مهاجرون ولاجئون، نجاح فردي وفشل الجماعي

2018.07.18 | 00:07 دمشق

+A
حجم الخط
-A

تداولت وسائل التواصل الاجتماعي نقلاً عن وكالة الأنباء رويترز، خبر تأسيس دانيال عيسى وهو لاجئ سوري في فرنسا منذ أربعة أعوام فقط، علامته التجارية الخاصة بالأحذية الرياضية الفاخرة التي عرض تصاميمها في باريس وبيفرلي هيلز وكورسيكا وآجاكسيو. يبلغ سعر زوج الأحذية الواحد من هذه التصاميم 330 يورو أي ما يعادل تقريباً 400 دولار أمريكي، وقد بدأ بعض المشاهير فعلاً بشراء منتجاته.

بغضّ النظر عن الظروف التي مرّ بها دانيال، فإنه يعتبر واحداً من كثُرٍ مثله دفعتهم الظروف في بلادهم للهجرة أو اللجوء إلى أوروبا وأميركا وغيرها من بلدان العالم التي يأمن فيها الإنسان على نفسه ويجد فرصاً أفضل للحياة.

في حديثه عن هذا النجاح يقول دانيال: إنه كان يهوى تصميم الأزياء منذ صغره، وباستثناء جدّته التي علّمته ودرّبته ما كان أحدٌ من أهله يعرف بموهبته وبحلمه أن يصبح مصمّم أزياء، فقد كانت نظرة الأهل آنذاك إلى هذا النوع من العمل تعتبره كمهنة خاصّة بالفتيات لا بالرجال.

دانيال ابن دمشق، العاصمة العربيّة التي يُفترض أنه فيها جرى انتخاب أوّل نائب شيوعي وأوّل سيدة في البرلمان، أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ، العاصمة التي مرّت عليها أقوامٌ وحضاراتٌ من آلاف السنين، ومع ذلك فلم تستطع أن تستوعب حلم دانيال ولا موهبته.

قد يقول قائلٌ إنّ ذلك يعود لظروف أسرته أو بيئته، وقد يكون هذا صحيح جزئيّاً، لكنّه يبقى من حيث النتيجة ابن ثقافة سائدة في مجتمع منغلق على نفسه بفعل عوامل كثيرة أهمّها بلا شكّ استبداد نظام الحكم السياسي الذي يؤدي مع الزمن إلى الكبت الاجتماعي والثقافي وانعدام الأفق وقطع التواصل مع الحضارة والمعرفة والثقافة بما هي منتج بشري يتمثّل في النهاية كقيم وسلوكيات وأنماط حياة.

يمكن لأيّ منّا أن يضرب عشرات الأمثلة بل مئاتها وربّما آلافها عبر قرن من الزمن عن حالات نبوغٍ أو نجاح أو تفوّق فردي حقّقه مهاجرون ولاجئون من بلدان العالم الثالث في أوروبا وكندا وأستراليا وأميركا، لكن قد يصعبُ على أحدنا أن يجد حالة نجاحٍ جماعي لهؤلاء اللاجئين في ذات بلدان المهجر! فلمَ يا ترى؟

لن ندخل في سؤال أسباب نجاح الافراد عند مغادرتهم بلاد العالم الثالث وقدومهم إلى الغرب،

لماذا لم يستطع السوريون أو اللبنانيّون أو العراقيون أو المغاربة أو حتى الباكستانيون والأفغان والإيرانيّون تشكيل مجموعات ضغط مؤثّرة في السياسات الداخلية أو الخارجيّة لدول المهجر؟

فهي شبه معروفة ولا تنحصر بأجواء الحريّات العامة وسيادة القانون وتكافؤ الفرص... بل تتعداها إلى المناخات المجتمعيّة المنفتحة على الحضارة والثقافة البشرية عموماً.

