مغتربونا و"حيرة" العيش بلا خوف

2018.08.12 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

من حسنات شهر آب كثرة المغتربين الذين يصلون بيروت. ونحن المقيمين، نمضي جلّ أوقاتنا في ملاقاتهم. هذا ما يضطرني للخروج من عزلتي الإرادية. عزلة احتجاجية ضد هذا "التلوث" الذي يعيشه لبنان.

 المحامي السوري المرموق، الذي أمضى حياته المهنية في نشاط حقوقي، دفاعاً عن المعتقلين السياسيين، واضطر للهرب من دمشق إلى بيروت، بات هو وأسرته مقيمين منذ سنتين في ألمانيا. يزور بيروت كمشارك بمؤتمر دولي. أثناء اللقاء به يروي تفاصيل حياته الألمانية، والعلاقة مع مؤسسات الدولة هناك ومسائل الرعاية وجملة "الضمانات" التي يتحصل عليها الفرد حتى قبل أن يصبح مواطناً كاملاً. يشرح نظام الحقوق والمسؤوليات التي تنظم علاقة الفرد بالدولة والمجتمع. باختصار، لا مشكلة لديه مع الكهرباء والفساد والتشبيح وأجهزة الأمن والاستشفاء والمنزل اللائق وأقساط تعليم الأبناء.. وعلى ما يبدو، "مشكلة" المحامي أنه بات يعيش بلا خوف.

"في زمن الأنترنت، تحولت المكتبة إلى مجرد متجر قليل البيع وصرت مجرد تاجر قليل الربح. انتهى دوري كمرشد قراءة وكوسيط بين الكاتب والناشر والعامة..."

المثقف اللبناني، صاحب أشهر مكتبة عربية في باريس، راح يتعجب من هذا الغلاء الفاحش في بيروت، وهو يعيش في واحدة من أغلى مدن العالم. الخبر المحزن أنه سيقفل المكتبة: "في زمن الأنترنت، تحولت المكتبة إلى مجرد متجر قليل البيع وصرت مجرد تاجر قليل الربح. انتهى دوري كمرشد قراءة وكوسيط بين الكاتب والناشر والعامة. ما أصاب صناعة الكتاب العربي من قرصنة، حيث كل ما هو مطبوع متاح مجاناً على الأنترنت، عدا تزوير الطبعات الورقية، سيودي بهذه الصناعة إلى التهلكة. أوروبياً، ثمة رقابة صارمة لحماية حقوق النشر. لكن مع فوضانا العربية، انتهى دور المكتبة والكتب عندنا". أثناء سرده لحياته الباريسية المديدة كان يتحدث عن شعوره بالرضى العميق من الضرائب الكبيرة التي يدفعها هو وسائر المواطنين الفرنسيين: "هذه الضرائب تتحسس نتائجها في كل ما يحيط بحياتك، نظام الخدمات العامة وشبكة الأمان الاجتماعي والعمران والإدارات ومؤسسات التعليم والطبابة وضمان الشيخوخة وتعويضات البطالة.. ضرائب تحقق اشتراكية اجتماعية ما كان ليحلم بها عتاة الاشتراكيين". تلك الضرائب على الأرجح، تتيح له أن يعيش بلا خوف من تقاعد مبكر.

هرباً من الخواء واليأس السياسي والخوف من المجهول وانعدام فرص العمل ومشقات تأمين العيش اليومي، أقاما في إسطنبول. رنا وعلي في مبتدأ تأسيس حياتهما المشتركة: "هناك كل شيء واضح، المدينة راسخة ورحبة. القلق المضني من مجهولية المستقبل الذي كان يلازمنا في بيروت يتبدد في إسطنبول.. أن يكون لديك عمل هو أمر كافٍ كي تحيا متطلباتك الأرقى من المشاغل البدائية. تدرك على الأقل أن الحرب ليست لصيقة جلدك ورأسك. تتخلص من القرف والغضب والإحباط، ينتهي اشمئزازك من تفاهة السياسيين الذين يسببون لك الشعور بالعار لأنك مواطن تحت سلطتهم. اخترنا إسطنبول كي لا نبتعد ونغترب، وأننا على تماس مع همومنا وطموحاتنا السياسية، لكن بفضاء غير عربي، كي نعيش بلا خوف".

