icon
التغطية الحية

نيويورك تايمز: معتقلون يروون فظائع التعذيب في سجون الأسد

2019.05.13 | 15:05 دمشق

إحدى صور قيصر.. معتقلون قتلوا تحت التعذيب في سجون الأسد (إنترنت)
نيويورك تايمز - ترجمة وتحرير ربى خدام الجامع - تلفزيون سوريا
+A
حجم الخط
-A

الصحفية: آن برنارد

11 أيار 2019

غازي عنتاب- تركيا: قوات الأمن السورية علقت مهند غباش من معصميه لساعات، ثم ضربته بشكل عنيف، بعدها صعقته بالكهرباء وأدخلت بندقية في فمه.

اعترف السيد غباش وهو طالب حقوق من حلب مراراً وتكراراً بجريمته التي ارتكبها فعلياً وهي تنظيم مظاهرات سلمية ضد الحكومة، غير أن التعذيب استمر لمدة 12 يوماً، إلى أن كتب اعترافاً كاذباً حول التخطيط لتفجير.

وهذه كانت البداية حسب ما قاله.

نقلوه على متن طائرة إلى سجن يضيق بنزلائه في قاعدة المزة العسكرية بدمشق، العاصمة السورية، وهناك علقه الجلادون مع غيره من المعتقلين على حاجز وهم عراة، ثم رشوهم بالماء في الليالي الباردة. وليتسلى الرفاق وهو يتناولون عشاءهم، حسب ما ذكر هذا الشاب مع غيره من الناجين، قام ضابط يطلق على نفسه اسم هتلر بإرغام السجناء على تقليد صوت الكلب، والحمار، والقطة، ثم ضرب من لم يتمكن من النباح أو النهيق بشكل صحيح.

وفي مشفى عسكري شاهد هذا الشاب حسبما ذكر ممرضة تضرب شخصاً مبتور اليد أخذ يترجاها ليحصل على مسكن للآلام. وفي سجن آخر أيضاً، عدّد هذا الرجل 19 نزيلاً رافقوه في الزنزانة قضى بسبب المرض أو التعذيب أو الإهمال خلال شهر واحد.

"كنت من بين المحظوظين الذين نجوا" علق غباش الذي يبلغ من العمر 31 عاماً والذي أمضى سنة وسبعة أشهر في المعتقل إلى أن حصل القاضي على رشوة فأطلق سراحه.

 

مهند غباش

 

يمكننا القول بأن النظام السري الذي تم اصطناعه للاعتقالات العشوائية وسجون التعذيب هي محور نجاح الأسد في البقاء، ففي الوقت الذي حارب فيه الجيش السوري الذي تدعمه روسيا وإيران، الثوار المسلحين للسيطرة على المناطق؛ شنت الحكومة حرباً لا هوادة فيها على المدنيين، حيث ألقت بمئات الآلاف منهم في أقبية قذرة يتم فيها تعذيب الآلاف وتصفيتهم.

ما يقارب من 128 ألف شخص لم يخرجوا من تلك السجون، ويعتقد أنهم إما قضوا أو ما يزالون موقوفين بحسب ما أوردته الشبكة السورية لحقوق الإنسان، وهي مجموعة مراقبة مستقلة تحتفظ بالحصيلة الأدق. كما أن ما يقارب من 14 ألف شخص قتلوا تحت التعذيب. والكثير من السجناء قضوا بسبب الظروف السيئة للغاية، وفي ذلك عملية تسمى في تحقيقات الأمم المتحدة باسم: الإبادة

والآن حتى بعد انحسار الحرب، بدأ اهتمام العالم يضعف بهذا الشأن، وبدأت الدول بتطبيع العلاقات مع سوريا، بالرغم من ازدياد وتيرة الاعتقالات الجديدة والتعذيب والإعدام، وقد بلغت الأرقام ذروتها خلال السنوات الأولى الأقسى من النزاع، غير أن الشبكة السورية سجلت خلال العام الفائت 5607 حالة اعتقال جديدة صنفتها بالتعسفية، أي ما يعادل أكثر من 100 حالة اعتقال أسبوعياً، بزيادة تقدر بنسبة 25% تقريباً عن السنة التي سبقتها.

هذا وقد أرسل المعتقلون مؤخراً تحذيرات بأن المئات سينقلون إلى موقع ليتم إعدامهم في سجن صيدنايا، وذكر معتقلون تم الإفراج عنهم حديثاً بأن وتيرة القتل قد تسارعت.

 

صورة أقمار صناعية لسجن صيدنايا الذي تديره القوات المسلحة ، حيث أعدمت الحكومة السورية الآلاف من السجناء. منظمة العفو الدولية ، عبر وكالة الأنباء الفرنسية - غيتي إيماجز

 

تجدر الإشارة هنا إلى أن عمليات الخطف والقتل التي قامت بها الدولة الإسلامية استأثرت باهتمام أكبر من قبل الغرب، إلا أن منظومة السجون السورية قد استبعدت لمرات عديدة أعداد الأشخاص المعتقلين من قبل داعش في سوريا، حيث تشكل نسبة المعتقلين لدى الحكومة 90% من حالات الاختفاء التي وثقتها الشبكة السورية.

هذا وقد أنكرت الحكومة السورية وجود أي عمليات إيذاء ممنهجة في سجونها.

إلا أن مذكرات صادرة عن الحكومة السورية تم الكشف عنها مؤخراً أوضحت بأن المسؤولين السوريين الذين هم على اتصال مباشر بالرئيس الأسد قد أصدروا أوامر للقيام باعتقالات جماعية، أو كان لديهم علم بالفظائع التي ارتكبت.

أما المحققون في جرائم الحرب العاملون لدى اللجنة الدولية للعدالة والمحاسبة؛ وهي مؤسسة غير ربحية، فقد اكتشفوا مذكرات صادرة عن الحكومة وردت فيها أوامر بممارسة العنف، ونقاش حول القتلى في المعتقلات، ممهورة بتوقيع كبار المسؤولين الأمنيين، من بينهم أعضاء في اللجنة المركزية لإدارة الأزمة والتي هي على اتصال مباشر بالرئيس الأسد.

