من سيبني سوريا؟

2019.05.01 | 00:04 دمشق

+A
حجم الخط
-A

الشعوب غير الأفراد، لكل فرد عمر معين يعيشه يبدأ صغيرًا يكبر ينمو ينجز يشيخ ثم يموت فيما لو عاش بشكل طبيعي بحسب قوانين الطبيعة وقوانينه البيولوجية والفيزيولوجية، بينما الشعوب بطبيعتها إذا ما بقيت حية، أن تمشي دائمًا إلى الأمام، وأن تكون دائمًا قادرة على تطوير نفسها، والشعوب التي لا تسعى في هذا المجال، ولا تستطيع أن تنتج المعرفة وأن تبني نفسها بخبرات أفرادها فإنها تنتهي.

 في مقالين نشرهما ماركس عام 1844 بعنوان "في نقد فلسفة الحقوق عند هيغل" منح دوراً حاسماً للبروليتاريا في إقامة الثورة الاجتماعية، قبل إصداره مع أنجلز البيان الشيوعي في العام 1848 الذي وردت فيه العبارة التي صارت بحد ذاتها شعارًا عالميًا: "أيها البروليتاريون في جميع البلدان اتحدوا" لكننا رددناها على مرّ أجيال في بلداننا العربية كتعويذة تقول: "يا عمال العالم اتحدوا".

طريق النضال كان طويلاً أمام الطبقات الكادحة التي كانت واقعة تحت استغلال أرباب العمل

في أثناء إضراب قام به العمال في شيكاغو في عام 1886 فتحت الشرطة النار على المتظاهرين وقتلت عددًا منهم، وإذ ألقيت قنبلة على الشرطة قتلت عددًا منهم وجرحت آخرين اعتقلت السلطات عددًا من قادة المظاهرات ونفذت الإعدام بأربعة منهم، كتب أوجست سبايز أحد العمال المحكوم عليهم بالإعدام خطابا لابنه الصغير جيم قبل أن يُعدم قرأته زوجته: "ولدي الصغير، عندما تكبر وتصبح شابًا وتحقق أمنية عمري ستعرف لماذا أموت. ليس عندي ما أقوله لك أكثر من أنني بريء. وأموت من أجل قضية شريفة ولهذا لا أخاف الموت وعندما تكبر ستفخر بأبيك وتحكي قصته لأصدقائك" لتُظهر الحقيقة لاحقًا بأن من رمى القنبلة كان أحد عناصر الشرطة أنفسهم. إذًا طريق النضال كان طويلاً أمام الطبقات الكادحة التي كانت واقعة تحت استغلال أرباب العمل ودفعت أثمانه باهظة، لكن في النهاية أثمرت النضالات في شتى أنحاء العالم لتنتج قوانين تنظم العلاقات وتضمن الحقوق، وهذا لا يعني أن الوضع صار مثاليًا، لكنه أنجز خطوات متقدمة في هذا الطريق.

يعتبر الأول من مايو/ أيار احتفالاً دولياً للإنجازات الاجتماعية والاقتصادية للحركة العمالية التي انطلقت منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى أن حصل العمال على مطالبهم التي كانت تتلخص حينها بجعل يوم العمل ثماني ساعات بشكل أساسي، ثم مع استمرار النضال وتبلور مفاهيم ووضع أسس حقوق الإنسان صارت هناك قوانين ونواظم تضبط العلاقة بين العمال والجهات التي تستخدمهم.

وكانت سوريا، وما زالت، تحتفل بهذا العيد، إنما على طريقة القيادة "الحكيمة"، وعلى وجه الخصوص كون الشعار الذي يقول إن "اليد العليا هي المنتجة في دولة البعث" يجب أن يُترجم عمليًا، فكان العمل الطوعي لازمة لا بد منها كل عام في عيد العمال الذي يعتبر في كل أنحاء العالم عطلة رسمية مرصودة للاحتفال الحقيقي، كل على طريقته فهو يوم إجازة يقضيه الفرد بالشكل الذي يحلو له، أو للقيام بنشاطات معينة كالمظاهرات يعبر فيها المتظاهرون عن موقفهم تجاه قضية ما، أما في سوريا فلقد كان يومًا للإنتاج وتنازلاً عن حق العمال في العطلة "طوعًا" كي يهدوا هذه التضحية النبيلة للحزب المجيد والقائد الخالد، في الوقت الذي كانت أوضاع الطبقة العاملة، بل أوضاع غالبية السوريين تنحدر نحو مستويات معيشية أدنى ويخسرون حقوقهم بالتدريج في ظل الفساد الإداري والحكومي المتنامي باضطراد، وفي ظل القمع وكم الأفواه وكتم النفس. وكانت تقام المهرجانات الخطابية التي يحضرها الرفاق الحزبيون بمناصبهم القيادية ومسؤولو الاتحادات والنقابات وغالبية رموز النظام وتُنقل هذه الأعراس الوطنية على الشاشات لتدخل البهجة إلى نفوس الشعب المكافح.

