مساراتُ الحقيقة والتعايش في مجتمعٍ تائه!

2018.08.22 | 10:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

ستخفُّ تدريجياً حدّة الأزمة السوريّة كأكبر أزمة إنسانية عرفها العالم مع بداية الألفية الثالثة، وفي النهاية ستنتهي هذه الأزمة يوماً ما، وستترتب نتائج بعيدة المدى على شكل هذه النهاية.

إذا أخذتْ التوافقاتُ الدوليّةُ والحلولُ السياسية للأزمة السوريّة مطالب ومظالم الغالبية العظمى من السوريات والسورين بعين الاعتبار، فإنه يمكننا الحديث عن استقرار مجتمعي يتلو الاستقرار الأمني والسياسي، والحديث عن الغالبية العظمى لا يستثني أبداً أولئك المحكومين بقبضة النظام، لأن هؤلاء بأشدّ الحاجة لمن يحمل مطالبهم ويوصل صوتهم إلى المجتمع الدولي بعد أن غيّبهم النظام تماماً وأظهر للعالم صوت أمراء الحرب والمنتفعين منها وصوت المستثمرين في الفوضى والفساد كمُعبّرٍ حصريّ ووحيد عن المجتمع ككلّ وعن المدنيين المقيمين في مناطق سيطرته. يمكننا ببساطة أن نقيس ذلك من خلال دراسة أداء أجهزة الدولة المختلفة من قمّة الهرم الإداري إلى قاعدته، وكذلك من خلال الاطلاع على طريقة عمل منظمات المجتمع المدني، التي كانت شبه محظورة قبل الثورة في المجتمع السوري وما وجد منها كان تحت الإشراف المباشر لأجهزة المخابرات، ستبيّن لنا هذه الدراسة أنّ ما من شيء قد تغيّر أبداً في طريقة سير الأمور نحو الأفضل، بل العكسُ صحيحٌ وثابت، فكلّ تقدّم هو بالضرورة نحو الوراء في هذا البلد المحكوم بأعتى أشكال القهر والاستعباد.

الفئة المسيطرة على مقاليد الحكم والثروة في البلد ليس لها مصلحة أبداً إلّا في استمرار دوّامة العنف والإرهاب التي تُشكّل القيمة الإنتاجيّة الوحيدة الممكنة والمتحقّقة للنظام

أمّا لو تجاهلتْ تلك التوافقاتُ والحلولُ مطالب غالبية الناس ومظالمهم وركّزت فقط على مصالح الدول والجماعات المتحاربة في سوريا وعليها، فإننا سنشهد بلا أدنى شكّ أزمة ممتدّة مفتوحة الآفاق مجهولة النهايات، وما تجربة العراق وليبيا إلا دليل واضح ومعاصر على ذلك، فبعد ما سمي تحرير العراق ازدادت وتيرة العنف وبات عدد المهجّرين داخلياً في تزايد بسبب الطائفية التي استثمرت فيها إيران أيّما استثمار، وبسبب ظهور الميليشيات المسلّحة المدعومة منها أيضاً، والحال كذلك في ليبيا التي ليست بحاجة لانقسام طائفي بعد أن فعل جنرالاتُ الحرب في مجتمعها القبلي ما فعلته ميليشيا الطوائف في العراق واليمن.

المطالب بسيطة ومعقّدةٌ في آن معاً، بسيطة لأنها بدهيّةٌ وتكادُ تكون مسلّمة من المسلّمات غير القابلة للنقاش وتتمتّع بها كافّة شعوب العالم المتحضّر، الذي تتدخّل حكومات دوله وتفرض شكل الحلّ في سوريا، ومعقّدة لانعدام الرغبة الناجم ربّما عن انعدام المصلحة لدى أغلب الفاعلين الدوليين والإقليميين في الوصول إلى سلام دائم واستقرار نهائيّ في هذه المنطقة من العالم.

السوريّون – أغلب السوريين- هم أصحاب المصلحة الأوائل وربّما لا أحد غيرهم في الوصول إلى سلام دائم في سوريا، ونقول أغلبهم لأنّ الفئة المسيطرة على مقاليد الحكم والثروة في البلد ليس لها مصلحة أبداً إلّا في استمرار دوّامة العنف والإرهاب التي تُشكّل القيمة الإنتاجيّة الوحيدة الممكنة والمتحقّقة للنظام والذي تقودُ عبرها البلدَ منذ خمسة عقود ونيّف. يظهرُ ذلك واضحاً وجلّياً في خطابات وأحاديث رأس النظام المتكررة وكان أحد أهمّها في لقائه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سوتشي، حيثُ أصرّ على استمراره بالحرب على "الإرهاب" رغم قول مُضيفه بانتهاء المعركة العسكرية وبدء مرحلة المعركة السياسية.