وقد أقرت مذكرة صادرة عن المخابرات العسكرية بحالات الوفاة بسبب التعذيب أو الظروف السيئة، في حين ذكرت مذكرات أخرى حالات قتل لمعتقلين، تم التعرف عليهم في وقت لاحق من خلال صور آلاف الجثث للسجناء التي قام أحد المنشقين عن الشرطة العسكرية بتهريبها. وقد في ورد في مذكرتين تفويض وإباحة لمعاملة معتقلين معينين معاملة قاسية.

وفي مذكرة صادرة عن رئيس فرع المخابرات العسكرية رفيق شحادة نجد ما يوحي بأن المسؤولين كانوا يخشون الملاحقة القضائية مستقبلاً، ففي تلك المذكرة وردت أوامر لضباط ليقوموا بإبلاغه عن حالات الوفاة وليتخذوا خطوات تضمن حصانة قضائية لمسؤولين في الأمن.

وفي مقابلة أجراها في قصر على الطراز العثماني بدمشق عام 2016، شكك الرئيس الأسد بمصداقية الناجين وعائلات المفقودين. ولدى سؤاله عن حالات معينة قال: "هل تتحدثون عن مزاعم أم وقائع ملموسة؟" وأشار إلى أن أقرباء الضحايا كذبوا عندما قالوا أنهم رأوا ضباط الأمن وهم يجرون أحبائهم.

وذكر بأن أي إساءة هي مجرد خطأ فردي لا يمكن تفاديه أثناء الحرب.

وأشار: "حدث ذلك هنا، ويحدث في كل مكان في العالم، بل في أي مكان، لكنها ليست سياسة متبعة لدينا".

وعلى مدار سبع سنوات أجرت صحيفة نيويورك تايمز مقابلات مع عشرات الناجين وأقرباء من قضوا من المعتقلين أو أولئك الذين مازالوا مفقودين، وراجعت وثائق حكومية ورد فيها أعداد القتلى في السجون والقمع الممارس على المعارضين، كما أمعنت النظر في مئات الصفحات لشهادات أدلى بها شهود في تقارير حول حقوق الإنسان أو في قضايا رُفعت للمحاكم.

وهكذا تبيّن بأن روايات الناجين الموثقة هنا تتسق مع روايات سجناء آخرين احتُجزوا في السجون ذاتها، ويدعم ذلك مذكرات حكومية والصور التي تم تهريبها من السجون السورية.

كانت منظومة السجون جزءاً لا يتجزأ من الجهود الحربية التي بذلها بشار الأسد لسحق حركة الاحتجاجات المدنية وليدفع بالمعارضة نحو النزاع المسلح الذي ليس بمقدورها أن تنتصر فيه.

وخلال الأشهر القليلة الماضية، اعترفت الحكومة السورية بوفاة مئات الأشخاص في المعتقلات. وبضغط من موسكو؛ أكدت دمشق وفاة عدة مئات من الموقوفين على الأقل وذلك عبر إصدار شهادات وفاة لهم أو وضعهم في خانة الموتى ضمن ملفات القيود العائلية. وذكر فضل عبد الغني مؤسس الشبكة السورية بأن في هذه الحركة رسالة واضحة للسوريين وهي: "لقد انتصرنا، وفعلنا ذلك، ولن يعاقبنا أحد عليه".

وهكذا بات الأمل ضعيفاً في محاسبة المسؤولين الكبار خلال وقت قريب، إلا أن هنالك حركة متنامية تنشد العدالة عبر المحاكم الأوروبية. إذ اعتقلت النيابة العامة الفرنسية والألمانية ثلاثة مسؤولين سابقين في قطاع الأمن، وصدرت مذكرات اعتقال دولية بحق رئيس مكتب الأمن القومي علي مملوك، ورئيس فرع المخابرات الجوية التابعة له جميل حسن، وغيرهم، وذلك بسبب تعذيب وقتل المواطنين أو سكان تلك البلاد في السجون

 

النيابة العامة الفرنسية والألمانية تصدر مذكرات اعتقال بحق علي مملوك رئيس مكتب الأمن القومي، الصورة من صحيفة الوطن عبر وكالة فرانس بريس

 

ومع ذلك بقي الرئيس الأسد وضباطه في السلطة، في مأمن من الاعتقال، بحماية روسيا بفضل قوتها العسكرية والفيتو الذي تعترض به على قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وفي الوقت ذاته أخذت الدول العربية تستعيد علاقاتها مع دمشق في الوقت الذي بدأت فيه الدول الأوروبية بدراسة الدعوى القضائية التالية. وقد أضعف سحب ألفي جندي أمريكي من شرقي سوريا بتخطيط من ترمب، النفوذ الأمريكي الذي كان بالأصل ضئيلاً في هذا النزاع مع دخوله عامه التاسع.

بيد أن الافلات من العقاب لا يعتبر مشكلة سورية محلية وحسب، إذ دون القيام بإصلاحات على المستوى الأمني، من المحتمل أن تتم إعادة خمسة ملايين لاجئ سوري موجودين حالياً في الشرق الأوسط وأوروبا إلى بلادهم مما يعرضهم لخطر الاعتقال التعسفي. وفي عصر الاستبداد الوقح الذي يمتد بدءاً من اليمين المتطرف الأوروبي وصولاً إلى المملكة العربية السعودية؛ كان الأسد الوحيد الذي استخدم أقصى درجات العنف ضد معارضيه من المدنيين، ولهذا يمكن القول بأن هذه الاستراتيجية هي الرابحة في هذا العصر.

" لن يبقى ذلك في سوريا" هذا ما يراه مازن درويش، وهو محام سوري مختص بحقوق الإنسان. وقد أطلق تعليقه ذلك من برلين، من المكان الذي ساعد فيه النيابة العامة على اتخاذ قرارها، ويعلق بالقول: "لقد نسي الناس ماهية الديكتاتورية، إذ عاشوا 70 سنة بسلام بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أن حقوق الإنسان غير موجودة في الحمض النووي لدى الدول والسياسيين".

ويضيف: "العدالة ليست مجرد رفاهية بالنسبة للسوريين، بل هي معضلة العالم بأسره".

 

مازن درويش ، محامي سوري في مجال حقوق الإنسان ، مع زوجته ، يارا بدر ، في برلين. كلاهما سجن في سوريا.

