزاني وحركته القومية ودعا إلى ترحيل الأكراد من الحدود ووضع حزام عربي من العشائر العربية للفصل بين الأكراد على جانبي الحدود. وقد كرس النظام البعثي في عهد الأسد النظرة السلبية للمحيط الاجتماعي السوري تجاه الأكراد بوصفهم عنصر شك وريبة في انتمائهم الوطني، على الرغم من دعمه للأحزاب والحركات الكردية واستثمارها لأجندة إقليمية للضغط على الأتراك والنظام البعثي اليميني في العراق.

 

الإيديولوجية الكردية تحوّل الكردي لعنصر "استيطاني" غريب

 إضافة إلى ما سبق ذكره من صورة الكردي التي تشكلت في ذهن العربي وبشكل خاص في مناطق التعايش المشترك بين العرب والأكراد، فإننا من المهم أيضاً أن نشير إلى الإيديولوجيات المتأخرة للقوميين الأكراد، والتي سعت إلى تحويل الأكراد من جزء من المجتمع السوري وثقافته، إلى عنصر "استيطاني" غريب، ويمكن أن نبرز أهم هذه الممارسات عبر النقاط التالية:

1- السير على خطى الأتراك، بالتخلي عن الحرف العربي واستبداله بالحرف اللاتيني في إطار النظريات التي ظهرت بداية القرن العشرين، والتي تفيد بأن الأكراد شعب ينتمي للعنصر الهندو-أوروبي، والتقرب من الأوروبيين على هذا الأساس لدعم التوجه القومي لهم آنذاك.

2- سعي الرعيل الأول من الأكراد لإظهار وإثبات تمايز الأكراد عن محيطهم الاجتماعي، وإبراز المشترك الثقافي مع الشعوب الإيرانية وتعزيزه عبر "ابتكار العلم الكردي المأخوذ من ألوان العلم الإيراني بعكس ترتيب الألوان، رمز الشمس كدلالة على عقائد كردية ما قبل إسلامية، اعتماد النيروز كعيد قومي بوصفه عيدا مشتركا للشعوب الإيرانية.. إلخ".

3- اتخذت جميع الأحزاب الكردية التي بدأت بالظهور في سوريا منذ سنة 1957 مرجعياتها من خارج سوريا تمثلت بقيادة الملا مصطفى البرزاني، ثم جلال الطالباني وعبد الله أوجلان، مما عزز الاتجاهات القومية وفق منظور الأكراد غير السوريين في ظروف لا تتناسب مع وضع الأكراد داخل سوريا.

4- تطور الخطاب الكردي في سوريا منذ الاحتلال الأمريكي للعراق، وبشكل خاص مع بدء الثورة السورية، وبات هناك سعي واضح لدى القوى السياسية الكردية لتعزيز مصطلحات لتعريف بعض المناطق السورية التي يتعايش فيها الأكراد إلى جانب العرب وباقي المكونات، بوصفها "مناطق كردستانية" و "أرض تاريخية للأكراد"، وباتت الخرائط المتخيلة لكردستان الكبرى تضم أجزاء كبيرة من سوريا، مبررة الحراك العسكري للميليشيات الكردية التي تحالفت مع الأسد منذ بداية الثورة وحتى قدوم الأمريكان، الأمر الذي بات يعزز صورة المشروع الأحادي "الاستيطاني" لأكراد سوريا في عيون السوريين، ويعزز بالمقابل في العقلية الكردية المتأثرة بالخطاب الديماغوجي القومي، فكرة أن للأكراد حقوقاً قومية وأحقية في حكم ذاتي وإقليم كردي، وأن الوجود العربي في هذه المنطقة هو احتلال لأرض كردية منذ الحقبة الإسلامية، واستعادة هذه المنطقة بوصفها جزءاً من كردستان هو الوضع الطبيعي، مع كم هائل من الدعايات التي تسعى لتشويه صورة العرب وتعويم فكرة انعدام سبل التعايش المشترك مع السوريين وشيطنتهم، وخاصة أولئك المؤمنين بالثورة السورية، وتعزيز فكرة المظلومية واستهداف الأكراد من قبل الشعب السوري، مايعني تبرير الخطاب الانفصالي تحت شعار "الفيدرالية، الحكم الذاتي"، بوصفه حلاً يؤمن تعايش السوريين ضمن إطار دولة تتبنى اللامركزية السياسية، كمقدمة لإقليم كردي إلى جانب أقاليم كردية في دول الجوار، كمقدمة لتوحيدها مستقبلاً في إطار كردستان الكبرى.

خلاصة: الحال على ما يبدو في سوريا حتى الآن لا يبشر بقرب انفراج لأزمتها السياسية، لكن بالمقابل لا يوجد ما يشير أيضاً إلى أن المشروع الكردي في سوريا قابل للتحقق، على الرغم من السيطرة الواسعة لميليشيات قسد المدعومة عسكرياً من قبل أمريكا. ويبدو أن خيبة الأمل للمشروع الكردي في العراق بعد فشل الإعلان الأحادي المتعجل للاستفتاء في إقليم كردستان، وإعلان متعجّل أيضاً للسيطرة على مناطق خارج إقليم كردستان العراق " المناطق المتنازع عليها"  ثم الانسحاب منها بعد تحرك الجيش العراقي، كل ذلك ترك آثاره السلبية أيضاً على تطلعات الأكراد  في سوريا، الذين أدركوا أن مشكلتهم الأساسية في الواقع لا تكمن مع أبناء وطنهم السوري، أو الأكثرية العربية التي دفعت الثمن الأكبر في مواجهة الاستبداد، بل المشكلة تكمن في عدم وجود رغبة إقليمية ودولية لدعم بروز كيان كردي بغض النظر عن حدود هذا الكيان أو إمكانية تحقيقه على الأرض.

في سوريا طرح مشروع قومي كردي لن يؤدي في نهاية المطاف سوى إلى صدام لا يفضي إلى طرف منتصر بل الكل خاسر، هذا إذا لم نقل بأن الأكراد قد يكونون فيه أكبر الخاسرين إذا أخذنا بعين الاعتبار حقيقة وضعهم الديموغرافي في سوريا. يتعين هنا أن تخرج الأطياف السورية جميعها من قوقعاتها الإثنية والمذهبية وتتطلع لبناء وطن لجميع السوريين، ويحفظ حقوق الجميع على قاعدة المواطنة والكفاءة لا المحاصصة والأطماع.