منبج بانتظار تغريبتها الثالثة

2018.12.28 | 00:12 دمشق

+A
حجم الخط
-A

بين شرق الفرات وغربه، ومع قدوم شتاء مليء بالمبهمات، تستيقظ مدينة منبج ملتحفةً بمخاوف أهلها وتوجساتهم، ومتسائلة: ما المصير الذي تحمله إليها تلك الحشود العسكرية التي تحيط بأطرافها الأربعة؟ ويزداد هذا التساؤل وجعاً – بالنسبة إلى سكانها – كلّما ازدادوا يقيناً بأن معظم الرابضين على تخومها، المدافعين عن هذه التخوم، والمتأهبين لاقتحامها على حدّ سواء، لا يرحمون وجعها، ولا يحملون تطلعات أهلها أو آمالهم، بل جلّ ما يريده هؤلاء أن يكون سكان منبج وقوداً سريع الاشتعال، وقطيعاً سهل الانقياد، وغنيمةً سلسة الحيازة.

سلبيّة الموقف التي تتجسّد بعدم القدرة على التأثير ليست السمة المرحلية لسكان منبج وحدها، بل لعلها سمة السوريين الذين يجدون مصيرهم يُصاغ وفقاً لصراع مصالح إقليمية ودولية، باستثناء واضح لمصالحهم، اللهمّ ما توافق منها، ومصلحة الطرف الأكثر نفوذاً وقوّةً. ولعلّ هذه السلبية التي فُرضتْ على أهالي مدينة منبج – كما على السوريين جميعهم – هي التي عزّزت لديهم منذ بداية العام 2014، الشكوك والريبة المتزايدة في السلطات المتعاقبة على مدينتهم.

وعلى مدى ثماني سنوات، يمكن الحديث بإيجاز عن ثلاثة أطوار عاشتها المدينة:

الطور الأول: يبدأ منذ تاريخ ( 19 – 7 – 2012 ) وهو اليوم الذي تحررت فيه المدينة من سلطة نظام الأسد، وراحت تعيش بهجتها الثورية، كغيرها من المدن المحررة، حين كانت الثورة السورية في طورها الأكثر تألّقاً ونصاعةً، ولعلّ أهم ما يميّز تلك المرحلة هو أنها كانت اختباراً عظيماً للوعي الثوري لدى أبناء المدينة، إذْ على الرغم من الإمكانات الشحيحة لدى الكيانات الثورية التي تفتقر إلى التخطيط والخبرات الإدارية، وكذلك على الرغم من الفوضى الفصائلية لكتائب الجيش الحر، بالإضافة إلى غياب أي مظلة سياسية راعية للمجلس المحلي آنذاك، كالائتلاف وسواه، أقول : على الرغم من ذلك، فقد  حافظت مدينة منبج على كافة ممتلكات و مؤسسات الدولة، كما حافظت على استمرار عمل كافة الدوائر الخدمية الحكومية وعلى تقديم خدماتها كاملة للمواطنين، بعيداً عن أي حالة تخريب أو نهب أو سرقة، ولعل هذا الأمر بحد ذاته يُعد تجسيداً لمفهوم

نزعت منبج ثيابها الخضراء، واتشحت بالرايات السوداء التي لم تبق ولم تذر، ولعل الأشهر الثلاثة الأولى من الاحتلال الداعشي، والتي شهدت قطع الرؤوس واليدين وأفظع حالات الإجرام، وتعليق الجثث في الساحات العامة

( إسقاط النظام والحفاظ على الدولة)، هذا المفهوم الذي غابت ترجمته الفعلية في العديد من المدن والبلدات المحررة آنذاك. ولعل السمة الأهم في تلك المرحلة أيضاً، هو غياب أي حالة من حالات النزاع العرقي أو الإثني، علماً أن المدينة تنطوي على مزيج سكاني متنوع عرقياً، بل إن حالات التضامن والتكاتف الاجتماعي التي كانت تظهر، وخاصة في أعقاب قصف الطيران الذي تقوم به قوات النظام، تؤكد بوضوح، أن التجانس القيمي والاجتماعي المتجذر لدى أهالي منبج كان عصيّاً على الاجتثاث والاستئصال.

الطور الثاني: ويبدأ منذ 22 – 1 – 2014 ، يوم احتل تنظيم ( داعش ) مدينة منبج، بعد أن أطبق سيطرته على ريف حلب الغربي والشمالي، وعلى مدينتي الباب وجرابلس، ويومها، نزعت منبج ثيابها الخضراء، واتشحت بالرايات السوداء التي لم تبق ولم تذر، ولعل الأشهر الثلاثة الأولى من الاحتلال الداعشي، والتي شهدت قطع الرؤوس واليدين وأفظع حالات الإجرام، وتعليق الجثث في الساحات العامة، فضلاً عن الاعتقالات والملاحقات لمعظم الناشطين المدنيين والعسكريين من أبناء المدينة، كانت كفيلة بأن تجعل المدينة تركن في حالة موات ثوري، وانزياح شبه مطلق لأي ملمح من ملامح الثورة، فضلاً عن حالة عامة من القهر والإذلال الذي تفنن تنظيم داعش في ممارسته على المواطنين. ولعل الأمر الأكبر فداحة هو ما تركه التنظيم الإرهابي في عقول وسلوك الناشئة والأطفال، حين كان يجبرهم على تلقي أجنداته التربوية والتعليمية التي تنطوي على كل قذارات الجهل والتخلف وبذور الإرهاب.