 

إن منظومة المعتقلات في سوريا ما هي إلا نسخة مكبرة لما بناه الأسد الأب، حافظ الأسد، والذي قام عام 1982 بسحق انتفاضة الإخوان المسلمين المسلحة في حماة، فسوّى معظم المدينة بالأرض، كما اعتقل عشرات الآلاف من الناس، منهم الإسلاميين والمعارضين اليساريين وغيرهم من السوريين بطريقة عشوائية تعسفية.

وعلى مدار عقدين من الزمان، اختفى ما يقارب 17 ألف معتقل في منظومة لديها مخزون من التعذيب نقلته عن المستعمرين الفرنسيين، والديكتاتوريين المحليين، بل حتى النازيين، فمن بين مستشاري الأمن لهذا النظام نَجِدُ أدولف إيختمان وهو المساعد الهارب لألويز برونر.

وعندما خلف بشار الأسد أباه في الحكم عام 2000، حافظ على منظومة المعتقلات كما هي.

إذ لدى كل جهاز مخابرات سوري من أجهزة المخابرات الأربعة وهي المخابرات العسكرية والسياسية والجوية وأمن الدولة، فروعٌ محلية منتشرة في أنحاء سوريا، معظمها يحتوي على سجن خاص، وقد وثقت اللجنة الدولية للعدالة والمحاسبة المئات من تلك السجون.

كان اعتقال عدة صبية وتعذيبهم في آذار/ مارس 2011 بعدما خربشوا على الجدران عبارات فيها انتقاد للرئيس الأسد هو ما دفع السوريين للحاق بركب الانتفاضات التي اجتاحت الدول العربية آنذاك. حيث خرجت مظاهرات احتجت على معاملتهم بهذا الشكل لتعم مدينتهم الأم، درعا، ما أدى لمزيد من الاعتقالات، والتي حرضت بدورها على المزيد من الاحتجاجات.

وهكذا انضم عدد كبير من المعتقلين من مختلف أنحاء سوريا إلى المعارضين الموجودين أصلاً في سجن صيدنايا، "وقد تراوحت مهن المعتقلين الجدد بين عامل النظافة إلى الفلاح، إلى المهندس، إلى الطبيب، أي كل الطبقات من السوريين" بحسب ما ذكره رياض أولر، وهو مواطن تركي سجن لمدة 20 عاماً بعد اعتقاله عام 1996، عندما كان طالباً في التاسعة عشرة من عمره، وذلك لإجرائه مقابلات مع سوريين حول مجزرة وقعت في أحد السجون.

 

رياض أفلار ، مواطن تركي ، سُجن في سوريا لمدة 20 عامًا بعد اعتقاله وهو طالب يبلغ من العمر 19 عامًا، لمقابلته سوريين حول مذبحة في السجن.

 

ويضيف هذا الرجل بأن التعذيب قد زاد كما تم الاعتداء على القادمين الجدد جنسياً، وضربهم على أعضائهم التناسلية، وإجبارهم على ضرب أو حتى قتل بعضهم البعض.

لا أحد يعرف بالضبط عدد السوريين الذين مروا بهذه المنظومة منذ ذلك الحين، إذ تقدر مجموعات حقوقية أعدادهم بين مئات الآلاف إلى مليون، كما أن دمشق لم تنشر أي بيانات حول سجونها.

بكل المقاييس يمكن القول بأن هذه المنظومة قد طفح كيلها، إذ يقبع بعض المعتقلين السياسيين في سجون نظامية، غير أن قوات الأمن والميليشيات التابعة للحكومة أنشأت أقبية لا تعد ولا تحصى وذلك في المدارس والمدن الرياضية، والمكاتب، والقواعد ونقاط التفتيش العسكرية.

ولهذا يعتبر الإحصاء الذي تقدمت به الشبكة السورية لـ 127916 شخص محتجز حالياً ضمن تلك المنظومة لا يعبّر عن العدد الحقيقي، فعدد حالات الاعتقال التي بلّغ عنها أهالي المعتقلين وغيرهم من الشهود لا يشمل الأشخاص الذين أفرج عنهم فيما بعد أو الذين تم تأكيد وفاتهم.

وبسبب السرية التي تتبعها الحكومة، لا يعرف أحد عدد الذين ماتوا ومن هم رهن التوقيف، إلا أن آلاف الوفيات قد تم تسجيلها في مذكرات وصور.

عمل ضابط سابق في الشرطة العسكرية، عرف باسم قيصر فقط وذلك للحفاظ على سلامته، كمصور للجثث، ثم فر بصوره من سوريا والتي وثق فيها 6700 جثة لسجناء برزت عظامهم وتعرضوا لضرب مبرح، الأمر الذي تسبب للعالم بصدمة لدى ظهور تلك الصور للعلن عام 2014.

لكنه قام أيضاً بتصوير مذكرات على مكتب رئيسه في العمل وثقت حالات الوفاة لترسل إلى من هم أعلى منه رتبة.

وتماماً كما يرد في شهادات الوفاة التي تم إصدارها مؤخراً، ذكرت تلك المذكرات بأن سبب الوفاة هو سكتة قلبية، بينما حددت إحدى المذكرات هوية أحد المعتقلين والذي ظهر في صور قيصر وقد اقتلعت عيناه.

وحول ذلك يصرح درويش المحامي الناشط في مجال حقوق الإنسان بالقول: "يبدو وكأن السجون قد تعرضت لجائحة غريبة من الأمراض القلبية، إذ لابد لقلوبهم أن تتوقف عند وفاتهم بالطبع"

جولة التعذيب

تعرض غباش، الذي كان يقوم بتنظيم مظاهرات في حلب، للتعذيب في 12 فرع على الأقل، الأمر الذي حوله إلى دليل سياحي حسب وصفه في تلك المنظومة. بدأت ملحمته عام 2011 عندما كان في الثانية والعشرين من العمر، وهو الابن البكر لمتعهد بناء يعمل لدى الحكومة. وقد ألهمته المظاهرات السلمية في داريا، وهي إحدى ضواحي دمشق، لتنظيم مظاهرات في حلب.

غير أنه اعتقل في حزيران 2011، وتم إطلاق سراحه بعد توقيعه على تعهد بالكف عن التظاهر.

"لم أكف" يتذكر ذلك الشاب وهو يبتسم ابتسامة عريضة.

