مصير الوجود الإيراني في سوريا في اجتماع ثلاثي

2019.06.24 | 19:06 دمشق

+A
حجم الخط
-A

أولًا – مقدمة:

أعلنت الولايات المتحدة أن اجتماعًا ثلاثيًا يضم الولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل سيُعقد هذا الأسبوع لمناقشة الوضع في سورية، وخاصة مصير التواجد والنفوذ الإيراني فيها وفي الشرق الأوسط عمومًا، كما سيناقش التحديات في المنطقة والتنسيق لعدم التصادم العسكري بين الأطراف الثلاثة، وسيكون هذا الاجتماع على مستوى مستشاري الأمن القومي للدول الثلاث، جون بولتون ونيكولاي باتروشيف ومئير بن شبات.

لم يكن واضحًا في البداية الهدف الأساس من الاجتماع الذي يجمع أكثر ثلاثة أطراف نفوذًا في الشرق الأوسط، خاصة وأن الولايات المتحدة وروسيا نادرًا ما تُصرّحان عن أهدافهما الحقيقية من وراء أي اجتماع مغلق، وراحت التوقعات وبعض التسريبات من مسؤولين أميركيين تقول إن بلدهم تريد من وراء هذا الاجتماع التخلص من الوجود الإيراني في المنطقة، أو على الأقل تحجيمه وضبطه بالتعاون مع الروس، وبالتنسيق مع إسرائيل.

سرعان ما انكشف عن محادثات بين واشنطن وموسكو حول خطة أميركية قُدمت إلى روسيا من ثماني نقاط تتناول مبادئ التسوية السورية وتحجيم نفوذ إيران وليس إنهائه، وكشفت وسائل إعلام عن وجود خلاف بينهما حول تسلسل تنفيذ هذه الخطة قبيل بدء الاجتماعات في القدس.

يأتي هذا الاجتماع بعد أن استطاعت إيران، بموافقة تامة من النظام السوري، من التغلغل في عمق القرار العسكري والسياسي السوري، بعد أن استولت على الساحة اللبنانية والعراقية، ووسط صمت أو تجاهل أميركي، مُتعمّد أو غير مُتعمّد، ما يدفع للاعتقاد بأن اجتماع القدس المقبل لن يقوم بتغيير جذري في معادلة التواجد الإيراني في سورية وفي المنطقة، ويجب التعامل بحذر وعدم التعويل عليه كثيرًا كنقطة فصل في وجه التمدد الإيراني الإقليمي.

 

ثانيًا – ظروف تمهيدية:

يعتبر هذا الاجتماع الأول من نوعه بين ممثلي الدول الثلاث المنشغلة بملف الصراع السوري، أميركا وروسيا وإسرائيل، وهو نتيجة لتفاهم بين الرئيسين الأميركي دونالد ترمب، والروسي فلاديمير بوتين، في أول قمة ثنائية رسمية لهما في هلسنكي في 16 تموز/ يوليو الماضي، حيث ناقشا خلالها أزمة اللاجئين السوريين، والموقف في أوكرانيا، والتمدد النووي والملف الإيراني.

كذلك يأتي اجتماع القدس هذا بين الولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل في وقت تُصعّد فيه الولايات المتحدة من ضغوطها على إيران، وبعد إسقاط إيران طائرة استطلاع أميركية مسيّرة عن بعد في 19 حزيران/ يونيو الجاري وإعلانها أنها لن تسمح للأميركيين بالاعتداء على حدودها بغض النظر عن القرارات التي قد تتخذها واشنطن حيال هذا الأمر، وتأكيد المتحدث باسم الخارجية الإيرانية عباس موسوي “نحن جاهزون لمواجهة أي تهديد ضد بلادنا، ولن نسمح للأميركيين بالاعتداء على حدودنا بغض النظر عن قراراتهم”، وتراجع الرئيس الأميركي عن الرد على العملية الإيرانية وإعلانه أن واشنطن كانت على وشك توجيه ضربات لإيران، ردًا على إسقاط الطائرة، لكنه قرر إيقاف الضربات قبل موعدها بـ 10 دقائق بعدما علم أنها قد تتسبب في موت 150 شخصًا” حسب تغريداته على (تويتر) بعد يومين من إسقاط الطائرة، بعد أن كان قد قال في البداية إن إيران “ارتكبت خطأ جسيمًا” ووافق على ضرب بعض الأهداف العسكرية.

