مفارقات سورية ثورية قاتلة

2018.10.08 | 00:10 دمشق

+A
حجم الخط
-A

واكبت الثورة في سوريا مناخات متعددة، تقلبت فصولها بين ربيع مزدهر، وصيف حارق، وخريف قاتل، وشتاء قاسٍ ومؤلم، ولعل أي متابع لتطورات الأحداث، قد يصاب بالصدمة إذا ما قارن سنوات الانتفاضة الشعبية الأولى، بتلك التي عايشها السوريون خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، ففي العهد الأول كان الجميع يداري الجميع ويتسابقون لدعم الثورة ورفعها بكل ما يملكون، أما اليوم فغاب تأثير الشارع رغم عدم غيابه عن شاشة الأحداث، وباتت الثورة تقاد بالتحزبات والفرقاء، فيتعارك أصحاب الشأن لتثبيت مناصبهم، ولا انعكاساً لأعمالهم على واقع السوريين إلا انهيارات وانكسارات، حتى باتت هذه المفارقات بين شارة البداية وعنوان الحاضر، مفارقات قاتلة وزيادة في الآلام.

نعم.. نحن بحاجة ماسة لمراجعة الحسابات بين الماضي والحاضر، ففي ذلك الماضي الجميل، كانت منازل أي بلدة أو مدينة ملجئاً آمناً لكل مدني تلاحقه العناصر الأمنية التي تحاول تكميم الأفواه بالقوة والإرهاب، وفي ذلك العصر الذهبي، كانت المدن قلاعا حصينة تحمي أحلام الحرية، رغم عدم وجود بندقية واحدة، وعندما لبست الثورة السورية الزي العسكري بشكل قسري بعد الأشهر الدموية من القمع التي قادها جيش النظام، كانت النسوة السوريات يتهافتن على بيع ما يملكن من ذهب ومن أثاث منازلهن، حتى ينجحوا في تأمين بندقية واحدة، وعدة رصاصات، لمواجهة الدبابات والمجنزرات، ومنعها من ارتكاب المجازر بحق المتظاهرين.

كان الجميع، كخلايا من النحل تنشط بدون توقف، لتقديم العون، ورص الصفوف، يعالجون الجرحى المدنيين بما يملكون من أدوات بسيطة وخبرات، يغيثيون الملهوف، ويتقاسمون الزاد وما يملكون، لا أبيض بينهم ولا أسود، فالكل ثائر والجميع لثورتهم مخلصون، حتى باتت بعض المدن السورية تمتلك جيشياً وطنياً محلياً، تعداد عناصره في حالات كثيرة لا يتجاوز العشرين، يحمي الحدود، وكتائب استطلاع من المتطوعين لمراقبة مداخل المدينة ومخارجها، حتى يحذروا الأهالي من أي حملات دهم أو اقتحام، رغم أن تلك البدايات كانت باهظة الثمن وقد قتل الأسد عشرات آلاف السوريين داخل منازلهم رميا بالرصاص، إلا أن المدن بقيت على قلب رجل واحد، فإن تعرضت مدينة في شمال سوريا لاقتحام ترى كل المدن والبلدات الثائرة تهب لنجدتها بالصوت وبالمظاهرات، حتى بات يوم الجمعة يحضر كل يوم، وفي أي توقيت.

بدأت الثورة السورية تعيش مرحلتين، الأولى تثبيط الهمم والهرولة في المكان، والأخرى انهيارات جزئية

بنادق قليلة، وإرادة كالحديد تمضي نحو الحرية، حتى أصبحت تلك البنادق القليلة المدعومة بجيوش من الحناجر المؤمنة بقضيتها قادرة على منع المجازر بالاقتحامات، فأصبحت الأرض محرمة على الجيش القاتل، وبدأت عملية التحرير ببطئ شديد، ولكن القلوب المجتمعة على ذات الهدف والحلم حققت الكثير، فرفرفت أعلام الحرية في مئات المدن والبلدات، وتقهقر جيش النظام وتوالت عمليات الانشقاقات، وازدهر الربيع دون أن يحصد السوريون ما كانوا ينتظرون.

رغم أن الدعم مختلف الاتجاهات كان قليلاً، إلا أن الإنجازات كانت عظيمة، ولكن عندما تضاعف الدعم غير المنسق، بدأت الثورة السورية تعيش مرحلتين، الأولى تثبيط الهمم والهرولة في المكان، والأخرى انهيارات جزئية بذات التناسب الزمني الذي صعدت من خلاله للقمة، وبدأت تعلو الرايات الخاصة للتشكيلات، وتتكاثر الفصائل العشوائية، وبدأت عمليات الفرز القاسية، ما بين إسلامي وعلماني ومتشدد، وبما أن لكل فعل، ردة فعل تساويه في القوة وتعاكسه في الاتجاه، فما كان من عملية الفرز هذه إلا تراجعاً للمشروع الوطني الشامل، وانهيارا في الصفوف التي حافظت على متانتها لسنوات طويلة، ولم يبق شيء يجمع الجميع سوى العذاب وإحصائيات الموت، حتى أصبحت الثورة المدنية في طالعها والمتعسكرة بالإكراه تاليها، هي الحلقة الأضعف، والفاعل الأقل تأثيراً، خلاف ما كانت عليه في بادئ الانتفاضة الشعبية.

