هجاء المؤسسة العسكرية

2019.07.08 | 00:07 دمشق

+A
حجم الخط
-A

ماريو بارغاس يوسا أحد أشهر روائيّي أميركا اللاتينية، منافساً صديقه اللدود غابرييل غارسيا ماركيز على صدارة المشهد، لا سيما مع حصول الاثنين على جائزة نوبل.

ولد بارغاس يوسا عام 1936 وقضى شبابه يسارياً قبل أن تتحول ميوله السياسية فيصبح مرشح اليمين لرئاسة بلاده البيرو. كتب عدداً كبيراً من الروايات، لعل أبرزها «حفلة التيس» التي يشرّح فيها النظام الدكتاتوري لحاكم جمهورية الدومينيكان الجنرال تروخييو، و«بانتاليون والزائرات» التي نعرضها هنا.

في مطلع هذه الرواية تعاني قيادة جيش البيرو من مشكلة كبيرة يتسبب بها جنود القطعات المتمركزة في منطقة الأمازون أقاصي البلاد. فقد تواترت اعتداءات هؤلاء على نسوة القرى والبلدات المحيطة إلى درجة أثارت غضباً عارماً لدى الأهالي الذين أخذ بعضهم ينتقم بمهاجمة الجنود وتأديبهم بقسوة، مع عجز المحاكم عن استيعاب هذا القدر الكبير من القضايا والبت فيها.

وبعد عدة محاولات فاشلة لإيجاد حلول وافقت القيادة على اقتراح غريب من رئيس «الشؤون الإدارية والتموين والخدمات» في الجيش، بتشكيل جهاز «خدمة» خاص من المومسات لتلبية حاجة الجنود الذين يقضون وقتاً طويلاً في الأدغال. ولإنشاء هذه المجموعة تم تكليف نقيب شاب شديدة الاستقامة، تخلو سيرته المسلكية من أي عقوبة، لا يشرب الخمر ولا يدخن، ذي قدرات تنظيمية وتنفيذية عالية، شديد الالتزام بأوامر رؤسائه. سيكون الوصف الرسمي للنسوة على الورق هو «الزائرات»، أما اسم الضابط فهو بانتاليون، ومنهما يأتي اسم الرواية.

سيأخذ النقيب وقتاً قبل أن يستوعب مهمته المفاجئة، غير أنه سيستجيب لها ما دامت في مصلحة جنود الوطن. بعد أيام سيحزم أمتعته ويصطحب زوجته وأمه لينتقل للعيش في موقعه الجديد، واضعاً نفسه في تصرف قائد المنطقة الخامسة، الجنرال الغاضب من الأوامر التي وردته من العاصمة بتسهيل هذه العملية الفظيعة، والذي سيوبخ النقيب المتعرّق الذي يوضح مراراً أنه ليس صاحب الفكرة. ثم يمنحه مستودعاً مهملاً خارج المدينة، ويأمره بأن يحيط «عمله» بالسرية القصوى وبإخفاء هويته العسكرية أمام الناس حرصاً على نقاء سمعة الجيش. ونتيجة ذلك سيواظب النقيب على ارتداء الملابس المدنية، وهو ما كان يحزنه، ولن يتمكن من السكن في القرية العسكرية، وهو ما سيزعج زوجته التي افتقدت الكثير من التسهيلات التي تُمنح هناك لعائلات الضباط. وأمام تكتم النقيب حول مهمته لم يكن أمامها سوى الاستنتاج بأنه مكلف بعمل أمني، ولكن ما هذه المهمة الاستخباراتية التي تتطلب السهر في الملاهي ومرافقة المشبوهين والعودة مخموراً آخر الليل؟!

كان عليه أن يتعرف إلى أجواء الدعارة ليجنّد من يلزم من العاهرات وبعض محترفي ومحترفات القوادة لتنظيم أمورهن

لم يكن بانتاليون قد تغير، لكنه كان مضطراً إلى دخول عوالم العربدة التي لم يألفها حتى عندما كان طالب ضابط في الأكاديمية. كان عليه أن يتعرف إلى أجواء الدعارة ليجنّد من يلزم من العاهرات وبعض محترفي ومحترفات القوادة لتنظيم أمورهن.