ويُعقد هذا الاجتماع في وقت تخشى فيه إسرائيل من أن تسعى إيران لتصعيد صراعها مع الولايات المتحدة، وأن تختار المناطق الحدودية مع إسرائيل لزيادة الصراع، واعتقادها أنه من الممكن أن تسعى إيران إلى جرّ إسرائيل إلى قلب التطورات، عبر هجمات تشنها ميليشيات تتبع لها جنوب لبنان وجنوب سورية، وبالتزامن مع خشية إسرائيلية متواصلة من تزايد النفوذ الإيراني في سورية بشكل مباشر وغير مباشر، عبر قواعد عسكرية في سورية وعبر ميليشيات (حزب الله) اللبناني التابع لإيران، وهذا الأمر يصب في نفس سياق رغبات الولايات المتحدة بإعطاء أولوية لضمان أمن إسرائيل ودعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في حملاته الانتخابية.

ويأتي أيضًا بعد أن أعلنت الولايات المتحدة عن تخلصها تقريبًا من تنظيم الدولة الإسلامية في سورية، وبعد أن صعّدت من حدّة موقفها من إيران والتواجد الإيراني في الشرق الأوسط، ومع إدراكها بأن المستنقع السوري لم يجف بعد ويمكن أن يبتلع أطرافًا أخرى فيما لو أحسنت الولايات المتحدة استثمار الوضع بطريقتها.

وفي هذا السياق، يمكن ملاحظة أن موسكو تغض الطرف على الغارات الإسرائيلية التي تستهدف مواقع إيرانية عسكرية في سورية. ولم تشمح بتشغيل منظومة صواريخ (إس – 300) في سورية خلال القصف الإسرائيلي المتكرر، وطلبت من إيران سحب ميليشيات غير سورية بعيدًا عن حدود الأردن، وخط فك الاشتباك في الجولان.

وأخيرًا، يأتي وسط ارتباك روسي وانسداد أفق، سياسي وعسكري، في سورية، حيث تستمر الولايات المتحدة بعدم الاعتراف بكل مخرجات الحلول السياسية التي سعت إليها روسيا عبر اجتماعات أستانة ومؤتمر سوتشي، وإصرارها على أن المسار السياسي لحل القضية السورية يجب أن يتم عبر مسارات مؤتمرات جنيف وقرارات الأمم المتحدة المرتبطة، وكذلك ارتباك روسيا عسكريًا في سورية وعدم رغبتها في تصادم أو تضارب مع تركيا أو مع الميليشيات الكردية التي تدعمها الولايات المتحدة شمال سورية، وانتشار قلق حول احتمال انفجار الجبهة الجنوبية لسورية من جديد، وعدم قدرة روسية واضحة على تحجيم الدور الإيراني في سورية، وخاصة الاقتصادي والاجتماعي منه.

 

ثالثًا – حركة كثيرة وصيد مجهول:

بالتوازي مع تهديداتها ومحاولاتها الضغط بكافة الوسائل السياسية والاقتصادية على إيران، تسعى واشنطن لإيجاد مخارج غير مُذلّة لإيران مقابل أن توافق على الجزء الأهم مما تريده واشنطن منها في الشرق الأوسط، وتحاول تقديم حوافز إلى موسكو في سورية كي توافق الأخيرة على تحجيم النفوذ الإيراني وضبط إيقاعها.