 لقد بات اقتصادُ الحرب عامل استثمار لعدد كبير من أفراد السلطة المتنفّذين في الأجهزة الأمنية والعسكرية بالدرجة الأولى وفي بقيّة أجهزة الدولة التنفيذيّة والقضائيّة والتشريعيّة التي تماهت خلال هذه الأزمة تماما مع النظام وبات من شبه المستحيل الفصلُ بينها وبينه. إن استمرار دوّامة العنف والإرهاب يستدعي ويبرر ويعزز ويحمي دورة الفساد واقتصاد الحرب القائم على التشبيح والنهب والسرقة والاختلاس والرشوة والمحسوبيّات العابرة لكلّ الضوابط القانونية والأخلاقيّة، مما يجعل فئة المعطّلين لأية محاولات لحلّ الأزمة بازدياد مضطّرد.

سيطر النظام بمساعدة حلفائه على أغلب الأجزاء التي كانت بيد القوى الثوريّة وغيرها من القوى المحسوبة على المعارضة، بما فيها درعا والقنيطرة باستثناء إدلب وبعض مناطق ريف حلب وحماه، وقد يكون دورها قادماً خلال أيام أو أسابيع قليلة وفق الواضح من التفاهمات الدولية المعلنة والخفيّة، لكنّ هذا الأمر لم يترافق مع أية إشارات للتفكير بهول المأساة وحجم الدمار الهائل الذي تسبب به بفعل انتهاجه سياسة العنف المطلق والأرض المحروقة، حيث أوضحت الصور الملتقطة ما يشبه نتائج الحرب العالمية الثانية!

هذا التطرّف المطلق في فهم اختلال موازين القوى الناتج عن التدخّل المباشر لإحدى الدول العظمى التي تمتلك حق النقض والذي استخدمته فعلاً اثني عشر مرة، جعل رأس النظام وقادة الصفّ الأول سكارى من نشوة الانتصار!

يا لهول المأساة التي وقعت فيها سوريا، فمن كان يُفترضُ فيهم الذودُ عن البلد وأهلها، هم ذاتهم من قاموا بكلّ هذا التدمير الممنهج وعن طيب خاطر وشغفٍ وراحة ضمير لا يمكن وصفها مهما استعرنا من بلاغة القدماء والمعاصرين!
أيّة لعنة حلّت بهذه البلاد، وأي مصير مجهول يحيط بها؟

ألا يدرك هؤلاء السفلةُ أنّ المحتلّ زائلٌ حتماً يوماً ما وأن الشعب باقٍ وأنّ التاريخ لم يعد كما من قبل يكتبه المنتصرون؟

لو تفكّر هؤلاء قليلاً لأدركوا أنّهم قتلوا عناصر قوّتهم بأيديهم منذ اللحظة التي رفعوا فيها السلاح بوجه المتظاهرين العزّل، بانحيازهم للقاتل بدل انحيازهم للوطن وللناس الذين أقسموا على حمايتهم، وبغض النظر عن مآلات الأمور وأسباب ذلك فإن المسؤولية العظمى تقع على كاهل هؤلاء الضبّاط القتلة الذين أعمتهم العبودية وقتلهم الجهل والحقد والغباء وانعدام الشرف. فهل ستغني عنهم يوماً عصابات إيران الطائفية، أم ستدوم لهم طائرات روسيا وقنابلها وصواريخها؟ ألا يدرك هؤلاء السفلةُ أنّ المحتلّ زائلٌ حتماً يوماً ما وأن الشعب باقٍ وأنّ التاريخ لم يعد كما من قبل يكتبه المنتصرون؟

كيف يستطيع المرءُ أن يفهم إصرار ابن جبلة السوريّة الشيخ عزّ الدين القسّام على مقاومة الاحتلال الإنكليزي في جنين حتى استشهاده، وإصرار آلاف الضبّاط من أبناء جبلة ذاتها بعد خمس وسبعين عاماً من استشهاده على الاستمرار في مساندة طاغية العصر ضدّ أبناء بلدهم؟

ثمّة خلل بنيويّ أصاب هذا البلد، أو بالأحرى كان الخلَلُ جزءًا من مسار تكوينه، ولا بدّ من معرفة أسبابه.

ذاكرة الشعوب ليست مثل ذاكرة السمك، فهي تحتفظ في ضميرها آلام مئات السنين، وفي مخزونها عاداتٍ وقيماً وأساطيرَ من آلاف أخرى تراكمت عبرها تجاربُها وخبراتُها.