الطور الثالث: ويبدأ من نيسان 2016، حين قرر التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الامريكية الحربَ على داعش، وطرْدها من مدينة منبج، وذلك بالتنسيق مع قوات سورية الديمقراطية. استمرت تلك الحرب طيلة خمسة أشهر، راح ضحيتها (800) مواطن مدني، منهم مئتان وعشرون في ليلة واحدة، أي في يوم 19 – 7 – 2016، حين استهدف التحالف قرية (التوخار) في ريف منبج الشمالي. إضافة إلى حالات كبيرة من النزوح والتهجير القسري الذي مارسته قسد بحق سكان العديد من القرى والبلدات ذات الأغلبية السكانية العربية على شواطئ الفرات، بل هناك العديد من القرى التي مُسحت ولم تعد قائمة. ومنذ آب 2016، باتت المدينة تحت سلطة قوات سورية الديمقراطية، التي لم تحتج كثيراً من الوقت، لتفصح عن الآليات التي تمارس سلطتها من خلالها، والتي تتمثل في كيانين إثنين، الأول: عسكري، وهو صاحب السلطة والقرار، والمقرر الفعلي لكل شؤون المدينة، ومعظم قادة وأعضاء هذا الكيان ينتمون إلى حزب الاتحاد الديمقراطي pyd، فضلاً عن أن أكثرهم ليسوا سوريين، بل إن النافذين منهم هم من أكراد تركيا، وهؤلاء لا يحملون في نفوسهم وسلوكهم معاً أي انتماء، لا إلى منبج ولا سوريا. اما الكيان الثاني فهو مدني، ويدعى ب (المجلس المحلي)، وقد حاولت (قسد) تطعيمه ببعض العناصر التي تنتمي إلى مكونات غير كردية (عرب – تركمان – شركس)، إلّا أن هذا الكيان الذي من المفترض أن يتولى الإدارة المدنية، لم يكن يملك من أمره سوى الامتثال لما يمليه حامل السلاح الذي لا يرى في نفسه سوى حاكم عرفي للمدينة، كما بات واضحاً أن ما يدعى بالمجلس المحلي، لم يكن سوى للاستثمار الإعلامي الذي حاولت قسد توظيفه لتعزيز مصداقية خطابها السياسي لا أكثر.

اليوم، وبعد اتخاذ الرئيس الأمريكي (ترامب) قراره بانسحاب القوات الأمريكية من سوريا، تجد (قسد) نفسها

هل ستتيح التفاهمات الإقليمية والدولية لنظام الأسد باقتحام مدينة منبج، لتبدأ كارثة جديدة؟ وهل الأمريكان جدّيون بإخراج قسد من منبج؟ أم ستكون مواجهة عسكرية بين فصائل الجيش الحر التي تنسق مع الجيش التركي وبين قوات قسد التي ترفض الانسحاب؟

في حالة شديدة من (اليتم)، بسبب زوال المظلة الأمريكية، ما يدفعها للبحث عن البديل أو المنقذ العاجل، ولا غرابة إن رأت قسد أن هذا البديل (المتخيل) هو نظام الأسد، ذلك أن التنسيق وتبادل المواقع والمصالح، كان حاضراً بقوة بين الطرفين، منذ الأشهر الأولى لانطلاقة الثورة عام 2011.

وحيال هذا الزخم الهائل من الحشود العسكرية التي تحيط بكافة أطراف المدينة، ووسط التصعيد الإعلامي الموازي لاختلاط الأوراق، تستيقظ في نفوس أهالي منبج من جديد، أسئلة هائلة ممزوجة بشتى أشكال الخوف والقلق، هل ستتيح التفاهمات الإقليمية والدولية لنظام الأسد باقتحام مدينة منبج، لتبدأ كارثة جديدة؟ وهل الأمريكان جدّيون بإخراج قسد من منبج؟ أم ستكون مواجهة عسكرية بين فصائل الجيش الحر التي تنسق مع الجيش التركي وبين قوات قسد التي ترفض الانسحاب؟ لعل الإجابة على تلك التساؤلات تضمرها الأيام القليلة القادمة، التي ستشهد مواجهة دبلوماسية بين الثالوث – الأمريكي التركي الروسي – هذا الثالوث الذي لن يتردد أي طرف من أطرافه عن التمسك بمصالحه وأولوياته، باستثناء صاحب الأرض (السوري) الغائب الأبرز في هذه المواجهة.