الإعلامي وزوجته المقيمان في دبي، غمرا جلسة الأصحاب بوصف روعة مدينتهما، الرقي والهناءة وسعادة طفلتهما ورخاء العيش.. لكنهما ارتبكا حين راح الحديث نحو السياسة: "لا نريد أن يستدعينا الأمن في دبي للتحقيق، لا نتحدث بهذه الأمور". شيئاً فشيئاً بدأ يتسرب إلى سطح الكلام حقيقة أن الإقامة هناك هي على الدوام "مؤقتة"، بأي لحظة أنت شخص مطرود من نعيم الخليج. لذا، التخطيط العقلاني هو التحضير الدائم للهجرة نحو الغرب وشمال أميركا أو حتى أستراليا. الأمان والاطمئنان ليس متوفراً إلا في الجغرافيا البعيدة: "لبنان، يستحق زيارة صيفية لا أكثر.. هذا بلد الإدمان على الخوف".

الباحث السياسي الشاب، يجالسني مبتهجاً: "تركت كل شيء هنا، الإقامة الدائمة ستكون في برلين. لقد انتهى الأمر، بلادنا ميؤوس منها. نحن أفراد تسحقنا الطوائف، ما عدت قادراً على تحمل فضاء العنف والفوضى. كل نضالات جيلكم وجيلنا ذهبت هباء، لا أريد لابني حياة مهدورة كحياتنا. لا أريد أن يتحكم بمستقبله حزب الله ولا بوتين ولا الأسد ولا الحوثيون ولا السيسي ولا ولي العهد السعودي ولا الحرس الثوري ولا جبران باسيل.. هذا خليط من العبث والخوف والجنون يفوق طاقتنا".

الشاعر السوري الذي اختار بيروت مقراً له منذ 27 عاماً، وهاجر إلى شمال ألمانيا قبل سنتين تقريباً، يعود إلى المدينة التي أحبها، كسائح مليء بالحنين: "بيروت التي في الرأس تتلاشى من الوجود، كانت دوماً صعبة ولئيمة لكنها أيضاً كانت باستمرار متخمة بالوعود. أظن أن ما أصابها في السنوات الأخيرة هو انعدام تلك الوعود. تبخرت جاذبيتها لهذا السبب. وفي المقابل باتت أكثر صعوبة ولؤماً.. وضيقاً. السوري هنا يعيش مغموراً بالخوف. ذهبت وأسرتي إلى ألمانيا بحثاً عن بقية عمر بلا مهانة".

قبل أن ينتهي شهر آب، سألاقي المزيد من الأصدقاء في زياراتهم "السياحية" إلى بيروت، وستتراكم تلك الحكايات عن العالمين، عالم الـ"هنا" وعالم الـ"هناك". حكايات لا تخص أفراداً، فمثلها يخص ملايين اللاجئين والمهاجرين والفارين من جحيم الـ"هنا".

الباحثة والكاتبة المصرية، تكتب لي بـ"الإنبوكس": "يا يوسف، أبحث عن منحة إقامة كاتب في أي بلد. أريد أن أخرج من مصر. القمع ليس بوليساً فقط، الجو خانق ومرعب. أريد أن أضحك وأرقص وأكتب وأسهر وأخرج وألتهم الحياة بأسناني. أريد أن أسترد كرامتي وحقي بالسعادة".

قبل أن ينتهي شهر آب، سألاقي المزيد من الأصدقاء في زياراتهم "السياحية" إلى بيروت، وستتراكم تلك الحكايات عن العالمين، عالم الـ"هنا" وعالم الـ"هناك". حكايات لا تخص أفراداً، فمثلها يخص ملايين اللاجئين والمهاجرين والفارين من جحيم الـ"هنا"، حيث الهزيمة الشاملة التي لحقت بشعوبنا. فنحن لم ننتبه بعد كيف في سنوات قليلة سقط الملايين من القتلى على امتداد الجغرافيا العربية، بل عشرات الملايين من الضحايا الأحياء. لم ننتبه بعد أن ما لحق بنا لا يجاريه في التاريخ سوى حوادث مهولة كاجتياح المغول أو إبادات القارة الأميركية أو طاعون القرون الوسطى الأوروبية. لم ننتبه بعد أننا مجتمعات هالكة.

من سيكتب كل ما جرى؟ لقد دوّن الكاتب السوري عساف العساف المهاجر إلى ألمانيا: "سيأتي يوم ونروي فيه الحكاية، بعجرها وبجرها، بأخطائها وصوابها، بالأمل والحلم والانكسار الذي فيها .هي حكايتنا ولن يرويها أحد غيرنا أو بدلاً منا".

بانتظار ذاك اليوم الموعود الذي تكتمل فيه الرواية، أعود إلى عزلتي الإرادية، كاغتراب ذاتي بلا سفر ولا هجرة، ضد ضراوة الغربة وضد بشاعة البلاد.

كلمات مفتاحية