أما الجانب الرسمي من المهمة فيتولاه عبر مراسلات سرية متبادلة تعد من أطرف أجزاء الرواية بسبب التزامها برصانة اللغة البيروقراطية وصرامة القاموس العسكري. إذ يصف في البداية الموقع الذي استلمه وأخذ بتنظيفه وتأهيله ليكون «مقر قيادة» و«مركزاً لوجستياً» تنطلق منه «الإرساليات» بعد أن تُقِر الخدمة نظام مواصلاتها إلى المساحة الكبيرة التي ستغطيها، وتشمل 8 حاميات و26 موقعاً و45 معسكراً سيتم الوصول إليها بالجو وعبر الطريق النهري. وقد جرت مراسلة قادتها للحصول على المعلومات اللازمة وفق استبيان موحد يتضمن عدد الجنود والرتباء العازبين والذين ليست لهم خليلات في الجوار، وتقديراً «ماكراً ومتكتماً» لاحتياجاتهم الجسدية الدنيا والقصوى ومدتها، وإرسال المتوسط الحسابي الناتج عن الجداول السابقة.

ينوه النقيب بالحماسة والسرعة والفعالية التي تجاوب بها قادة المواقع، مما أتاح له فرصة وضع تقدير لحجم المهمة المنوطة به، وهي 104،712 (مئة وأربعة آلاف وسبعمئة واثنتا عشرة) تقدمة. وهو، كما يقول، هدف بعيد المنال في الظروف الحالية، مما يدفعه إلى بدء الخدمة بتحديد أهداف متواضعة، أملاً في الوصول إلى تغطية كاملة للمتطلبات من الناحية الكمية لإشباع «فحولة» جنود الوطن.

يطلب بانتاليون من قيادته إرسال مجموعة منتقاة من الكتب المتخصصة لإنشاء مكتبة تدعم الزائرات، وهو ما لم يستطع تأمينه من المكتبات القليلة للمدينة الصغيرة حيث يقيم، «بل إننا مررنا بلحظات حرجة»... ويراسل قيادة الأسطول التي تقدم له سفينة لتنظيم النقل إلى مواقع المنتفعين، وتطالب، في الوقت نفسه، بشمول البحارة في قواعدها في مناطق الأمازون النائية بخدمة الزائرات. أما القوى الجوية فقد أبدت تحفظها على نوعية هذه الخدمة، لكن هذا لم يحل بينها وبين الاستجابة لطلب النقيب بتخصيص طائرة مائية لنقل الزائرات عند اللزوم، بعد تمويه لونها الرسمي المعروف وتغيير اسمها إلى «دليلة». في حين قدمت إدارة الخدمات الصحية الممرضين الذين تعدّهم الأكفأ لتلبية احتياجات جهاز خدمة زائرات الحاميات، بالكشف عن القمل والصئبان والأمراض الزهرية والالتهابات المعدية. أما الشؤون الإدارية فقد أوعزت إلى رؤساء أقسامها في مواقع المنطقة الخامسة بتنظيم كوبونات كرتونية بأحد اللونين الرمزيين لخدمة الزائرات؛ الأحمر والأخضر، دون أي كتابة عليها. يخصص الأحمر للجنود، بعشرين سولاً للكوبون، والأخضر للرتباء (من عريف إلى رقيب أول) بثلاثين. لكن سلك الكهنة العسكريين كان، كما هو متوقع، أشد خصوم مشروع «الساقطات» هذا، ورأى فيه «خطيئة عظيمة» يأمل أن ينوّر الرب قادة الجيش لتصحيحها.

