من حماة إلى الثورة السورية.. كيف تكررت مأساة العمل الإسلامي؟

2019.03.01 | 00:02 دمشق

+A
حجم الخط
-A

في ذاكرتنا السورية حول مجزرة حماه قبل عقود، التي تسيطر عليها كثيراً رواياتُ أهلنا القصيرة المشتتة، الخائفة من الحيطان الأربعة التي لها آذان، تكاد مأساة حماه تُختصر في مظلومية تاريخية تَعرّض لها أهل سوريا السنة، وأهل حماه خصوصاً، وبنشاط غير منظم لجماعة الإخوان المسلمين، المدافعين عن حق أهل السنة التاريخي في الحكم، الساعين لتنفيذ إرادة الله بالطريقة التي أمرهم بها.

من الناحية الواقعية، فإننا لن نستطيع عزل تلك الأحداث عن سياقها التاريخي، لكن نتجاهل إن اعتمدنا على هذه الروايات أن ما حصل في حماه قبل عقود سبقه حالة أشبه بثورة شعبية، تحرّك فيها الشعب السوري في مدنه ومحافظاته الكبرى بالذات (دمشق-حلب-حمص-حماة)، حيث أضربت النقابات العمالية والمهنية، وأغلقت الأسواق التجارية، وحصلت عصيانات مدنية رفضاً لسياسة نظام الأسد الأب، التي استهدفت تطييف وبعثنة مؤسسات الدولة والسيطرة عليها من قبل مجموعة تؤمن بالولاء المطلق للزعيم، والفشل في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي وعدت بها الحكومة من خلال الخطط الخمسية.

في تلك الأيام العصيبة على النظام، واتهامات الفساد التي طالت أعلى الرتب الأمنية والعسكرية، الذين

ظنَّ الإسلاميون يومها للأسف، كما ظنوا خلال الثورة السورية، أنهم سيحشدون كل السنة خلفهم في هذه المعركة عن طريق تبنيهم للخطاب الديني، متناسيين أو جاهلين أن السنة لاتوحدهم فقط عوامل الدين

يشكلون النواة الصلبة حول الأسد، وعجز حكومي كبير في تنمية معظم نواحي الحياة وتنفيذ الخطط الخمسية، وفي أجواء رفض شعبي وسخط متعالٍ بسبب تدخل الجيش السوري في الحرب اللبنانية ووقوفه ضد الكتائب الفلسطينية، في تلك الظروف، بدأ الصراع الداخلي ضد النظام يتحول إلى صراع ديني طائفي بين السنة والعلويين تحديداً.

ظنَّ الإسلاميون يومها للأسف، كما ظنوا خلال الثورة السورية، أنهم سيحشدون كل السنة خلفهم في هذه المعركة عن طريق تبنيهم للخطاب الديني، متناسيين أو جاهلين أن السنة لاتوحدهم فقط عوامل الدين، بل هناك عوامل تحكمها علاقات المصلحة بشكل أساسي. في حين استفاد الأسد إلى أبعد حد من هذه الظروف، حيث حافظَ على خطاب وطني في العلن، مُسَوِّقاً نظامه الضامن الوحيد للسوريين في عيشهم الكريم المستقر. بالتالي نجح من جديد في استقطاب الأقليات الأخرى بعد سنوات من الصراع معها (الدروز والإسماعيليون تحديداً)، بسبب استئصال رموزهم وضباطهم الأكثر قوة وتأثيراً في الجيش، بعد سيطرة  حزب البعث على السلطة عام 1963م.

في تشرين الثاني عام 1980م، في أيامٍ شعرت فيها القوى الإسلامية أنّ سقوط الأسد بات وشيكاً، أصدرت مجموعات أطلقت على نفسها الجبهة الإسلامية، بياناً سياسياً تحت عنوان: بيان الثورة الإسلامية في سوريا ومنهاجها، توعدت خلاله أنها لن تترك السلاح حتى سقوط النظام، وأنه لاعودة عن هذا الطريق بعد اليوم.

