نَدَمٌ جماعيٌّ يصرخُ "آه لو ترجع"

2019.07.29 | 15:07 دمشق

+A
حجم الخط
-A

تختصر أغنية "لو ترجع" بصوت الفنان السوريِّ الحُر عبد الحكيم قطيفان، مهداة، في أربعينه الحزين، إلى الشهيد عبد الباسط الساروت الذي غدا أيقونة الثورة السورية، اللاشعور الجمعيَّ الذي يستوطن الآن وجدان السوريين، وهم يرون ثورتهم يخبو بريقها يوماً إثر آخر.

تلك اللوعة بادية في كلمات المرثاة التي كتبها الشاعر فراس الرحيِّم، وفي لحنها الذي صاغه بالوعي نفسه المنتمي لمساحة الندب والندم، الشاب المبدع دياب ميقري، وحتى في اختياره للآلات الموسيقية التي يمكن أن تصاحب مرثية بكل هذا الحزن.

لوعةٌ تظهر إلى ذلك، في الفيديو المصاحب للأغنية وفق رؤية فريق العمل، ليعمل تلفزيون سوريا على إنتاج هذا كله، معلناً، على ما يبدو، تبنيه لهذا الشعور الجمعيّ الباطنيّ والظاهريّ الذي تعززه الأحداث كل يوم: القصف اليومي المتوحش لبلدات إدلب وما حولها، المستند إلى صمت عالميّ وتواطئ تركي وتفاهمات إقليمية. انحسار مساحة المدن المحرّرة في عموم الأراضي السورية. حرق محاصيل القمح في أكثر أماكنه ارتباطاً بالرزق ومواعيد المواسم، في عملية عسكرية تشبيحية إجرامية متواصلة، تريد أن تحيل الحجر والشجر والبشر إلى رماد. تلك الحملة غير الإنسانية ولا الأخلاقية ضد اللاجئين السوريين في لبنان وتركيا وغيرهما، وبما يشتمّ منه رائحة نتنة ولعبة قذرة. تراجع، حتى، الزخم السياسي الساعي لتوضيب تسويات ما. انكفاء الخبر السوري إلى ذيل نشرات القنوات العالمية وحتى بعض القنوات العربية التي كانت تحسب بشكل أو بآخر لصالح الثورة والناس وليس ضدهم (الجزيرة على سبيل المثال).

وجع النايات (أبدع تيركر دينليتِر على نايه)، جروح الكمنجات (في اسطنبولها)، حفيف الوتر في خشب عود أسامة بدوي كأن الشجرة تبكي والطير يبكي والهواء الشفيف الآتي من نهر الجغجغ: آاااه لو ترجع

الأفقُ أسود، ولهذا لبست الكلمات ثوب الحداد:

"يوم الـ ودّع

اشقد تمنّينا وغنّينا

ترجع حمص ونمشي بيها

اشقد حلمنا نزفّ الثورة

نوصل للشام نحنّيها.. ونطوي المدفع

نطوي المدفع،

نروح لحمزة بدرعا نزوره

أرض الأحرار نحييها

هالحز وينك عبد الباسط

نيال الأرض اللي بيها.. لونّك تسمع

لو تسمع ربعك بوداعك

دمع يرسملك ممنونك

بعيونك عاش أوجاعك

تستاهل سوريا عيونك

آه لو ترجع".

وجع النايات (أبدع تيركر دينليتِر على نايه)، جروح الكمنجات (في اسطنبولها)، حفيف الوتر في خشب عود أسامة بدوي كأن الشجرة تبكي والطير يبكي والهواء الشفيف الآتي من نهر الجغجغ: آاااه لو ترجع.

يبدأ فيديو الأغنية بطيف للساروت يحاول قطيفان القبض على معناه قبل أن يختفي الطيف ويذوب في ضوء المطلق الذي سافر الساروت إليه شهيداً تَمَسَّكَ بجذوة الثورة قوية نابضة داخل عروقه.