ولذلك اعتقل مرة أخرى في شهر آب، أي خلال الأسبوع ذاته الذي أمر فيه مسؤولون رفيعون لدى الأسد بممارسة قمع أعنف بحسب ما تظهر المذكرة التي قدمتها اللجنة الدولية للعدالة والمحاسبة، والتي ينتقد فيها هؤلاء تساهل السلطات المحلية كما يدعون للمزيد من الاعتقالات بحق من يحرضون الناس على التظاهر.

 تم تعليق غباش بطريقة الشبح، وضربه وجلده في سلسلة من فروع المخابرات العامة والعسكرية، حسبما ذكر. وقد تركه جلادوه أخيراً وهم يوجهون نصيحة صارمة له ولأمثاله من الشباب: "غادروا البلاد".

وحتى بعد إطلاق سراح السجناء الذين يحملون أيديولوجية أصولية والذين أمضوا فترات طويلة في سجن صيدنايا، تمكن الإسلاميون منهم من قيادة المجموعات الثائرة، وأصبح هدفهم التخلص من المعارضة المدنية. وبحسب ما يراه منتقدون، فإن هاتين الحركتين ظهرتا لتصبحا جزءاً من استراتيجية تغيير الانتفاضة وتحويلها إلى ساحات القتال التي يتمتع فيها الرئيس الأسد وحلفاؤه بمزايا التفوق العسكري.

وبوجود مدنيين يحملون العقلية ذاتها من بين من هربوا أو اعتقلوا، ومع قيام قوات الأمن بإطلاق النار على المتظاهرين، جاهد غباش ليثني من تحالف معهم عن حمل السلاح والتحول إلى دمية تحركها أصابع الحكومة.

ولم يمض وقت طويل حتى اعتقل للمرة الثالثة من قبل المخابرات الجوية في حلب، إلا أن أكثر ما صدمه هناك هو إصرار المحققين العجيب على بعض الثغرات للنظام القضائي، فاتهموه بالتخطيط لتفجير وهمي بتاريخ سبق أي تفجيرات قام بها الثوار في حلب. وبالرغم من أن لديهم من السلطة ما يخولهم توجيه أي اتهام كما يحلو لهم، إلا أنهم أصروا على ضرورة اعترافه.

كانوا في بعض الأحيان يحشرون جسده في دولاب ليقوموا بضربه، إلى أن يغمى عليه، ليصحو فيجد نفسه عارياً في مدخل بارد حد التجمد، فيبدأ الضرب بعد ذلك من جديد. ولقد قام أحد الضباط بوضع بندقية في فمه، بينما أصر آخر على أن المرأة التي كانت تصرخ دون أن يروها ما هي إلا والدته.

وتقترب روايته كثيراً من روايات حكاها آخرون ممن احتجزوا في فرع أمني، بل إن بعضهم وصف ما هو أسوأ من ذلك، إذ ذكر أحد الناجين الذي طلب أن يتم التعريف به باسم خليل ك. وذلك ليحمي أسرته التي مازالت تعيش في سوريا، بأنه شاهد وهو يصارع الموت لمدة 21 يوماً بعدما سكب عليه المحققون محروقات وأضرموا النار فيه.

يتذكر غباش ما جرى معه فيقول: "بيني وبين ضميري لم أكن أريد أن أعترف بأي شيء لم أقم به. ولكن ثمة خمسة أشخاص يطرحون أسئلة في وقت واحد، وأنت تشعر بالبرد والعطش، وشفاهك ممتلئة بالدماء، ولا يمكنك التركيز. والجميع يصرخ ويضرب".

احتفظ بأظافر قدميه التي اقتلعوها، وبأجزاء من جلده الذي تقشر بسبب ضربه على باطن قدميه (فيما يعرف بالفلقة)، فوضعها في جيبه، وهو يحلم بعرضها على قاض، ولكنهم أخذوا بنطاله في أحد الأيام.

وفي اليوم الثاني عشر كتب اعترافاً

"اجعله مقنعاً" قال النقيب ماهر له، ثم أردف: "ثمة شخص دفعك لذلك، تخيل شكله: طويل.. قصير.. بدين؟"

وهنا استقر غباش على سيارة فضية و"شخص طويل يرتدي نظارات وشعره خفيف"

ويصف ذلك بقوله: "بدأت أستشعر موهبتي في الكتابة"

عقاب سوريالي

في آذار/مارس 2012؛ تم نقل غباش بطائرة إلى قاعدة المزة الجوية العسكرية التي سميت باسم حي غني قريب منها في العاصمة دمشق.

في ذلك الحين، حسب ما أورده مع عدد من الناجين، تم اعتماد نظام نقل هائل بين السجون. أما السجناء فكانوا يتعرضون للتعذيب خلال رحلاتهم على الأقدام، أو في الحوامات، أو الحافلات، أو في طائرات الشحن. والبعض يتذكر كيف ركب لساعات طويلة في شاحنات تستخدم عادة لنقل لحوم الحيوانات، بعدما تم تعليقهم كل من ذراعه، وربطه بسلسلة إلى خطاف مخصص للحوم. كانت زنزانة غباش الجديدة نموذجية: إذ كان طولها 12 متراً، وعرضها تسعة أمتار، وهي مزدحمة غالباً، ولهذا كان السجناء ينامون وفقاً لنظام نوبات.

خارج الزنزانة كان هنالك رجل معصوب العينين ومقيد اليدين في الممر، إنه السيد درويش، المحامي الذي يعمل في مجال حقوق الإنسان، إذ تم إخراجه من بين الآخرين لأنه وبخ قاضياً وأخبره بأن القوانين السورية تكفل قيام محاكمات عادلة.

ويعدد لنا عقوبته بالقول: "البقاء عارياً، بلا ماء أو نوم وإرغامي على شرب البول".

أصبح التعذيب في السجون أكثر وحشية وإفراطاً مع تقدم الثوار في الخارج وقيام الطائرات الحربية التابعة للحكومة بقصف الأحياء المتمردة. ويصف الناجون المعاملة السادية، والاغتصاب، والإعدامات التي تتم بلا محاكمات، أو يتم ترك المعتقلون ليموتوا بسبب جروح أو أمراض لم تتم معالجتها.

لم يمض وقت طويل قبل أن تتم معاقبة غباش بطريقة خاصة به، حيث تم استجوابه على يد رجل يدعي سهيل الحسن، قد يكون اسمه سهيل حسن زمام، الذي يترأس سجون الجوية بحسب قاعدة بيانات حكومية تم تسريبها، حيث سأل غباش عن الطريقة التي يمكنه من خلالها حل النزاع.