تقود واشنطن قبيل اجتماع القدس سلسلة اجتماعات دبلوماسية وأمنية تتعلق بالملف السوري خصوصًا، تتأرجح بين بحث مستقبل منطقة شرق الفرات شمال شرق سورية والوجود الإيراني ومستقبل العملية السياسية وتنفيذ القرار 2254.

تستضيف باريس هذا الأسبوع اجتماعًا لممثلي المجموعة الصغيرة التي تضم أميركا وفرنسا وبريطانيا والسعودية والأردن ومصر، لبحث الجمود في العملية السياسية وعدم تمكن غير بيدرسن من تجاوز عقدة تعثّر اللجنة الدستورية، وباقي الملفات كملف المخطوفين والأسرى.

وأيضًا يُعقد اجتماع لكبار الموظفين في التحالف الدولي ضد (داعش) بقيادة الولايات المتحدة، يتناول مستقبل المناطق المحررة من (داعش) شرق سورية وغرب العراق، ودعم (قوات سورية الديمقراطية)، ومحاولة ردم الفجوة بين العرب والأكراد شرق الفرات، والوجود العسكري الأميركي في هذه المنطقة، وجهود استمالة العشائر العربية.

كذلك سيُشارك جيفري في اجتماع لحلف شمال الأطلسي (ناتو) في بروكسل، ويُشارك في اجتماع لمبعوثي الدول الغربية في الملف السوري.

كذلك جال المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرينييف في بغداد وبيروت ودمشق لدعوة الحكومتين العراقية واللبنانية إلى اجتماع آستانة المقبل في الشهر المقبل.

والتقى كذلك علي شمخاني، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، بنظيره الروسي لتنسيق المواقف بين طهران وموسكو، واستبق اجتماع القدس بوصفه بأنه “خدعة”، لافتًا إلى أنه لا أحد يستطيع إخراج إيران من سورية لأن “وجودها شرعي بطلب من الحكومة السورية”.

كما يسبق هذا الاجتماع لقاءات مختلفة لاجتماعات قمة ستعقد على هامش قمة العشرين في أوساكا اليابانية يومي 28 و29 من الشهر الجاري، قد تشمل لقاءات ثنائية بين الرئيسين ترمب وبوتين، وبين ترمب والرئيس التركي رجب طيب إردوغان، وبين بوتين وإردوغان أيضًا، وسيكون الملف السوري حاضرًا بقوة في كل هذه الاجتماعات.

أخيرًا، ووبالتزامن مع الاجتماع، تواصل واشنطن فرض عقوبات على مواليين للنظام السوري ورجال أعمال منخرطين في عمليات الإعمار باعتبار أن أميركا ودول أوروبية متفقة على عدم البدء بالمساهمة بالأعمار أو التطبيع أو رفع العقوبات قبل بدء عملية سياسية ذات مصداقية للقضية السورية.

 

رابعًا – خطة أميركية:

بحسب معلومات نشرتها صحيفة “الشرق الأوسط” في 20 حزيران/ يونيو الجاري، قدم مايك بومبيو، وزير الخارجية الأميركي، خلال زيارته إلى سوتشي في منتصف أيار/ مايو المنصرم التي التقى خلالها الرئيس فلاديمير بوتين ونظيره سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي بحضور جيمس جيفري، مسؤول الملف السوري في الإدارة الأميركية، خطة من ثماني نقاط تتناول تنفيذ القرار الدولي 2254 بهدف التوصل إلى حل سياسي، وشملت الخطة بنودًا تهدف إلى التعاون في ملف محاربة الإرهاب و”داعش” وإضعاف النفوذ الإيراني، والتخلص من أسلحة الدمار الشامل في سورية، وتوفير المساعدات الإنسانية، ودعم الدول المجاورة، وتوفير شروط عودة اللاجئين السوريين، إضافة إلى إقرار مبدأ المحاسبة عن الجرائم المرتكبة في سورية.

