نيل أرمسترونغ وأزمة الحل السوري

2019.09.18 | 00:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

بعد أن تقلّصت مبادرات حلّ الملف السوري من خطّة الانتقال السياسي الكامل المعبّر عنها بمقررات مؤتمر جنيف وقرار مجلس الأمن رقم 2245، بدأت تخرج للعلن بعض الأصوات التي تحاول اختصار الحلّ بإجراء انتخابات رئاسيّة تحت إشراف الأسد وفي ظلّ دستور عام 2012 الذي فصّله على مقاسه.

ذكر ذلك نصر الحريري رئيس هيئة التفاوض في مقابلة له مع موقع "بروكار برس" بتاريخ 12-9-2019، حيث قال " إنّ كلاً من أميركا وفرنسا تحاولان القفز على استحقاق اللجنة الدستورية بالذهاب مباشرة إلى انتخابات رئاسية في سوريا".

يبدو أنّ هذا المسار بدأ يشقّ طريقه بشكل كبير بعد أن غيّرت الآلة الحربية الروسية خرائط السيطرة الميدانية، مثلما غيرت دبلوماسيتها خرائط التفاعلات السياسية الدولية في الملف السوري.

لقد كان هدف التوافق الدولي، المُعبّر عنه باتفاقات جنيف وفيينا ومقررات مجلس الأمن، الوصول إلى خطوات عملية لوقف حمّام الدم، مثل وقف العنف ووقف استهداف المدنيين، ثم التحرّك لإنشاء هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات التنفيذية تمثّل جميع الأطراف وغير طائفية، ومن ثمّ إجراء انتخابات نزيهة وفق دستور جديد يتمّ الاتفاق عليه وتحت إشراف الأمم المتحدة.

كان هدف التوافق الدولي، المُعبّر عنه باتفاقات جنيف وفيينا ومقررات مجلس الأمن، الوصول إلى خطوات عملية لوقف حمّام الدم

لقد كان واضحاً منذ البداية لكثير من السوريّين، أنّ النظام وحلفاءه الروس والإيرانييّن سيعرقلون هذا المسار بكلّ ما أوتوا من قوّة، فالحلّ الوحيد الذي يعرفونه هو الحل العسكري، بينما وقفت كيانات المعارضة السورية عاجزة عن الفعل، وكانت تقدّم التنازل تلو الآخر، حتى وصلت مرحلة الحضيض ولم يعد لديها ما تتنازل عنه.

يرى بعض المراقبين الآن أنّ جميع المعطيات الدولية تشير إلى رغبة الدول الفاعلة بالإبقاء على نظام الأسد. قد يكون هناك خلاف حول بعض التفاصيل المتعلّقة بذلك مثل تغيير بعض رموز النظام أو حتى بشّار الأسد ذاته، لكن الجوهر متّفق عليه يشكّل نظام الأسد حلقة ضرورية في سلسلة النظام الإقليمي، وباعتبار أنّ التغيير المطلوب إجراؤه في هذا النظام لا يصبّ في خانة مطالب الشعوب بالوصول إلى الحريّة والديمقراطية وبناء دولة الحقوق والمواطنة، فإنّ جوهر أنظمة الحكم سيبقى على حاله، ولا مانع من بعض الإسفاف في حال حصل تغيير في الوجوه، فـ عبد الفتّاح السيسي بديلٌ لحسني مبارك. هذا هو الموجود، سواءٌ أأعجبكم أم لم يعجبكم.

منذ اليوم الأول للثورة، كان علينا إدراكُ أنّ التغيير يصنعه أبناءُ البلد بعقولهم وسواعدهم وأموالهم، ما كان ليأتينا الخير من خارج الحدود إلّا إذا كان من السوريين أنفسهم. لقد اسنتفذنا أكثر من طاقتنا ونحن نحاول أن نقنع العالم وأنفسنا بضرورة التدّخل الخارجي لإزالة نظام الأسد. غابت عن أذهاننا تجربة العراق القريب. حتى البعض منّا الذي كان يرفضُ التدخّل الخارجي، وكان ذلك أحد لاءاته الثلاثة المشهورة، لم يكن مقتنعاً تماماً بذلك، بدليل أنّه كان يحاور الطرف الآخر الذي تدخّل فعلاً لمصلحة النظام، كمن يستجدي من عدوّه العونَ والمساعدة.

في الأشهر الأولى للثورة كان أي طرح للحوار مع النظام يُقابل بالرفض المطلق، لم يكن يدر في خَلَد أحدٍ من السورييّن أن حالنا سيؤول إلى هذا المصير القاتم. أيّة مأساة هذه التي نعيشها الآن بعد ثمانية أعوامٍ ونصف من العنف والقتل والتهجير؟

هل كان علينا أن ندفع كلّ هذه الأثمان لنحصل على التغيير، وهل حصلنا عليه أساساً؟ الإجابة الوحيدة التي نعيشها بالفعل، أنّ التغيير حصل، ولكن نحو الأسوأ، فالنظام الاستبداديّ باقٍ إلى أجلٍ غير مُسمّى، والبُنى التحتيّة والمجتمعيّة عادت بنا إلى مجاهيل العصر الحجري، فالناس الآن يقتاتون على ما يتوفّر لهم فقط، وهو الحدّ الأدنى الذي يُقيمُ أودهم. يعيشُ معظمُ الموجودين في سوريا الآن تحت عنوان المثل الدارج "عايشين من قلّة الموت". صحيحٌ أّنّ هذا لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ، لكننا محكومون بالقهر لا بالأمل كما قال سعد الله ونّوس ذات خطاب في يوم المسرح العالمي.