يتذكر هنا غباش أنه رد بالقول: "عبر انتخابات حقيقية، فالناس لا يريدون سوى بعض الاصلاحات، لكنكم لجأتم إلى استخدام القوة، والمشكلة هي أنه إما علينا أن نكون معكم أو ستقومون بقتلنا"

جعلته تلك الجملة يتعرض لتعذيب إضافي لمدة شهر، وكان ذلك التعذيب هو الأغرب طيلة فترة عذابه.

كان هنالك جلاد يطلق على نفسه اسم هتلر، وكان يرتب حفلة تسلية سادية أثناء تناوله للعشاء بصحبة زملائه، فكان يأتي بالعرق والشيشة "ليرتب الأجواء" حسب وصف غباش. وكان يطلب من بعض السجناء أن يركعوا، ليتحولوا إلى طاولات أو كراس، فيما يأمر آخرين أن يقلدوا أصوات الحيوانات. كان "هتلر" يحدد جهات خشبة المسرح عبر الضرب.

يصف غباش ذلك بالقول: "على الكلب أن ينبح، وعلى القطة أن تموء، وعلى الديك أن يصيح، ثم يحاول هتلر ترويضهم، فعندما يدلل أحد الكلاب على الكلب الآخر أن يمثل أنه يغار منه".

أما الجمهور فيضم السجناء سواء في الزنازين القريبة أو أولئك المعلقين الذين كانوا معصوبي العينين ومربوطين بسلاسل إلى أعمدة قريبة والذين أكدوا وقوع تلك الحادثة. بعض الجلادين كانوا يطلبون من المعلقين أن يتوسلوا بالقول: "سيدي أنا عطشان" ثم يرشونهم بالماء بواسطة خراطيم حسبما ذكر غباش.

وبعد مرور أسابيع أو أشهر، يتم إخراج الكثير من السجناء ليحضروا ما يسمى بالمحاكمة التي تستمر لدقائق دون حضور أي محامي دفاع. أما محاكمة غباش فكانت نموذجية، ففي محكمة ميدانية عسكرية عام 2012 سمع القاضي وهو يقرأ إدانته وهي: "إرهاب وتدمير ممتلكات عامة" ثم سمعه يتلو الحكم وهو الإعدام.

ويردف: "كل المحاكمة لم تستغرق أكثر من دقيقة ونصف"

توقع أن يتم نقله إلى سجن صيدنايا، الذي تحول إلى مركز للإعدامات الجماعية في ذلك الحين، إذ تم إعدام الآلاف شنقاً فيه بعد محاكمات مستعجلة بحسب ما ورد في تقرير أصدرته منظمة العفو الدولية.

يتذكر أنه قال في سره: "حسناً، لقد انتهى الأمر"، لكن الأمر لم ينته عند ذلك، لأنه سوف يتحمل سنة أخرى من الضرب اليومي.

 

تظهر صور الأقمار الصناعية الزيادة في المقابر الجماعية في مقبرة قرب دمشق بين عام 2010 واليسار وعام 2016 ، على اليمين. قالت منظمة العفو الدولية إن جثث السجناء الذين أُعدموا في سجن صيدنايا دُفنت هناك.

 

وكان آخر عهده بالسجون في سجن مؤقت تحت الأرض بالقرب من دمشق، وهو القبو العسكري لنخبة الفرقة الرابعة، التي تتبع لماهر الأسد شقيق الرئيس. يتذكر الناجون الضباط الذين يحملون رتباً وشارات عسكرية تشير إلى تلك الفرقة وهم يقومون بزيارة لذلك المكان لمعاينة الأوضاع. غير أن المخابرات الجوية أدارت عمليات هناك بعدما امتلأ سجن المزة وفاض بمن فيه، بحسب ما أورده ناجون وما ذكر في ملفات أصدرتها اللجنة الدولية للعدالة والمحاسبة.

لم يعد هنالك أية تحقيقات أخرى.

وحول ذلك يصرح درويش الذي نقل إلى هناك هو أيضاً: "التعذيب فقط من أجل التعذيب ومن أجل الانتقام والقتل وتحطيم البشر".

قد يروي الناجون تلك القصص مع نكتة سوداء، لو لم يكن غيرهم قد عانى مما هو أسوأ.

وهنا يحكي لنا غباش ويقول: "حسناً، لقد ضربت، ولعبت دور كلب، لكن غيري تعرض للقتل أو الاغتصاب".

الاغتصاب والاعتداء

تعرضت النساء والفتيات للاغتصاب والاعتداء الجنسي في 20 فرع للمخابرات على الأقل، كما تعرض الرجال والصبية للاغتصاب والاعتداء الجنسي في 15 فرع للمخابرات، بحسب ما أوردته لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان خلال العام المنصرم.

هذا ويعتبر الاعتداء الجنسي سلاحاً ذو حدين في المجتمعات الإسلامية التقليدية، حيث يوصم الناجون غالباً بوصمة عار، فالأهل يقتلون ابنتهم التي اعتقلت ضمن ما يعرف بجريمة الشرف، أو في بعض الأحيان لمجرد الاعتقاد بأنها تعرضت للاغتصاب، بحسب تقارير حقوقية وما ورد على لسان بعض الناجين.

تعرضت مريم خليف، تلك المرأة التي تبلغ الثانية والثلاثين من العمر وهي أم لخمسة أطفال من حماة، لاغتصاب متكرر أثناء فترة اعتقالها، حيث ذكرت أنها ساعدت الجرحى من المتظاهرين وقدمت مساعدات طبية للثوار، وهي أعمال تصفها الحكومة بأنها إرهابية.

 

مريم خليف ، أم لخمسة أطفال ، قالت إنها تعرضت للاغتصاب مراراً وتكراراً خلال شهر من السجن.

 

وتذكر أنه في أيلول/سبتمبر من العام 2012 قام ضباط أمن بإخراجها من بيتها، وفي فرع أمن الدولة رقم 320 بحماة، عرف رئيس التحقيق عن نفسه بأنه العقيد سليمان. وتكشف محفوظات اللجنة الدولية للعدالة والمحاسبة بأن خليف اعتقلت أثناء ترأس العقيد سليمان جمعة لذلك الفرع في حماة.