وفي هذا السياق، تناقلت وسائل إعلام عربية وأوربية معلومات أن دول أوربية سعت لدى واشنطن بهدف المحافظة على تنفيذ المبادئ الثمانية وعدم الاقتصار على احتواء إيران فقط، لأن من شأن ذلك أن يدفع موسكو للموافقة على هذه الخطة الثمانية.

ويبدو أن هناك توافق الحد الأدنى بين روسيا والولايات المتحدة، أو بالأدق التوافق على الفكرة، وربما اختلاف على التفاصيل كلها بسبب تعقيدات الوضع واختلاط المصالح، ويُعبّر عن هذا الحد الأدنى قول جيمس جيفري، المبعوث الأميركي إلى سورية، في تصريحات سابقة إن أميركا تريد خروج القوات الإيرانية من سورية في نهاية العملية السياسة، ووصف هذا الطلب بـ “الواقعي”، بحيث يعود وجود القوات الأجنبية في سورية كما كان قبل عام 2011، وهو ما توافق عليه روسيا وتعتبر نفسها مستثناة باعتبارها متواجدة في سورية بناء على طلب النظام السوري الذي مازالت الأمم المتحدة تعترف به كنظام شرعي.

لكن، من المؤكد أنه إن حصل تفاهم أو اختلاف في اجتماع القدس، سينعكس هذا مباشرة على نتائج اجتماع الرئيسين الأميركي والروسي على هامش قمة العشرين، وسيوضح الاجتماع المقبل أكثر توجهات العلاقات بين كلا البلدين، ومستوى تفاهماتهما على القضايا الدولية العالقة فيما بينهما.

منذ تدخّل روسيا عسكريًا في سورية، حرص الأميركيون والروس والإسرائيليون على توقيع اتفاق لـ (منع الصدام)، وجددته موسكو وواشنطن بالنسبة لشرق سورية أيضًا وليس جنوبها فقط، حيث توجد قوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن التي ترمي إلى إضعاف النفوذ الإيراني وقطع طريق طهران – دمشق.

كمات حثت واشنطن حلفاءها من أعضاء التحالف الدولي على اتخاذ خطوات لضمان استقرار منطقة شرق الفرات، سواء بإرسال قوات برية أو الإبقاء على مساهمتها الجوية، أو إرسال أموال لتمويل مشاريع، لتضمن من بين ما تضمن عدم تواجد قوات إيرانية أو قوات رديفة لإيران في هذه المنطقة.

قررت أميركا البقاء شرق نهر الفرات وفي عدة قواعد عسكرية أبرزها قاعدة التنف في زاوية الحدود العراقية السورية الأردنية، وتشكل المناطق التي تهيمن عليها الولايات المتحدة نحو ثلث مساحة الأراضي السورية، وتخصص أموالًا لبسط سيطرتها هناك، وقد يُقلقها أي تواجد إيراني قريب من هذه المنطقة، وتسعى لمنع إمكانية حصول اختراق إيراني نحو شرق الفرات.

وكثف التحالف الدولي ضد (داعش) جهوده لتدريب (قوات سورية الديمقراطية) لضبط الاستقرار، وضمنت واشنطن مساهمة بريطانيا وفرنسا وألمانيا ودول أوروبية أخرى في التحالف سواء في القوات البرية أو في الطلعات الجوية، خصوصًا بعد تمديد مذكرة منع الصدام بين واشنطن وموسكو في الأجواء السورية.

وتجري الولايات المتحدة محادثات مع تركيا لإقامة منطقة أمنية بين جرابلس على نهر الفرات وفش خابور على نهر دجلة لتخفيف احتمالات الصدام التركية – الكردية شمال شرقي سورية.

وربما ترمي كل هذه الإجراءات إلى قطع الطريق البرية بين طهران وبغداد من جهة ودمشق وبيروت من جهة ثانية، ومنع إيران من توسيع نفوذها العسكري في شرق سورية.