لم تكن مشاكل الطبقة العاملة ناجمة عن تخلف القوانين والأنظمة المتعلقة بها مباشرة أو بالمجال العام وإدارة الدولة بالدرجة الأولى، فلقد ضمنت القوانين نظريًا حدًا لا بأس به من الحقوق وكانت تستبطن هدفًا نظريًا أيضًا هو توجيه التنمية بما يخدم الدولة والمجتمع، لكن المشكلة الأساسية وأم المشاكل تتلخص بعنوانين كبيرين متلازمين تندرج تحتهما كل العناوين الأخرى التي ترسم صورة المشهد السوري خلال العقود الخمسة الماضية، الاستبداد والفساد.

السؤال الجوهري هو: من سيبني سوريا؟

وعندما انتفض الشعب مطالبًا بحقوقه المهدورة وكرامته المنتهكة قوبل بالعنف المتصاعد حتى ولّد عنفًا مقابله ودمرت البلاد وقتل العباد، وعلى طول هذه السنوات الدامية فرغت سوريا من طاقاتها الكامنة خاصة الشبابية منها، الخامات التي تدخرها الأمم لمستقبلها دائمًا فتعدّها الإعداد الصحيح. من كان عمرهم عند انطلاق الحراك عشر سنوات صاروا اليوم بعمر الإبداع والابتكار والإنتاج، أين هم اليوم؟ إما قضوا في ساحات الحرب أو هجروا أو ماتوا تحت التعذيب أو ينتظرون مستقبلاً يتربص بهم لا مفر منه، حمل السلاح. من ولد مع بداية الحرب أو كان في طفولته الأولى عاش في زمن الحرمان من أبسط حقوقه، حتى فرص التعليم والتأهيل لأي مهنة مستقلة حرم منها، جيل ينمو ويكبر على وقع الحرب في الشوارع وينام كثير منه في الحدائق، تتلقفه أيدي الجريمة المنظمة التي تستهدف ما بقي من أركان المجتمع لم يتداعَ بعد. ومن سلم من هذه الاحتمالات وكان عليه أن يجد عملاً يأكل منه أو يطعم أطفاله فيما لو كان بعمر الزواج فليس أمامه إلا العمل أجيرًا عند أرباب تجارة الحرب، التجارة التي راكمت أموالاً تستثمر في العقارات والسلع والاستهلاك، أو تجارة الممنوعات والتهريب والحشيش والمخدرات والسلاح، أو تجارة السوق السوداء. معظم معامل سوريا دمرت أو هُجرت إلى أماكن أكثر أمانًا، معظم الحرف في سوريا غابت عن الساحة ورجع الناس إلى أدوات الاقتصاد البديل بأشكاله البدائية ليدعموا الحياة كي لا تنهار، لم يعد في سوريا أيدٍ ماهرة، ولا حرفيون بارعون، ولا مبتكرون ولا عمال مؤهلون للبناء، لذلك في هذه المناسبة لا بد من طرح أسئلة جدية عن سوريا المستقبل، بأي شكل جاءت، موحدة أم فيدرالية أم مقسمة لا فرق، لأن القرار لم يعد بأيدي أبنائها، السؤال الجوهري هو: من سيبني سوريا؟ 

من سيبني سوريا وقد خسرت عمالها؟ كل الدول المساهمة في دمارها تنتظر مرحلة إعادة الإعمار، رؤوس الأموال النهمة تتربص لحظة الانقضاض على هذه الفريسة الدسمة لتتغول فيها من جديد، رؤوس الأموال جاهزة، لكن بأيدي من وبخبرات من وبخيال من سيُعاد بناء سوريا؟ وأين الفرد السوري من معادلة الإعمار، وهل سيكون هو الغاية في هذا المشروع "الأممي" الكبير؟ أم سيتحول السوريون إلى عمال عاديين يؤدون الأعمال البسيطة أو الخدمية في هذا المخطط الضخم الجبار، ثم يتحولون بعد انتهاء البناء إلى غرباء عن الحياة الجديدة في بلادهم، فقراء من جديد لأن ثمن إعادة الإعمار سيدفعه الشعب في المحصلة، فالأموال التي ستستثمر في هذا البازار الضخم لن تقبل بجدوى اقتصادية وهامش ربح لا يحققان طموحها ويشبعان نهمها.

أسئلة كثيرة لا بد أن تُطرح حتى لو قيل إن أوانها لم يحن بعد فالأولوية الآن هي لوضع حل والدخول في عملية سياسية تعيد للسوريين استقرارهم وتؤمن الظروف التي تساعدهم على التخطيط لحياتهم، لكن من منطلق مواجهة المشكلة بفهمها ووضع تصورات باكرة عن حلول ممكنة تصبح الأسئلة أمرًا ضروريًا لا يمكن تأجيله.