السؤال الذي يحتاج لبحث وإجابات هو لماذا لا نسمع عن حالات نجاح جماعي حققها المهاجرون من بلداننا العالم ثالثيّة، لماذا لم يستطع السوريون أو اللبنانيّون أو العراقيون أو المغاربة أو حتى الباكستانيون والأفغان والإيرانيّون تشكيل مجموعات ضغط مؤثّرة في السياسات الداخلية أو الخارجيّة لدول المهجر؟

هل تكمن الإجابة في بنيتنا المجتمعية، أم في تركيبتنا الثقافية، أم في خلفياتنا الدينيّة، أم في ظروف أخرى تتعلّق بالمجتمعات المضيفة ذاتها؟

لو كانت الظروف الخاصّة بالمجتمعات المضيفة وحدها هي السبب فكان أولى عدم وجود حالاتٍ فردية أيضاً، لأنّ هذه الأجواء والظروف ذاتها التي تساعد على النجاح الفردي يمكنها بكلّ بساطة أن تساعد على النجاح الجماعي، فلمَ لم نرَ ولم نسمعْ عن ذلك؟

لا شكّ بأن هناك الكثير من المعوّقات التي تقف في وجه المغتربين، فالغرب ليس واحة المساواة وتكافؤ الفرص والإنسانيّة المجرّدة كما يصوّرها بعضُ قليلي المعرفة والتجربة ممّن لم يعيشوا فيه أو ممّن لم يقرأوه بروحٍ نقديّة موضوعية بعيدة عن الاستلاب الفكري والانبهار الحضاري من جهة وبعيداً عن الحقد المتعصّب المبني على مخلّفات ثقافة الحروب الصليبية والاستعمار الغربي لبلدان العالم الثالث من جهة ثانية.

من بين الصعوبات التي يواجهها المهاجرون عدم وجود أطرٍ ومؤسسات تمثلهم على المستوى السياسي، فهم قبل الحصول على الجنسية لا يتمتعون بحق المواطنة ولا يشاركون في الانتخابات التي على أساسها تُبنى السياسات المتعلّقة بالهجرة كما بغيرها من القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. كما إنّ عوائق اللغة كوسيلة تواصل وكحامل ثقافي وعوائق اختلاف البيئات ومستويات التعليم والتأهيل وأنماط السلوكيات والعادات المختلفة تشكّل حاجزاً كبيراً على المستوى الفردي كما على المستوى الجماعي.

لقد نظمت سويسرا على سبيل المثال سبعة استفتاءات شعبيّة خلال الفترة بين أعوام 1965 و1995، على الرغم من أنّها تعتبر من أراضي الهجرة منذ القدم، وبهذا الخصوص تقول البروفيسور روزيتا فيبّي(1):

"لا أدري إن كان بإمكاننا القول إنّ كثرة الاستفتاءات الشعبية تعبّر عن مشاعر الخوف، ولكن من دون شك هي انعكاس للحركة السياسية التي تحيط بموضوع الهجرة، ويبدو لي أن الأمر طبيعي، لأن هذه الظاهرة هي في نفس الوقت نتيجة تحوّل اجتماعي وهي سبب لتحوّلات لاحقة، غير أن الطريقة التي تعالَـج بها هذه المسألة، تحدّدها المشروعات السياسية التي تريد أن توظّف هذه القضية لصالحها."

وفي معرض حديثها عن مفهوم اندماج المهاجرين في المجتمعات المضيفة تقول البروفيسور روزيتا:

 " حمَلَ الاندماجُ – في بعض جوانبه كمفهوم ومصطلح حديث - معنى الانضباط إلى نموذج اجتماعي محدداً مسبقا وغير قابل للتفاوض."

وتضيف في شرحها الصعوبات التي يواجهها المهاجرون والتمييز ضدّهم من قبل المجتمع عموماً:

" لقد كنتُ أول من قام بدراسة ظواهر التمييز ضد الأجانب في ميدان العمل، وأشرت إلى انعكاسات ذلك السلوك، الذي يتوقف عند الاسم واللون، دون النظر إلى الكفاءات، وأثبِـت إحصائيا نِـسبَ التمييز التي كان يتعرّض لها الأتراك ورعايا بلدان البلقان لمجرد انتمائهم العرقي (30% من الأتراك، و62% من الألبان تعرضوا لهذا النوع من التمييز).
لكن التمييز يمسّ أيضا مواقع العمل، فلا تتاحُ للمهاجرين نفس الامتيازات التي تتاحُ لرفاقهم كفرص التدريب والارتقاء الوظيفي، فضلا عن الأجور المتفاوتة."(2)

في نفس سياق البحث عن إجابات على أسئلة الهجرة واللجوء في كندا

إن اختراق المجتمعات المضيفة والتفاعل الإيجابي معها يتأتى عن طريق ممارسة تواصل ثقافي متبادل في كل أشكاله وخلق فضاءات للممارسة وللتحاور اليوميين.