خلال السنوات الثلاث الماضية أضعفت الولايات المتحدة روسيا وحلفائها كثيرًا، ومنعت روسيا من تمرير أي حل سوري، فأسقطت اجتماعات أستانا ومؤتمر سوتشي، وهي تريد الآن الانتقال إلى خطوة تالية، بقص جناح آخر من أجنحة روسيا عبر إخراج إيران من سورية، مما سيضعف إيران وروسيا في نفس الوقت.

في المقابل، لم يعد في إمكان الولايات المتحدة أن تنفي ضرورة التنسيق مع روسيا، وحاجتها إليها لمواجهة إيران ونفوذها في سورية، فالعقوبات الأميركية والغربية ضد إيران لم تعد تكفي وحدها، ولابد من التعاون مع روسيا بإرغام النظامين السوري والإيراني على تقديم تنازلات واضحة وجذرية، وهذا ما تعتبره روسيا ورقة رابحة في يدها، ولهذا سرّبت بعض الأوساط الدبلوماسية الأميركية بأن الولايات المتحدة قد تعرض على روسيا حلًا وسطًا، عبر القبول ببقاء الرئيس السوري حتى نهاية ولايته الرئاسية، مقابل إخراج إيران من سورية والموافقة على انتقال سياسي وفق قرارات جنيف.

لكن يخشى السوريون المعارضون أن يوافق الأميركيون على تقديم تنازلات لروسيا أكثر من المتوقع لتقبل بانسحاب الإيرانيين واقتلاعهم من قطاعات الدولة والمجتمع في سورية، قد تصل إلى “إنهاء عزلة سورية الدولية” وفق وصفة جيمس جيفري.

لا تُخفي الولايات المتحدة وأوربا رغبتهما بالإعلان عن نهاية مسار أستانا الروسي، والعودة لمسار جنيف، حيث يكون التأثير الغالب في حلّ الأزمة السورية لهذه الدول وليس لروسيا، وحيث يضمن هذا المسار تحقيق الانتقال السياسي في سورية وفق قوانين دولية ومراقبة وإشراف وأممي، بعيدًا عن محاولات الاستفراد الروسي في المنطقة، وربما تريد واشنطن أن يكون اجتماع القدس الخطوة الأولى تجاه هذا المسار، لكن ما قد يلغي الفكرة هو تطلّع بوتين إلى صفقات دولية أكبر مقابل الورقة الرابحة التي بين يديه في سورية.

 

خامسًا – مخططات روسية:

قبيل اجتماع القدس، قال أمين مجلس الأمن الروسي نيقولاي باتروشيف، إن اللقاء الثلاثي سيتناول الملف السوري، مؤكدًا أن بلاده “ستنقل نتائج هذا الاجتماع إلى إيران بوصفها الشريكة الاستراتيجية لروسيا في المنطقة”، وأكد على “ضرورة وقف التدخل اللا قانوني الأميركي في سورية ووقف بعض الإجراءات العسكرية الإسرائيلية”.

في السياق ذاته، وجَّه الرئيس فلاديمير بوتين خلال حوار تلفزيوني مفتوح، رسالة تطمينية لإيران في هذا الشأن، إذ أكد أن روسيا “لا تتاجر بمبادئها وحلفائها”، في استبعاد لخروج الاجتماع الثلاثي بـ “صفقة” لاحتواء الوجود الإيراني في سورية أو التخلص منه، وقال ردًا على سؤال حول احتمال عقد “صفقة كبيرة” بين روسيا والولايات المتحدة بشأن سورية “ماذا تعني صفقة؟ الحديث لا يدور عن قضية تجارية. لا، إننا لا نتاجر بحلفائنا ومصالحنا ومبادئنا”.

هذه التصريحات مناقضة تمامًا لما يريده الأميركيون، فالروس هنا يتعاملون مع إيران على أنها حليف استراتيجي وشريك حقيقي في سورية، ويرفضون أي تعاون مع الولايات المتحدة قد يضر هذا الحلف، كما يطلبون من إسرائيل أن تتوقف عن أي استهداف عسكري للإيرانيين في سورية، لكن غالبًا ما كانت تصريحات المسؤولين الروس مغايرة للنوايا، وهذا ما ستؤكده نتائج الاجتماع الذي بات وشيكًا.