حسب البيان، كانت الحقوق المدنية والقانونية والحريات الشخصية للأقليات العرقية والدينية مصونة. لكن الواقع تكلم شيئاً آخر. حيث إن الجماعات الإسلامية المسلحة آنذاك، والتي تأثرت ببعض الفتاوى السلفية، وعلى رأسها فتاوى ابن تيمية، اعتبرت العلويين كفّاراً أو مشركين كمرحلة أولى، قبل إعلان وجوب قتالهم في مراحل تالية. وعندما نعلم أن الفِرَق الإسلامية عبر التاريخ (السنة، الشيعة، العلويون،الدروز والإسماعيليون، كما الأديان السمواية وأهل الكتاب..) قد كفَّرت أو ضلَّلت بعضها بعضاً، عندها نعلم معنى العبثية إن تبنى أحدها خطاباً دينياً، ومقدار العجز حينها في اقناع الأطراف الأخرى بالمساواة والعيش المشترك. ومع زيادة وتيرة العمليات الجهادية المسلحة آنذاك، وجد النظام مايؤكد به دعايتة الممنهجة، تلك العمليات التي استهدفت ضباطاً ومسؤولين وأكاديميين علويين خصوصاً، ثم العملية المشهورة التي قُتل فيها العشرات من طلاب كلية المدفعية في حلب (كلهم علويون)، نفذها أحد الضباط البعثيين الموالين لجماعة الإخوان المسلمين، النقيب إبراهيم اليوسف.

خلال هذه المواجهة الطائفية الصاعدة، حاولت الأحزاب والجماعات السياسية آنذاك (جماعة جمال الأتاسي- جماعة رياض الترك، أحزاب يسارية أخرى)، أن تقوم بدور ما في مواجهة هذه المعركة التي اعتبرتها معركة خاسرة ومدمرة للوطن. حيث اعتبرت أن النظام هو المسؤول الأول عن الحالة التي وصلت إليها البلاد، لكنها دعت في نفس الوقت القوى الإسلامية إلى تبني خطاب وطني، وعدم الذهاب إلى حيث يتقن النظام اللعب تماماً.

لكن بعد معركة حماه 1982م، التي راح ضحيتها عشرات الآلاف من سكان المدينة، والتي أراد الأسد أن يجعلها عبرة لكل المدن السورية، أصبح واضحاً أن معارضة النظام قد نالت ضربة قوية. فلجأت تلك القوى إلى تأسيس التحالف "الوطني" لتحرير سوريا، الذي تكونَّ من عدة جماعات معارضة، منها الإخوان المسلمون وبعثيون سوريون موالون لنظام البعث في بغداد. ثم تغير اسمه ليصبح الجبهة "الوطنية" لإنقاذ سوريا، ولكنه أصبح ضعيفًا بلا معنى. في حين أصبحت سوريا ملعباً لنظام الأسد وضباطه العسكريين الكبار.

تكاد هذه الصورة التي حصلت في سوريا قبل عقود، تنسحب تماماً على ما حصل في الثورة السورية منذ بداية 2011م، ولكن بشكل أوسع انتشاراً وأكثر كثافة، حيث تكررت مأساة حماة في عشرات المدن السورية. لكن اللافت أن الجماعات الإسلامية لم تستفد من التجارب السابقة، وأعادت نفس الأخطاء واستنسختها، وربما استدعت بعض مآسي العقود السابقة. وهنا يمكننا الحديث عن أسلمة العمل المسلح (تحويل الجيش السوري الحر إلى ميليشيات إسلامية). كما يمكننا الحديث عن استبدال فكرة الدولة الوطنية الديمقراطية التي طرحتها الثورة السورية خلال عامها الأول، بفكرة الدولة الإسلامية وتحكيم الشريعة، أضف لمأساة الفوضى وتعدد الرايات والفصائلية.