يذكر لنا التاريخ بأنّ الأقليّات الدينيّة والطائفية عانت بشكل كبير من الاضطهاد عبر القرون في سوريا كما في مجمل المنطقة والعالم بأسره حتّى، وقمّة العنصريّة كانت وما زالت تتمثّل في أنّ الأكثريّات لم تكن ترى في هذه المعاناة وهذا الغبن أمراً خارجاً عن المألوف، بل كانت تنظر إليه على أنّه من طبيعة الأشياء ومستلزمات التفاوت بين البشر.

كانت هذه العنصرية بكل الأحوال تُمارس على الفقراء من أبناء الأكثرية ذاتها تماماً مثلهم مثل أبناء الأقليّات، فلم تكن قيمُ المواطنة المتساوية ولا قيمُ العدالة الاجتماعية والحريّة والكرامة الإنسانيّة سائدة في تلك الأزمان، لكنّ التشوّهات حفرت خدودها عميقة في ذاكرة هذه الفئات المستضعفة وفي وجدانها الجمعيّ، وما أن لاحت لها فرصة الانتقام حتى أخرجت من جعبتها كلّ سهام الماضي المتّكئ على المظالم وأطلقتها بكلّ اتجاه غير عابئة بأية آثار قد تترتب على ذلك مهما كانت مدمّرة للبلد وللمجتمع ولها ذاتها.

بهذه القراءة يمكن لنا أن نفهم كيف كانت سرائر طيّاري الجيش العربي السوري منشرحة وعيونهم متلألئة بدموع الفرح ووجناتهم عامرة بالسعادة وضمائرهم مرتاحة حدّ الارتخاء أثناء إلقائهم البراميل على رؤوس أبناء البلد السوريين، مدمّرين مدنهم وقراهم وأحلامهم، ماضيهم وجنى أعمارهم وأعمار آبائهم وأمّهاتهم قبل أن تدمّر مستقبلهم ومستقبل أولادهم!

لم يكن ذلك أبداً مجرّد نتيجة آنيّة أو ردّ فعل مباشر لثورة تطالب بتغيير نظام الحكم الاستبدادي للانتقال إلى نظام ديمقراطي يقوم على قيم المواطنة، لقد كان خوفاً دفيناً معشعشاً في الضمير الجمعي لفئات كثيرة من العودة إلى تاريخ الذلّ والعبوديّة والمهانة السحيقين.

لم يكن باستطاعة هذه الفئات أن تتغلّب على هواجسها وكوابيسها التاريخيّة، ولم تثق يوماً بقدرة الدولة أو القانون أو القيم على حمايتها من إمكانيّة تكرار التجربة المريرة

لم يكن باستطاعة هذه الفئات أن تتغلّب على هواجسها وكوابيسها التاريخيّة، ولم تثق يوماً بقدرة الدولة أو القانون أو القيم على حمايتها من إمكانيّة تكرار التجربة المريرة، وهذا الأمر ليس بمستغرب عليها أبداً، فهي لم تسعَ يوماً واحداً من أيام حكمها الذي جاوز النصف قرن لبناء دولة الحقوق والحريّات دولة المواطنة والمساواة. على ما يبدو أنه كان علينا- كأحفاد الأكثرية- أن نشرب من نفس كأس المرارة التي تجرّعها في الماضي أجدادهم كي تشفى بعضٌ من جراح أرواحهم وضمائرهم.

قد يبدو للناظر عن كثب أن هذا التكثيف الهائل للتدمير والتشريد والتعذيب يحاول أن يختصر الانتقام لتاريخ مديد من القهر والمرارة بأقصر مدّة ممكنة قبل وقف هذه المجزرة المستمرّة منذ ثمانية أعوام، كما يبدو أنّ وقف هذه المأساة لن يكون بأيدي أبناء البلد الواحد الذين شارفوا على إفناء بعضهم معنويّاً إن لم يكن ماديّاً، مما استدعى بالضرورة تدخّل قوى دولية لإنجاز الفصل بينهم وإتمام هذا الحل اللازم.

ستتوقّف هذه المحرقة يوماً ما، وستأتي الساعة التي تظهرُ فيها الحقيقة ساطعة جليّة، ولن يُخفيها هذرُ الإعلام المزيّف ولا سخافة خطابات ممجوجة ولا مزاودات أحدٍ على أحد، سيأتي يوم الحقيقة التي لا ريب فيها، وإلى ذلك الحين سيرقص حفنةٌ من المستعمرين وتجّار الدم وأمراء الحرب على أشلاء شعب شريد طريد، وعلى بقايا وطنٍ ممزّق مُحتلّ ذليل وعلى أنقاض مجتمع ضائع تائه قد يجد وقد لا يجد نفسه أبداً.