لكن على المستوى العملي، هناك جهود روسية لضبط النفوذ الإيراني عسكريًا في سورية، ولو بشكل بطيء وتدريجي، يشمل ذلك دعم قاعدة حميميم تشكيل (الفيلق الخامس)، التابع مباشرة للجيش الروسي، والمكون من عناصر سورية موالية للنظام ومن عناصر فصائل معارضة وقعت اتفاقيات مصالحة سابقًا، سواء في غوطة دمشق أو جنوب سورية، وانتشر هؤلاء في الجنوب بعد انسحاب الميلشيات الإيرانية بداية العام الماضي بموجب تفاهم روسي – أميركي – إسرائيلي، وفي سياق آخر، تدعم موسكو (قوات النمر) بقيادة العميد سهيل الحسن الذي يقيم علاقة خاصة مع الروس.

ومن بوابة تحجيم النفوذ العسكري، ومنع التمدد الإيراني، طلبت موسكو من مئات من مقاتلي المعارضة في (الفيلق الخامس) التوجه إلى شمال غربي سورية للمساهمة في معارك إدلب، في وقت لوحظ فيه عدم مشاركة إيران وميليشياتها في معركة إدلب نتيجة هذه الخطة الروسية.

ومن بوابة تحجيم النفوذ الاقتصادي، ومنع إيران من تحقيق مكاسب راسخة وطويلة الأمد في سورية، تقوم روسيا بمنافسة إيران اقتصاديًا للاستحواذ على مشاريع كبرى، وحصلت على عقد لتشغيل مرفأ طرطوس، ردًا على إعلان طهران إدارتها لمرفأ اللاذقية، وتبحث روسيا استثمار مطار دمشق الدولي قرب المقر السابق لقيادة القوات الإيرانية في سورية، فضلًا عن توقيع موسكو لاتفاقيات اقتصادية هامة مع الجانب السوري لقطع الطريق على توقيعها مع إيران.

تبقى مشاركة إيران مع روسيا وتركيا في رعاية عملية آستانا أمر مؤقت، فإن انتهى مسار أستانا الروسي، سينتهي تلقائيًا حلف الضامنين الثلاثة، وينتهي اتفاق (خفض التصعيد) الموقع بين أنقرة وموسكو وإيران.

تلعب روسيا عدة أدوار في سورية، وتنتقل من حليف لإيران إلى منافس لها، ومن حليف للأتراك إلى عائق أمامهم، ومن صديق للولايات المتحدة إلى ندّ لها، ومن ضامن مُطلق للنظام السوري إلى صديق غير مكترث كثيرًا بمصيره، ومن هذا المنطلق يبدو أنها تحاول الاستفادة من الضغوط الإقليمية والدولية على إيران، لتحقيق مكاسب على المستويين الدولي والإقليمي، وربما تسعى للعب دور الوسيط بين واشنطن وطهران لمنع مواجهة إقليمية، فروسيا ما زالت بحاجة لطهران في المستنقع السوري، ولا تريد أن تضعف في سورية لصالح الأتراك، ولا في العراق لصالح الأميركيين، ولا في لبنان لصالح الإسرائيليين، ومن المتوقع أن تحاول روسيا في اجتماع القدس معالجة وامتصاص المخاوف الإسرائيلية والأميركية المتعلقة بالتواجد الإيراني في سورية.

لكن، في المقابل، لم يعد في إمكان روسيا إنكار محدودية قدراتها في سورية، خاصة مع امتناع الدول كافة عن التعاون معها طالما أنها اتخذت من إيران حليفا لها. وخلال الأشهر الأخيرة، احتكت القوات الروسية والإيرانية وقوات النظام السوري عدة مرات، وراقبت روسيا كيف يحشد الإيرانيون مقاتليهم بالقرب من الحدود السورية العراقية ومناطق في الجنوب في الجولان قرب الحدود الإسرائيلية، وهذه التحركات والمواقف أوضحت أن إيران لديها خططًا مضادة لأي ضغوط ترمي إلى اقتلاع وجودهم العسكري من سورية، وربما لن يتوانوا عن توظيف ميليشياتهم في مقاومة الروس إن اضطروا لذلك، وربما يدفع هذا روسيا للمساومة على ورقتهم إن وجدت ثمنًا مناسبًا لها خلال اجتماعات القدس.