وفي شقتها الصغيرة في الريحانية بتركيا تتذكر ما جرى معها وتقول: "كان يأكل الفستق الحلبي ويبصق بقشوره علينا، ولم يترك كلمة قذرة دون أن يتفوه بها".

سجنت مريم في زنزانة داخل قبو مساحتها ثلاثة أقدام مع ست نساء أخريات. علقها الجلادون من الجدران وضربوها وكسروا أسنانها. رأتهم وهم يجرون سجيناً يشتكي من الجوع إلى المرحاض ويحشرون الغائط في فمه، وهي طريقة وردت على لسان غيرها من الناجين.

وتتابع بالقول: "عند منتصف الليل كانوا يختارون الفتيات الجميلات ويأخذونهن إلى العقيد سليمان ليقوم باغتصابهن. أتذكر العقيد سليمان بعينيه الخضراوين".

هذا ولقد تعرفت خليف على العقيد من صور لجنازة ضابط أمن، بعدها انهارت.

كان العقيد ورفاقه وهم رجال يرتدون بدلات رياضية يعتدون على النساء فوق سرير في غرفة مجاورة لمكتبه، تزينها صورة الرئيس الأسد حسبما ذكرت خليف. بعد ذلك يصبون العرق على الضحايا وفي ذلك إهانة أخرى للمسلمات اللواتي لا يتناولن المشروبات الكحولية.

لم يكن في زنزانة النساء مرحاض. كان الدم الذي يسيل بسبب الاغتصاب العنيف يلطخ الأرضية. تعرضت إحدى النزيلات في الزنزانة لحالة إجهاض. وعندما أبرم ابن عم خليف اتفاقاً لإطلاق سراحها بعد شهر، كانت خليف في تلك الأثناء قد فقدت ثلث وزنها، ثم هربت بعد ذلك لمناطق الثوار بصفتها مسعفة.

وفي السياق ذاته وبشكل منفصل تحدثت ناجية أخرى أمام محققي اللجنة الدولية للعدالة والمحاسبة وذكرت بأن العقيد جمعة قد اغتصبها في الشهر ذاته والسجن نفسه، وأتت التفاصيل التي أوردتها مطابقة لرواية خليف.

وقد ذكرت بأنه حتى النساء اللواتي لم يتعرضن للاغتصاب تعرضن للتلمس والإهانات الجنسية، والتهديد بالاغتصاب لانتزاع اعترافات، إلى جانب تفتيش أي تجويف في أجسادهن.

في أحد الأفرع بدمشق، ذكرت العديد من الناجيات، كل على حدة، بأن كبير المحققين احتفظ لنفسه بمهمة إدخال إصبعه في فروجهن، ولذلك أطلقن عليه اسم شرشبيل، وهو الاسم العربي للساحر الشرير في مسلسل السنافر. وقد ذكرت إحداهن، وهي محجبة، بأنه مسح على شعرها وأخد يمسد جسدها العاري أثناء التحقيق، وهي تفاصيل أخفتها عن أهلها.

تعرضت خليف للطرد من قبل أهلها بسبب ما اعتبروه فقداناً لشرفهم ولأخلاقها، وأخذ شقيقها المؤيد للحكومة يرسل لها رسائل نصية تحتوي على تهديدات بالقتل، أما زوجها فقد طلقها.

بالنسبة لبعض الرجال المحافظين غير النزاع تلك المواقف، فالعديد من الناجيات وأقربائهن من الذكور ذكروا بأن عائلاتهم أصبحت الآن تقدر الناجيات اللواتي تعرضن لاعتداء جنسي بوصفهن تعرضن لإصابات لا تقل أهمية عن أية إصابة خلال الحرب. ولهذا لم تخف خليف أي شيء عن زوجها الجديد الذي كان ثائراً فيما مضى.

وتتذكر ما قاله لها وهو: "أنت وسام على صدري وتاج على رأسي. إنه يطبخ لي ويمسح رأسي بالزيت، لقد أعاد لي نفسي القديمة".

العدوى المتفشية والطعام الفاسد

وبغض النظر عن التعذيب، تعتبر ظروف الاعتقال غير الصحية مفرطة وممنهجة لدرجة أن تقريراً صادراً عن الأمم المتحدة ذكر أنها ترقى لعملية إبادة وهي جريمة ضد الإنسانية.

فالكثير من الزنازين تفتقر إلى مرحاض بحسب ما ذكره سجناء سابقون، ولا يسمح للسجناء أن يقضوا في المرحاض أكثر من ثوان طيلة اليوم، بالرغم من تفشي الإسهال والأمراض البولية، ولهذا كانوا يقضون حاجتهم في الزنازين المكتظة. ومعظم الوجبات هي عبارة عن بضع لقيمات من طعام فاسد وقذر، ولهذا توفي بعض السجناء بسبب الانهيار النفسي فقط. أما الدواء فيحرمون منه، حيث تترك الجروح بلا أية معالجة.

منير فقير رجل في التاسعة والثلاثين من عمره، ولكن بعد معاناته في سجن المزة، وصيدنايا، وفي سجون أخرى، يبدو وكأنه أكبر من عمره بعشر سنوات. إنه معارض من الرعيل الأول، اعتقل حسبما ذكر عندما كان في طريقه لحضور اجتماع للمعارضة التي تعتمد مبدأ اللاعنف. وتظهر صوره قبل وبعد الاعتقال ما آلت إليه أحواله، إذ كان رجلاً ضخماً، لكنه أصبح هزيلاً للغاية عند إطلاق سراحه لدرجة أن زوجته لم تعرفه.

 

منير فقير ، 39 عاماً ، قال إن البرد استخدم كعقاب في سجن صيدنايا. لأكثر من شهر ، اضطر هو وزملاؤه إلى النوم عارياً في درجات حرارة شديدة البرودة.

 

في صيدنايا كان البرد عقوبة على الكلام أو "النوم دون إذن" بدأ فقير بسرد ذكرياته وهو يحتسي شراب الزهورات الساخن في مقهى باسطنبول. كانت جميع بطانيات نزلاء الزنزانة وملابسهم تصادر لمرة تمتد لأكثر من شهر، فكانوا ينامون عراة في درجات حرارة تصل حد التجمد. كما كانوا يحرمون من الماء في بعض الأحيان، ولهذا كانوا يحاولون تنظيف أنفسهم عبر تقشير جلدهم بالرمل الذي يحمله النمل من شقوق الأرضية.