التي يُعتبر جميع سكّانها من المهاجرين– باستثناء السكان الأصليين أو ما يطلق عليهم اصطلاحاً الهنود الحمر- يقول الباحث محمد فاضل رضوان: (3)

"أولا يجب ممارسة النقد المزدوج كي نوضح بجلاء الحقائق وننفض الغبار عن أشياء عديدة، أي نقد سياسيات التذويب الغربية والتي تحاول قولبة المهاجر في شكل أنماط جاهزة على شاكلة مرغوبة ومصنوعة سلفا، ثانيا، يجب على المهاجر أن يمارس النقد الذاتي حتى يستطيع مراجعة حساباته وطرق تعاطيه مع البلد الذي يقيم فيه مع خلق مسافة بينه وبين ثقافته وتراكماتها التي فيها الغث والسمين حتى يصل إلى جروحه الوجودية والاجتماعية. فهناك هوامش من الحرية بأوروبا وأمريكا فرضتها سياقات تاريخية معينة يجب توظيفها للتفاعل مع هذه المجتمعات التي يعيش بين أحضانها المهاجر. فالهوة بين الشعوب والسياسيات موجودة حتى في أعرق الديموقراطيات. لذلك، فالتغيير الحقيقي يبدأ من داخل هذه المجتمعات المحتضنة ـ بكسر الضاد ـ، وهذا لا يتحقق بالانعزال والانغلاق داخل مُنعزلاتٍ (Ghettos) سكنية وثقافية يحلم فيها المهاجر بالتجانس والاطمئنان النفسي والروحي ويهدف من وراءها إلى الإحساس بالهدوء جنبا إلى جنب من يشاركه الملة أو الدين أو الثقافة أو ما شابه ذلك. إن اختراق المجتمعات المضيفة والتفاعل الإيجابي معها يتأتى عن طريق ممارسة تواصل ثقافي متبادل في كل أشكاله وخلق فضاءات للممارسة وللتحاور اليوميين. الهجرة ليست هي الحصول على دبلوم وعمل قارّ وثابت. إن ما يحتاجه المهاجر هو رؤية جديدة ومخططات واضحة ومغايرة لمناقشة الفاعلين الاجتماعيين والتفاوض معهم بعيدا عن الانفعال وتبادل الأحكام القبْليِّة البعيدة كليا عن الحقيقة الموضوعية."(4)

يبقى السؤال معلّقاً على احتمالات كثيرةٍ قد يكون بعضها طبيعة مجتمعاتنا وثقافتنا البعيدة عن العمل الجماعي، وقد يكون ضعف الانتماء إلى الهويّات الوطنيّة الأصليّة، وقد يكون غياب مفهوم الدولة أو المجتمع أو حتى الجماعة بمفهومها الخارج عن إطار العشيرة والقبيلة أو المذهب والطائفة، وقد يكون السبب في استغراق حلم النجاة الفردي لأسس العمل الجماعي وبالتالي ضياع الطاقات في بناء الحالات الفردية وعدم الالتفات إلى قيمة الروابط الجماعيّة التي قد تشكّل سور حماية إضافي في حال تم أقلمتها وتفعيلها ضمن أطر القوانين السائدة في مجتمعات دول المهجر واللجوء.

 

المراجع:

  1. هي عالمة اجتماع سويسرية من أصل إيطالي، متخصصة في ميدان دراسات الهجرة وحاصلة على دكتوراه في العلوم السياسية من جامعة روما، وتعمل كأستاذة محاضرة في قسم الإنتروبولوجيا وعلم الاجتماع بجامعة لوزان، وهي عضو بمجلس إدارة معهد دراسات الهجرة في نيوشاتيل.
  2. موقع سويس إنفو اللإلكتروني Swissinfo.ch مقتطفات من مقابلة أجراها معها عبد الحفيظ العبدلي.
  3. محمد فاضل رضوان كاتب صحافي من المغرب، مقيم في كندا، باحث سوسيولوجي مهتم بالتحليل الاجتماعي والسياسي.
  4. موقع "ديوان العرب" الإلكتروني، منشور بتاريخ 10-6-2018.
كلمات مفتاحية