الخلل الحقيقي الأكثر ضرراً، كان خلال عملية انتقال الثورة من مرحلة السلمية الأولى، إلى عهد العسكرة، ففي هذه المرحلة وضحت المعالم، فالعفوية الأولى لا يمكنها مواصلة الكفاح، ولا بد من هيكيلية جديدة تعيد رص الصفوف عسكرياً وسياسياً، ولكن هذا الفعل لم يحدث، وهنا بكل تأكيد المسؤولية تقع على عاتق ثلاث جهات، الأولى هي الجهة السياسية التي تأخرت كثيراً في ولادتها، وعندما ولدت كانت مشوهة، والثانية، هي العسكرة العشوائية، حتى أصبح أمام مشهد عسكري متخبط، قيادات مدنية لا خبرة لها ولا تجارب تتولى تشكيلات عسكرية، والمنشقون بسوادهم الأعظم باتوا خارج إطار التأثير، والثالث يدور في فلك الشارع المدني ذاته، الذي قبل بتحزيب أبنائه ما بين إسلامي وعلماني وغيرهم، كما أن نقص الخبرات في الإدارة والتنظيم الهيكلي وضعف العمل الجماعي، كانوا أنفاقاً لعبور المشاريع الشخصية، والتي أدت إلى ولادة مئات الفصائل المتشتتة حتى داخل المدينة الواحدة.

رغم كثرة الفصائل وتنوع الأسلحة والعتاد، لم تكن الإنجازات متوافقة مع القدرات، وكذلك في الجانب السياسي

رغم كثرة الفصائل وتنوع الأسلحة والعتاد، لم تكن الإنجازات متوافقة مع القدرات، وكذلك في الجانب السياسي، رغم الدعم الدولي الكبير، بقي الجسم السياسي هزيلاً غير قادر على التأثير لا في داخل البلاد وخارجها، حتى سيطر الوضع الأخطر على الحدث العام في البلاد، متمثلاً بتعرض كل مدينة أو بلدة على حدة للضرب والمجازر، والمناطق الأخرى صامتة غير متأثرة، لتأتي بعدها مرحلة الهدن والمصالحات غير المنضبطة والتي لم تجرِ على إيقاع واحد.

وهنا لا يمكن أن ننفي بأن كافة الأطراف الدولية كانت تمتلك رغبة وإرادة قوية بعدم إسقاط الأسد، ولكن بكل تأكيد هذا حدث مختلف عن سياق الواقع السوري، فالسوريون وأنا منهم، لم ينجحوا ببناء مشروعهم الوطني الذي كانوا ينشدونه طيلة السنوات السابقة، ولعل افتقارهم لفن القيادة السياسية والعسكرية جراء الاضطهاد الكبير الذي مارسه نظام الأسدين عليهم، كان العامل التأثيري الأكبر في فشل بناء نظام وطني مضاد للنظام اللاوطني.

في الجانب السياسي، ومعركته اليوم، يمكننا ملاحظة ذلك جيداً، فمن يقود الجبهة الدولية اليوم، هيئات لم تصغِ لحناجر السوريين، كما فعل من قبلهم قادة العسكر، الذين لم يلبوا المطالب بالتوحد، فاندثروا ولكن بقيت الثورة، وفي الوقت الراهن يعيد متزعمو السياسة الثورة ذات الخطأ، مما يعني بأنهم يسيرون على ذات مصير من سبقهم من العسكريين، وستبقى الثورة مستمرة حتى تنجب من رحمها من يهيئ لمستقبل جديد لسوريا، يشعر فيه القادة بآلام المواطن، وينحنون أمام السوريين الذين ضحوا بأغلى ما يملكون مقابل إشراقة عادلة لأبنائهم، ويعيدون سوريا إلى مركزها الرزين بين الدول، وبكل تأكيد لن يكن من يفكر بإهانة السوريين من بين تلك الفئة التي ستجلب السلام لعموم الشعب السوري.

ما عايشته الثورة من مراحل مزدهرة وأخيرة مريرة، كانت رغم قساوة نتائجها وتكلفتها الباهظة، طريقاً لا بد من المرور فيه، فانتزاع الحرية من أنياب المفترسين لا يمكن أن يحدث دون أن تحدث تلك المفارقات السورية الثورية القاتلة.