في اليوم الذي التقينا فيه كان فقير يحيي الذكرى السنوية لوفاة زميل له في السجن أصيب بالتهاب في ضرسه ولم يحصل على علاج، فانتفخ فكه ليصبح بحجم "رأس آخر" تقريباً.

لكن العلاج قد يكون مميتاً أيضاً، فالتعذيب والتصفية يتمان في المشافي التي يزور كبار الشخصيات فيها الضباط الجرحى في أجنحة أخرى، وفقاً لما رواه فقير وغيره من الناجين والمنشقين.

تم نقل فقير مرتين إلى المشفى العسكري 601، وهو بناء يعود للحقبة الاستعمارية، سقفه عال ويطل على دمشق. رأى هناك ستة سجناء مقيدين إلى كل سرير وهم عراة.

وحول ذلك يعلق بالقول: "أحياناً يموت أحدهم ليصبح العدد أقل، ولذلك كنا نرغب بموته في بعض الأحيان لنأخذ ثيابه".

يذكر أنه رأى مرة أحد العاملين في المشفى يمتنع عن إعطاء الأنسولين لمريض سكري –كان نادلاً في العشرين من العمر- إلى أن مات.

وفي ليال كثيرة كان رجل يعمل كممرض وجلاد ويسمي نفسه عزرائيل – أي ملك الموت- يأتي ليأخذ المريض خلف باب زجاجي تكسوه زخارف.

"كنا نرى ظل أحدهم وهو يضرب، ثم نسمع الصرخة، وبعدها صمت.. صمت خانق. وفي الصباح نشاهد الجثة في الممر الذي يؤدي إلى الحمام. كما كنا نشاهد الجثث المكدسة، فندوس على أجساد رفاقنا ونحن حفاة" هذا ما وصفه لنا فقير حول هذا الجزء من القصة.

يتذكر غباش عزرائيل هو أيضاً، إذ نقل هو الآخر إلى المشفى ذاته بسبب مرض خلف ندبة عميقة في ساقه. وفي الليل سمع شخصاً مبتور اليد يئن من أجل الحصول على مسكن للآلام، ورجلاً يجيبه بالقول: "سأريحك"

حدق غباش بعينين نصف مغمضتين وهو يتظاهر بالنوم بالرجل وهو يرفع عصا ذات رأس حديدي ويقول: "أنا عزرائيل" ليحطم بها وجه المريض الذي انفجر فخرج ما بداخله مع الدماء. ويقول غباش بأنه أجبر على حمل الجثة إلى الحمام الموجود في الممر، ليجد جثتين في الداخل.

أما فقير فيقول بأن زملائه من السجناء حدثوه عن قيامهم بحمل الجثث إلى المرحاض أولاً، ثم إلى مرآب المشفى، وهو الموقع الذي صور فيه قيصر الجثث.

وحول ذلك يصرح بالقول: "لم يصدقني الناس، إلى أن ظهرت صور قيصر"

ويذكر عمر الشغري وهو أحد الناجين من سجن آخر بأنهم أمروه أن يكتب رقماً على جبهة كل جثة، كما ظهر في صور قيصر، ولكن مع تكديس الجثث وتفسخها، اضطر للكتابة على ورقة وحمل الجثث التي تحولت إلى قطع.

وتظهر المذكرات الحكومية التي حصلت عليها اللجنة الدولية للعدالة والمحاسبة بأن رئيس المخابرات العسكرية، وهو عضو في مكتب الأمن القومي يقوم مهمته رفع تقارير حول كل ما يجري للرئيس الأسد، كان يعلم بارتفاع عدد الوفيات في السجن.

ففي إحدى المذكرات التي تعود لكانون الأول/ديسمبر من العام 2012، تمت الإشارة إلى زيادة في أعداد الموتى بين المعتقلين والجثث التي تتكدس وتتفسخ في المشافي، وقد ورد فيها أمر للمسؤولين بإبلاغ رئيس الفرع حول سبب الوفاة والاعترافات التي قدموها، ويفضل أن تصاغ تلك الاعترافات بطريقة مناسبة لحماية المسؤولين من المساءلة بموجب "أي سلطة قضائية مستقبلاً".

وتكشف مذكرة أخرى صدرت بعد سنة أن أعداد الوفيات ماتزال في ارتفاع لذا "من الواجب العناية بنظافة المعتقلين وصحتهم.. لحفظ الأرواح وتخفيض عدد الوفيات الذي ارتفع بشكل ملحوظ مؤخراً" حسب ما ورد في تلك المذكرة.

وقد ورد في المذكرة شكوى من نقص عدد المحققين، وقبيل نهاية قائمة طويلة من "الأخطاء" والتي تشمل أوراق المتوفى، نجد في المذكرة: "ضرب المعتقلين وتعذيبهم".

وحول ذلك تعلق الناطقة باسم اللجنة الدولية للعدالة والمحاسبة نيرما جيلاجيك بالقول: "يبدو وكأنهم يطلبون من العاملين أن يتصرفوا بشكل مناسب، إلا أننا نعرف السياق".

ولقد كشفت وثائق اللجنة الدولية للعدالة والمحاسبة بأنه تمت معاقبة الضباط على جرائم مثل "عدم القيام بالأوامر" حسب ما ذكرت الناطقة، دون أن تتطرق إحداها لتأديب أي شخص لقيامه بالتعذيب.

أسماء كتبت بالدم

لقد خاطر المعتقلون والمنشقون بحياتهم ليخبروا أهاليهم والعالم عن محنتهم

ففي القبو المخصص للفرقة الرابعة، قرر عدد من المعتقلين تهريب أسماء كل السجناء الذين تمكنوا من التعرف إليهم.

"رغم أننا كنا في الطابق الثالث تحت الأرض، إلا أنه مازال بوسعنا أن نواصل عملنا" يتذكر أحدهم وهو منصور العمري الذي اعتقل أثناء عمله لدى منظمة محلية تعنى بحقوق الإنسان.

 

وصلت الرسالة بالدم إلى العواصم الغربية. تم عرض قصاصات القميص في متحف المحرقة في واشنطن.