 

سادسًا – دور إسرائيلي

طوت زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موسكو نهاية آذار/ مارس الماضي صفحة التوتر بين روسيا وإسرائيل، بعد أن توترت العلاقات بعدما أسقطت إسرائيل طائرة حربية روسية وقتلت عدد من الجنود في أيلول/ سبتمبر 2018، وكان لافتًا أن نتنياهو اقترح تشكيل فريق مشترك للعمل على انسحاب جميع القوات الأجنبية من سورية، إضافة إلى اتفاق الطرفين على استمرار التنسيق العسكري بين الطرفين، ثم تم تتويج هذا الاتفاق بالاتفاق الثلاثي على عقد اجتماع لرؤساء مكاتب الأمن القومي في القدس.

هنا يدخل في صلب الاجتماع أيضًا ما اتفق عليه الرئيس الأميركي ونظيره الروسي في قمة هلسنكي في تموز/ يوليو من العام الماضي على “إعطاء أولوية لضمان أمن إسرائيل”.

خلال السنة الأخيرة خصوصًا، شنّت إسرائيل عشرات الغارات الجوية على مواقع إيرانية في سورية، وواصلت قصفها رغم استلام دمشق منظومة (إس – 300) من موسكو، ورغم اعتراضات سورية وإيرانية سابقة، وأظهرت موسكو عدم اكتراث، ولم تتحرك لصد الهجمات الإسرائيلية أو منعها، وحتى بياناتها الإعلامية كانت رخوة وتدعو من خلالها إسرائيل لضبط النفس، أما الولايات المتحدة فقد أظهرت من جهتها دعمًا للغارات الإسرائيلية ووصفتها بأنها “إحدى أدوات الضغط العسكري على إيران”.

لكن، ورغم أن إيران تُطمّن إسرائيل بشكل غير مباشر بأنها ليست مستهدفة من وراء تواجدها في سورية، وأن لها غايات أخرى، إلا أن إسرائيل لا يمكن أن تطمئن لمقولات ووعود إيرانية، حتى لو كانت سرية ومباشرة، وربما تريد من وراء اجتماع القدس أن تحصل على وعود من طرفي الصراع الرئيسيين، روسيا وأميركا، بأن يبقى أمن إسرائيل على رأس أولوياتهما مهما كان مصير إيران في سورية.

 

سابعًا – صعوبة الفكرة والتنفيذ:

افتراضات إمكانية تحجيم الدور الإيراني في سورية نظرية وسطحية، فالنفوذ الإيراني في سورية أصعب وأعمق من أن ينتهي بسهولة، حتى لو أراد الروس ذلك، والتغلغل الإيراني في سورية بات واسعًا، سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا وحتى اجتماعيًا.

الموقف الإيراني من اجتماع القدس تجسد في تصريحات علي شمخاني، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، الذي زار موسكو مؤخرًا، والتقى نظيره الروسي نيكولاي باتروشيف، ما وصفها بـ “الخطوط الحمراء” في سورية، وقال إن “ملف الوجود الإيراني في هذا البلد ليس محور بحث”، مشددًا على أن “لا أحد يجبرنا على الانسحاب”.