العقليّة المتشددة نفسها التي قررت من جهة النظام المُضيّ بالحلّ العسكري الأمني إلى أقصى درجة، حتى ولو كانت النتيجة حرق البلد بأكملها، تحت شعار محاربة الإرهاب وأعداء الوطن، هي ذاتها التي قرّرت على الطرف الآخر، من جهة من تنطّحوا لتمثيل الناس والثورة، المضّي حتى النهاية في شكل الصدام الدموي، حتى لو كانت النتيجة هي الخراب العميم والدمار اللامحدود، تحت شعار إسقاط النظام.

المأساة السوريّة التي نعيشها اليوم ليست وليدة اللحظة بالتأكيد، فالتاريخ المعاصر مليء بالمؤشرات على عُمق الأزمة. كذلك ليس النظام وحده المسؤول عنها أيضاً. إنّ الإشارة إلى أسّ المشكلة وجذرها لا يُغني عن إظهار الحقيقة ووضع الإصبع على الجرح. نحن مجتمع مأزوم أساساً، وما الأثر الذي أحدثته الثورة إلّا أثرٌ كاشف لأوجه هذه الأزمة المستعصية. لم تُنشئ الثورة مجتمعنا المشحون بالتعصّب والانغلاق وانعدام الهويّة، بل أظهرته على حقيقته بعد أن سقط جدار الخوف الذي كان يقف حاجزاً أمام الانهيار الكبير. آن لنا أن نتحلّى بالشجاعة وأن نتحمّل المسؤولية الأخلاقيّة وأن نستجمع شجاعتنا لنجهر بالحقيقة.

"هبط نيل أرمسترونغ وبيز ألدرون على سطح القمر في 21 تموز 1969، وفي الأشهر التي سبقت رحلتهم، تدرّب روّاد فضاء مهمة أبولو 11 في صحراء نائية شبيهة بالقمر في غرب الولايات المتحدة. وهذه المنطقة هي موطن لعدّة مجتمعات من سكان أميركا الأصليين، وهناك قصّة – أو أسطورة – تصفُ لقاءً بين روّاد الفضاء وأحد السكّان المحليين، فبينما كانوا يتدربون صادفوا أميركياً أصلياً عجوزاً. سألهم الرجل ما الذي كانوا يفعلونه هناك، فأجابوا أنهم جزء من بعثة بحثية ستسافر قريباً لاكتشاف القمر. عندما سمع العجوز ذلك استغرق صامتاً لبضع لحظات، ثم سأل روّاد الفضاء إن كان باستطاعتهم أن يقدموا له معروفاً.

فسألوا: ماذا تريد؟

قال الرجل العجوز: حسناً، إن شعب قبيلتي يعتقدون أنّ الأرواح المقدّسة تعيش على القمر، وكنت أسأل نفسي ما إن كان باستطاعتكم نقل رسالة مهمة لهم من شعبي.

سأل روّاد الفضاء: ما هي الرسالة؟

عندها نطق الرجل بكلمات بلغته القبلية، وطلب من روّاد الفضاء تكرارها حتى يحفظوها بشكل صحيح.

سأل روّاد الفضاء: ماذا تعني هذه الرسالة؟

فأجاب الرجل: أوه، لا أستطيع إخباركم، إنه سرٌّ لا يُسمح بمعرفته سوى لأفراد قبيلتنا وأرواح القمر.

وعند عودتهم إلى قاعدتهم بحث روّاد الفضاء كثيراً حتى عثروا على شخص يمكنه أن يتكلّم اللغة القبلية لذلك العجوز، وطلبوا منه ترجمة الرسالة السريّة. وعندما كرروا أمامه ما حفظوه، ضحك المترجم مقهقهاً. وبعدما هدأ سأله روّاد الفضاء عن معنى الرسالة، فأوضح لهم أنّ الجملة التي حفظوها بعناية تقول:

لا تصدّقوا كلمة واحدة مما يقوله هؤلاء الناس، جاؤوا لسرقة أراضيكم." (1)

لم يسعَ نيل أرمسترونغ للهبوط على كوكب سوريا، لكنّ كثيرين غيره من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب هبطوا بالفعل، بنوا قواعدهم العسكريّة ونشروا قواتهم البريّة، هجّروا السكّان وجرّفوا القرى، هدموا المُدن فوق رؤوس أصحابها ممن رفضوا التهجير، تقاسموا الثروات والأراضي، احتلوا المطارات والموانئ، استباحوا كلّ شيء. لم يبق من هذا الوطن الجريح سوى الخراب والدمار وتجّار الدماء وأمراء الحروب، لم ينمُ في سوريا منذ سنوات سوى السجون والمعتقلات، وكأنه كان ينقصنا سجون الأسد لتلحقها سجون داعش والنصرة وحرّاس الدين وبقيّة التجّار وباعة الأوطان!

في النهاية، يبدو أنّ الحلّ بدأ يختمر بين أطراف الصراع، وسوف نشهد انتخابات رئاسيّة في العام 2021، وسيفوز بها الأسد طبعاً، وسنكون قد وصلنا إلى حيث بدأنا.

المراجع:

1-    كتاب " العاقل مختصر تاريخ الجنس البشري" هافل نوح هراري.