الأغنية لم تكن مفصولة عن الثورة السورية، رافقتها منذ انطلاقتها، والساروت/ الأيقونة نفسه أشعل ساحات الثورة في حمص وغيرها بداية بالغناء والحداء وترويد أهازيج الأمل: "جنّة.. جنة.. جنة.. سوريا يا وطنا"، قبل أن يفرض عليه النظام المجرم حمل السلاح.

الأغنية كانت حاضرة وسوف تظل: "يا حيف" سميح شقير، "ارحل.. ارحل يا بشار" إبراهيم قاشوش بلبل الثورة وحنجرتها التي اقتلعها الشبيحة في رمزية دالة على وقع الكلمة وأثر الصوت الشادي.

شكّل برحيله الموجع بينما رفاقه يبحثون عن مشفى يوقف نزيفه، صدمة دامية أعادت السوريين إلى بوصلاتهم التي ما كان عليهم أن يتيهوا عنها، وهو ما يبثه مثل البوح المقطع التالي: "تسند كلشي تراخى حيله"

وفي المقطع الأكثر حزناً ولوعة تطلع الآه كأنها الخضرة التي قتلها الطغاة: "آه لو ترجع كل تشم (كم) ليله"، باعتراف صريح أن السوريين يرفضون فكرة موت الأيقونة، وأن عبد الباسط الذي ظلمه ذوو القربى قبل الأعداء، وتبرع بعض المحللين (الجهابذة) بقراءة تحولاته ومنعطفات مسيرة نضاله وثورته ضد مافيا الحكم في سوريا، قراءة قاصرة بائسة باردة، شكّل برحيله الموجع بينما رفاقه يبحثون عن مشفى يوقف نزيفه، صدمة دامية أعادت السوريين إلى بوصلاتهم التي ما كان عليهم أن يتيهوا عنها، وهو ما يبثه مثل البوح المقطع التالي: "تسند كلشي تراخى حيله".

ولأن أم عبد الباسط ليست كباقي الأمهات، فدائية بكل ما تحمل المفردة من مبنى ومعنى، ودّعت الشهيد تلو الشهيد، فكان لا بد من تذكار لها في الأغنية التي كتبها صديقٌ مقرُّب من الساروت، وهو ما يظهر بادياً في حرارة المفردات ومصداقية الآهات:

"يا يُمَه جيتك زفّيني.. بثوب جديد وكحلي عيوني.. كل حُرّة بسوريا قالت هلهولة.. يا عريس الزين ووردك يطلع".

وبقفلة "وردك يطلع" يصعد صوت القطيفان مثل ضوء خافت قادم من آخر النفق.

لعل مقطع "نطوي المدفع" الذي يكرره قطيفان بطبقة صوتية دالة، يلخص الروح الحضارية المدينية الراقية التي يتحلى بها السوريون، الذين ما كانوا يوماً دعاة عنف أو أنصار قتل أو عشاق موت أو جلاف بيداء أو قساة رمل أو مصاصي دماء، لكنه النظام الذي جرّهم جرّاً نحو المساحة التي لا يتقن غيرها

لعل مقطع "نطوي المدفع" الذي يكرره قطيفان بطبقة صوتية دالة، يلخص الروح الحضارية المدينية الراقية التي يتحلى بها السوريون، الذين ما كانوا يوماً دعاة عنف أو أنصار قتل أو عشاق موت أو جلاف بيداء أو قساة رمل أو مصاصي دماء، لكنه النظام الذي جرّهم جرّاً نحو المساحة التي لا يتقن غيرها، والمؤامرة التي حيكت على مهل السفالة الدولية ليصل الشعب السوري إلى ما وصل إليه.

يبقى أن نقول أخيرأ، إن اللافت حقاً، هو ما يمكله صوت الصديق عبد الحكيم القطيفان (وهو المعروف كممثل وليس كمغني) من مساحةٍ بليغةٍ مؤثرةٍ دارسةٍ، وما يملكه من ثقافةٍ فنيةٍ موسيقيةٍ إيقاعيةٍ مقاميّةٍ أهّلته أن يقود مقاطع الأغنية مثل مايسترو مُحَلِّقٍ في سديم البهاء.