 

 كما حاول معتقل آخر وهو نبيل شربجي، ذلك الصحفي الذي ألهم غباش بالقيام بنشاطاته عام 2011 ثم شاركه الزنزانة في المزة، حاول أن يكتب على مزق من القماش بمعجون الطماطم، فبدا الخط باهتاً للغاية، ولهذا استخدم شربجي أخيراً دم زملائه المعتقلين الذي كان ينزف ممن يعانون من لثة متقرحة بسبب سوء التغذية، بعد خلطه بالصدأ. وقام خياط معتقل بحياكة القصاصات على قميص العمري الذي تمكن من تهريبها إلى الخارج.

وصلت تلك الرسالة المكتوبة بالدم إلى عواصم العالم الغربي، وعرضت القصاصات التي أضيفت للقميص في متحف المحرقة/الهولوكوست في واشنطن، إلا أن شربجي ظل في السجن.

"التعب يتسرب من مسام وجهي. حاولت أن أضحك إلا أن الضحك أتى ممزوجاً مع حرقة في القلب، ولهذا تمسكت بالصبر... وبك" هذا ما كتبه لخطيبته أثناء فترة تنفس قصيرة في سجن يسمح بكتابة الرسائل.

وبعد مرور عامين، خرج معتقل من السجن ليخبرنا بأن شربجي قضى تحت الضرب.

"لا تنسونا"

مازالت عائلات الضحايا والناجون يمضون قدماً في هذه القضية في كل من سوريا، لبنان، تركيا، الأردن، ألمانيا، فرنسا، السويد وغيرها.

فبعد إطلاق سراحه عام 2013 سافر غباش إلى غازي عنتاب في تركيا حيث عمل في مجال حقوق المرأة وبرامج المساعدات المقدمة للاجئين في المنطقة الأخيرة التي بقيت بيد الثوار في سوريا.

أما خليف فتعمل في مدرسة للاجئين وفي تمكين غيرها من الناجيات. بينما انضم فقير الذي سد طبخ زوجته تجاويف وجنتيه، إلى جمعية طلاب مخصصة للناجين من سجن صيدنايا بحيث يساعد بعضهم بعضاً في توثيق خبراتهم، وتجاوز الصدمة والبحث عن عمل.

وبالنسبة لدرويش وبالرغم من معاناته مع الأرق ورهاب الاحتجاز إلا أنه يواصل عمله من أجل المساءلة، حيث أدلى بشهادته مؤخراً حول سجن المزة في محكمة فرنسية خلال جلسة استماع لقضية الأب السوري- الفرنسي الذي توفي ولده هناك، والذي كان طالباً جامعياً ومدرساً في مدرسة فرنسية بدمشق. الأمر الذي ساعد النيابة العامة الفرنسية على إصدار مذكرة اعتقال بحق مملوك، وهو مسؤول أمن رفيع المستوى، وكذلك على حسن رئيس فرع المخابرات الجوية، ورئيس سجن المزة. وبذلك سيتم اعتقال مملوك إذا سافر إلى أوروبا.

وحول ذلك يعلق درويش بالقول: "إن التهديد بالملاحقة القضائية هو الأداة الوحيدة المتبقية لإنقاذ المعتقلين، ويضيف: "إنها تشحنك بالطاقة، لكنها مسؤولية كبيرة، لأنه بوسعها أن تنقذ روحاً، والبعض منهم أصدقاء لي، وعندما تم إطلاق سراحي قالوا لي: نرجوك ألا تنسانا".

وخلال السنة الماضية صوتت الجمعية العمومية للأمم المتحدة لتشكيل وتمويل هيئة جديدة وهي الآلية الدولية المحايدة والمستقلة لتركيز الاستعداد للنظر في قضايا جرائم الحرب، إلا أن هذه الهيئة لا تتمتع بالقوة التي تمكنها من فرض نفوذها وتوجيه أي اتهام أو القيام بأي اعتقال.

وهكذا بقيت الحرب السورية دون حل سياسي، ومع تعثر محادثات السلام، بدأت روسيا تحث الغرب على التطبيع وتمويل إعادة الإعمار بأي طريقة، مع تأجيل الاصلاحات.

هذا وقد ذكر مؤخراً سوري قام بالكشف عن المجهود الحربي للحكومة على أعلى المستويات، ولم يذكر اسمه حفظاً على سلامته، بأنه لم تكن هنالك أية فرصة لإصلاحات تجعل من المؤسسات الأمنية تحترم حقوق الإنسان، وعلى الأغلب قد تجعل روسيا من جهاز الاعتقال جهازاً أكثر كفاءة بحسب رأيه.

هنالك الملايين من أقرباء المعتقلين المفقودين يعيشون حالة تجاهل على الصعيد الاجتماعي والنفسي، إذ لا يمكن لمن يفترض أنهن أرامل أن يتزوجن مرة أخرى دون إصدار شهادة وفاة لأزواجهن، كما لا يمكن لأولادهن أن يرثوا من آبائهم.

ليست لدى فدوى محمود التي تعيش حالياً في برلين أدنى فكرة إن كان زوجها عبد العزيز الخير مايزال على قيد الحياة أم لا.

إذ منذ ست سنوات سافر الخير، وهو معارض بارز، إلى دمشق عائداً من الخارج، بعد ضمانات من قبل جهاز الأمن، وذلك لإجراء محادثات بين الحكومة والمعارضة التي تتبنى مبدأ اللاعنف، وذهب ابن فدوى ليأتي به، لكنهما لم يخرجا من المطار الذي تسيطر عليه المخابرات الجوية، ولم يسمع عنهما أي خبر منذ ذلك الحين.

وحول ذلك تعلق فدوى بالقول: "ليس لدينا الحق في أن نحبط" ثم تضيف وهي تزين بطانية في غرفة الجلوس بأشغال الكروشيه: "علينا أن نواصل مسيرتنا".

وفي إحدى زوايا الغرفة ثمة كومة من البطانيات: أحدها بنفسجي، والثاني أصفر والثالث أزرق فاتح، ومازالت هذه الكومة تكبر وتزداد، فهي تتخيل مقدار البرد الذي يتعرض له زوجها في السجن، ولذلك تقوم بصنع تلك البطانيات من أجله.

 

للاطلاع على المقال من المصدر اضغط هنا