فالثورة السورية التي بدأت ثورة سلمية شعبية، شارك فيها كل السوريين، وحصل فيها آلاف المظاهرات والاحتجاجات والإضرابات والعصيانات، ثم عندما خرجت عن سلميتها، وتعسكرت تحت مسمى الجيش السوري الحر، تم سرقتها، لتبدأ بعدها مرحلة التشكيلات الإسلامية المسلحة التي أدخلت البلاد في فوضى رهيبة، وعجزت عن تقديم أي مشروع مفيد قابل للحياة. وكلنا يذكر على سبيل المثال تجربة الجبهة الإسلامية التي تشكلت نهاية 2013م من كبرى الفصائل الإسلامية، في وقت كان يظن الكثير من المراقبين أن نظام الأسد الابن يعيش أيامه الأخيرة، لكن طغت عليها خلافاتها ومشاكلها الداخلية والخارجية، ثم بدأت تدريجياً تحت ضغط الخسائر العسكرية وتقدم نظام الأسد العسكري تتجه نحو الخطاب "الوطني" المفرغ من مضمونه وقوته، كما حصل مع التشكيلات الإسلامية في الثمانينات.

وربما كانت تسمية معركة تحرير حلب قبل سنوات بمعركة إبراهيم اليوسف، أكثر تلك اللحظات التي حاولت فيها التشكيلات الإسلامية وداعموها أن يستحضروا مآسي التاريخ القريب، وإسقاطه على الثورة السورية. فتح حلب الذي كان يمكن أن يكون أملاً لكل السوريين، تحول إلى لحظة تعززت فيها طائفية بعض التشكيلات المعارِضة المسلحة.

في المقابل استطاع نظام الأسد أن يُسخِّر خبرات الماضي كلها لسحق الثورة السورية، فاستنسخ تجربة حماة، ودمر المدن الثائرة فوق رؤوس سكانها، حيث قتل واعتقل مئات آلاف السوريين خلال سبع سنوات وشرد الملايين منهم، حتى وصلت الحال برئيس النظام أن يصرّح أن: بنية الشعب السوري أصبحت أكثر انسجاماً، وأكثر ملائمةً لنظام الحكم.

خلال تلك العقود وحتى اللحظة الحالية، يتبنى كثير من السوريين خطاب المظلومية، كون النظام هو الذي جرَّ الثورة إلى الميدان العسكري أو الحرب الطائفية، وهذا لن نختلف على صحته بطبيعة الحال، لكن ينسى السوريون أنهم يعيشون في منطقة تلتقي فيها كثير من العقد والمصالح الدولية. في عالم تحكمه منظومات متوحشة. وبالتالي عليهم ألا ينجروا إلى

بات السوريون أكثر إيماناً أن الدول لا تُبنى بالشعارات والخطابات. بل إن بناء الأوطان يكون عندما تتمكن نخبة شعب ما من صياغة دستور أو عقد اجتماعي يحقق مصالح مواطنيه وتطلعاتهم

معارك تُحقق مصالح عدوهم، في الوقت الذي تهدم مصالحهم وأوطانهم. وعليهم أن يسألوا أنفسهم باستمرار هذا السؤال التأسيسي: هل كان يمكن أن تختلف نتائج الثورة السورية فيما لو لم يـتأسلم الحَرَاك العسكري وبقي تحت مسمى الجيش السوري الحر، وهل كانت ستختلف نتائج الثورة فيما لو كان لها قيادة عسكرية موحدة تتبنى الرؤية الوطنية الواضحة ومشروع الدولة الديمقراطية؟!

أخيراً، ربما بات السوريون أكثر إيماناً أن الدول لا تُبنى بالشعارات والخطابات. بل إن بناء الأوطان يكون عندما تتمكن نخبة شعب ما من صياغة دستور أو عقد اجتماعي يحقق مصالح مواطنيه وتطلعاتهم، ويشعر فيه الجميع أنهم ينتمون بقوة وإخلاص لهذا الوطن الجديد، ومستعدين أن يدافعوا عنه بكل إمكاناتهم.

وربما على السوريين أن يؤمنوا أن مواجهة المنظومات المتوحشة المحلية والدولية التي حاربت ثورتهم خلال السنوات الماضية، تُوجِب عليهم بناء منظومتهم الوطنية القادرة على الحياة والاستمرار، وألا ينجروا إلى معارك لايعرفون عقباها، في حين أن عدوهم يتقنها تماماً.