يبذل بانتاليون كل ما في وسعه لإنجاح المشروع وتطويره، رغم أنه يعرف أن الوصول إلى الهدف بعيد المنال. يضبط الزائرات بأشد ما يستطيع من حزم، محاولاً إفهامهن وضعهن الجديد بوصفهن «موظفات مدنيات في الجيش» لا عاهرات، وملاحقة من تستمر منهن في العمل لحسابها خارج أوقات الدوام. يعير «النشرات المناسبة» في الثكنات لتسهيل الموضوع، ويوصي الضباط بالاعتماد على سجل الخدمة الأفضل للعساكر خلال الشهر ليختاروا الزائرة التي يفضّلون. يحل مشاكل التوزيع التي تستفز قادة القطع؛ موضحاً للكولونيل فالديس أنه لا يعتقد أن سلاح المدفعية أقل رجولة من المشاة، وممتصاً غضب الكولونيل كاساهوانكي الذي اشتكى إلى القيادة بسبب تأخر القافلة، ومبرراً للكولونيل دافيلا عدم استطاعته إرسال أكثر من زائرتين لقطعته حالياً. يُعدّ دراسة دقيقة للتوسع، فبرفع الميزانية 22% ستزداد الديناميكية 60%، وهو ما توافق عليه القيادة ويجتذب عدداً كبيراً من المتقدمات بعدما شاع في قاع المدينة الإعجاب بظروف العمل المنتظم والآمن في «بانتالاند»، كما سميت شعبياً.

في الذكرى الأولى لتأسيس «الخدمة» سيحتفل أفرادها بمأدبة غداء محلي، كما يكتب النقيب في تقريره، منتهزين الفرصة لوقفة تأمل و«تبادل وجهات النظر والاقتراحات والانتقادات الإيجابية». وفي كلمته أمام الحفل يستعرض ما حققته الوحدة باستخدام أقصى حدود طاقتها العملياتية، وهو «الطموح الأسمى لكل مؤسسة إنتاجية». فيما تفاجئه النسوة بغناء عمل موسيقي ألّفنه ليكون نشيداً للزائرات بعنوان «فلنخدم، فلنخدم، فلنخدم جيش الأمة»، وهو ما ستصادق عليه القيادة بعد التوجيه بتغيير لحنه ليصبح مستمداً من «الفلكلور الوطني الغني».

تصعب الإحاطة بالمراسلات المتشابكة والمتصاعدة بين قطعات الجيش المعنية بشأن الخدمة. وهي تنضح بالمماحكات المضحكة ضيقة الأفق لكن المصاغة بمهابة رسمية، فضلاً عن الإحالات الوطنية والعسكرية!

غير أن مهمة النقيب ستأخذ بالتفكك مع تورطه بعلاقة مع «البرازيلية»، وهي أجمل الزائرات. وهو ما سيؤدي إلى أن تهجره زوجته، بالتوازي مع حملة شرسة تولاها إعلامي محلي مؤثر وذائع الصيت بعدما رفض بانتاليون رشوته، ومع مطالبة الضباط أن يستفيدوا من الخدمة أيضاً، وصدامات متكررة مع مدنيين حاولوا خطف الزائرات، مما أدى أخيراً إلى مقتل «البرازيلية» التي ينعيها النقيب علناً بوصفها «جندية شجاعة»، وهو يرتدي زيه العسكري الذي يظهر به في المقبرة لأول مرة، مما يؤدي إلى إثبات علاقة الخدمة بالجيش بوضوح، وانهيار كل شيء...

تأتي سخرية الرواية من الجدية المفرطة التي صيغت بها فكرة ربما لا تعدو أن تكون مجرد نكتة في الأصل، وفيلماً ذا ملمح كوميدي عندما قدمته السينما مرتين عامي 1977 و1999.

للسخرية وظائف نفسية تطهرية في حياة الأفراد والجماعات. لكن الأدب يمكن أن يسخر من الجنرالات المتجهمين وهم قابعون في المكاتب، أما عندما تسيل الدماء على أيديهم فيُحاصَر التهكم وينكمش المزاح. عندها يمكن لقطاع كبير من السوريين أن يصدقوا أكذوبة مثل «جهاد النكاح»، مترجمين أوهامهم إلى مصاف الحقائق. وعندها سيردّ سوريون آخرون بتبني تهمة «صبايا العطاء» السخيفة، رافعين الشتيمة إلى مستوى الوقائع كذلك...