وقال شمخاني إن الجانب الروسي “أبلغ طهران بترتيبات اللقاء في القدس”، وإن موسكو “أطلعتنا على أن من طرح عقد اللقاء هو الاحتلال الإسرائيلي، وأنا أرى أنه سيكون لقاءً خادعًا”، وشدد على أن “وجودنا على الأراضي السورية شرعي ومتفق بشأنه مع الحكومة السورية”، رافضًا الإشارات إلى مغادرة إيران للأراضي السورية، وقال “إن أحدًا لن يجبرنا على القيام بذلك”، وحذر من أن “أي اعتداء على الإيرانيين بالأراضي السورية من قبل الاحتلال الإسرائيلي سيلقى ردًا حاسمًا”، وفي إشارة إلى العلاقة مع موسكو قال “هناك مَن لا يعجبه تقاطع مصالحنا مع روسيا في سورية، لكن سياساتنا مع موسكو مبنية على التعاون في مكافحة الإرهاب”، ونوّه بـ “الإنجازات المحققة على صعيد التعاون السياسي والأمني والدفاعي بين إيران وروسيا فيما يخص الوضع السوري”.

حاولت إيران منذ ما قبل استلام بشار الأسد السلطة بالوراثة عن أبيه صناعة نفوذ لها في سورية، وكثّفت هذه المساعي خلال سنوات الحرب الثماني الماضية، فدعمت النظام السوري سياسيًا وعسكريًا، وزوّدته بميليشيات إيرانية وعراقية ولبنانية وأفغانية، وقدّمت له مساعدات مالية وعسكرية ولوجستية، مقابل أن يسمح لها بالتحكم -جزئيًا- بالقرار السياسي والعسكري، ويُقدّم لها تسهيلات اقتصادية غير محدودة، وكذلك أن يغض الطرف عن مساعيها التي تستهدف اختراق المجتمع السوري وتغييره ديموغرافيًا وإثنيًا.

عملت إيران خلال ثماني سنوات على توسيع نفوذها في كافة الأراضي السورية، واعتقدت روسيا أنه لا ضير في أن تعبث إيران في مناطق سيطرة المعارضة السورية، لكن ما لم تكن روسيا تحسب له حسابًا هو التغلغل والتوسع باتجاه الساحل السوري، معقل الأسد وأنصاره، وصارت تريد مصفاة نفط بانياس، وتريد إنشاء ميناء عسكري فيها، وتريد منافسة موسكو في استثمار مطار دمشق الدولي بعد أن كانت قد استخدمته كقاعدة لإدارة العمليات العسكرية لها في سورية في وقت سابق.

 

ثامنًا – خاتمة:

لاشك أن روسيا تُدرك أن إخراج إيران من سورية هو قصّ لأحد أجنحتها، وقد يكون تمهيدًا لفرض حل سياسي يُفضي إلى تغيير النظام السوري ومن ثم تليها خطوة لقوننة التواجد الروسي في سورية، وتقاسم الساحة استراتيجيًا وعسكريًا واقتصاديًا معها، لكنها في نفس الوقت لا تمتلك الأدوات الكافية التي يمكن تساعدها على رفض المطالب الأميركية – الإسرائيلية، لذلك من المتوقع أن تُناور إلى أبعد الحدود.

خلال اجتماع القدس، مساحة مناورة كل الأطراف دبلوماسيًا وسياسيًا ضيّقة، وأصبح الجميع في وضع يبحث فيه عن حلول، أو أنصاف حلول، لكنه يرفض أن تكون على حساب خسارة أيًا من مصالحه، وروسيا بالذات استثمرت كثيرًا في سورية، ولم يعد الرأي العام الروسي يدعم بقاء روسيا في سورية، والحليف التركي متردد في البقاء في الحلف الروسي ويأمل أن ينتقل إلى الحلف الأميركي التقليدي والتاريخي، وكل هذه العناصر قد تدفع روسيا للقبول لكن بتحفظات، وهي قادرة على أن تُغرق الجانبين -الأميركي والإسرائيلي- بالتفاصيل، خاصة وأن الدبلوماسية الروسية ماهرة في المناورة وإغراق الأطراف في التفاصيل، والمماطلة وتضييع الوقت.

 

للاطلاع على المادة من المصدر اضغط هنا