مساحات ملونة

2019.07.28 | 00:07 دمشق

+A
حجم الخط
-A

في 2014/10/24، شهدت برلين عرض النشاط المسرحي الأول، الذي ترافق مع معرض لوحات تشكيلية، رسمها أطفال سوريون لاجئون، كانوا قد وصلوا حديثاً إلى ألمانيا. تلك الفعالية كانت قد انطلقت تحت عنوان: "هنا، أجعل من حياتي مساحات ملونة".

لقد استندت تلك الفعالية بجوهرها إلى فكرة استحضار الأطفال ذاكرتهم السورية القريبة، وذاكرة خروجهم من سوريا، ومحاولة تجسيد هذه الذاكرة بالرسم.

جزء كبير من تجمعات السوريين الهاربين من الحرب كان قد تعرف إلى فعاليات كهذه، وقد شهدت مناطق اللجوء نشاطات كثيرة تستهدف الأطفال، سواء أكانت في مخيمات اللجوء أم في مدن دول الجوار السوري. لكن تلك النشاطات في تلك الفعالية تحديداً، كانت قد اتخذت شكلاً متفرداً في أساليب اهتمامها بالأطفال، وفي رصد مشاكلهم من النتائج التي رتبتها الحرب عليهم. لكن هذا لم يعدل مصيرها عن مسار مصائر معظم هذه الفعاليات؛ إذ غالباً ما كانت الإضاءة تتركز فترة قصيرة على هذه النشاطات أو الحالات أو الدراسات، ثم تندرج- كغيرها- في أدراج النسيان، أو تؤرشف في سجلات الجهات التي قامت بها، دون أن يترتب على هذه النشاطات أو الدراسات نتائج عملية نوعية.

وعلى هذا، في برلين التقيت الفنانة السورية "نهلة الشناعة" التي أشرفت على هذا المشروع، وأدارته. هذا المشروع الذي حصل- في عام 2015- على جائزة البرلمان الألماني. ومن أرشيف الفنانة السورية نهلة لملمت تفاصيل معلنة، وتفاصيل غير معلنة، عن تجربة مادتها وأبطالها أطفال سوريون.

ولقد أوضحَتْ نهلة خصوصية هذا المشروع، فقالت: في هذه التجربة "هنا، أجعل من حياتي مساحات ملونة” ثمة خصوصية تكاد أن تنفرد بها عن غيرها؛ فهي انطلقت أساساً بكونها مشروعاً علاجياً، يعتمد الرسم لإضاءة خفايا البنية النفسية ومشكلاتها عند العينة المستهدفة؛ فالرسم لم يكن إلا وسيلة، يطلق الطفل من خلالها ما يختزنه من صور وذكريات عن الحرب، وعن معاناته في طريق اللجوء، وعن البلدان التي وصل إليها هذا الطفل. كنا نهدف من هذا المشروع إلى هدفين: الأول علاجي، يتلخص بكشف هذه الذاكرة المثقلة بالموت والقهر والتشرد وإخراجها إلى حيز الإضاءة، والثاني إعلامي، يهدف إلى تعريف المجتمعات التي وصل إليها هؤلاء الأطفال إلى حقيقة ما جرى في سوريا، وما يجري فيها.

في الفيديوهات، والأحاديث والصور المؤرشفة، استوقفني حديث لفنان ألماني، كان يتحدث عن تجربة المعرض ولوحاته، لكنه توقف طويلاً عند لوحة لطفلة سورية اسمها "مايا"، عمرها خمس سنوات، في تلك اللوحة رسمت مايا ثلاثة أشباح بألوان مختلفة. أمّا ما قاله الصحفي الألماني عن لوحة "مايا"، فقد كان مفاجئاً: "صدمتني اللوحة عندما رأيتها، لم أصدق أنها لوحة لطفلة في الخامسة من عمرها، أحالتني هذه اللوحة مباشرة إلى اللوحة العالمية "الصرخة" التي رسمها الفنان "ادوارد مونخ"، وتوقفت طويلاً أمامها، إنها لوحة صادمة بكل معنى الكلمة؛ فهي ممتلئة بالرعب، لقد كان الرعب فيها أبلغ من الرعب الذي يمكنك أن تراه في لوحة الصرخة، وربما يمكنني القول: إن الصرخة في لوحة "الأشباح"، كانت أقوى منها في لوحة الصرخة لمونخ”.

في سياق ورشة الرسم التي امتدت أشهراً طويلة، كانت المشرفة على الورشة، الفنانة "نهلة"، تخوض حوارات متواصلة مع الأطفال، تاركة للأطفال متسعاً من الوقت؛ لكي يتحدث كلٌّ منهم عن لوحاته، هذه الحوارات أسهمت بهدم حواجز كثيرة داخل هؤلاء الأطفال؛ فتدفق فيض من دواخلهم.

في أحد التسجيلات تظهر مايا، وهي تقف إلى جانب لوحتها، وعندما يسألها أحدٌ عن معنى لوحتها، تمد إصبعها الصغيرة إلى أحد الأشباح الثلاثة في الصورة قائلة:

  • هذا أنا.

تصمت قليلاً، ثم تواصل حديثها:

عندما هربنا من سوريا، مشينا كثيراً، كنا مجموعة من العائلات، كان ليلاً وعتمة وبرداً شديداً، وكانت تمطر أحياناً، كنت أرتجف من البرد والخوف؛ فغطاني أبي بقطعة قماش بنية، وهكذا فعل آباء آخرون، مشينا ثلاثة أطفال معاً، كلٌّ منا مغلف بقطعة قماش تحميه من البرد والمطر... كنا ثلاثة أشباح، نرتجف في العتمة والبرد.

في لوحة أخرى، ثلاث زهرات ترسمها طفلة سورية، اسمها تالا، وهي أيضاً بعمر خمس سنوات، وعندما تسألها مديرة المشروع عن لوحتها، تقول:

  • هي ثلاث زهرات، تقف وحدها في العراء، وتتحاور.

فتسألها المديرة: ماذا تقول هذه الزهرات في حوارها؟

حينها تشرح تالا:

  • تقترح إحدى الزهرات: أن يعدن إلى بيوتهن في سوريا. فتعلق الزهرة الثانية: لقد أصبحنا بعيدين جداً، ولن نعرف طريق العودة. بينما تعلق الثالثة، وتتساءل: أنا لا أعرف إلى أي بيت سأعود...؛ إذ إنها في رحلة تشردها الطويلة، كانت قد سكنت في بيوت كثيرة؛ ولهذا فهي لا تعرف بالضبط: أي بيت من بينها، هو البيت الذي تجب العودة إليه.

ما قاله الأطفال عبر لوحاتهم في ذلك المعرض؛ يحرر فيضاً من أسئلة لانهاية لها: مفجوعة، ومرتبكة.

هل يمكن علاج هؤلاء الأطفال الذين عايشوا هذه التفاصيل المرعبة كلها؟؟

هل يمكن علاج هؤلاء الأطفال الذين عايشوا هذه التفاصيل المرعبة كلها؟؟ وإذا كان ممكناً، فكيف يكون ممكناً ملامسة الجروح الغائرة وندوبها؟ وإذاً، كيف سيكون ممكناً مداراة هذه الندوب التي تحملها أرواحهم كوشم لا خلاص منه.

ثم، إن كان هؤلاء الأطفال الذين وصلوا إلى أوروبا، قد وجدوا جهات قد تهتم بعلاجهم، و قد تحميهم من التعرض المباشر لويلات الحرب، فماذا عن الأطفال الذين عاشوا سنوات مديدة في مخيمات النزوح، وماذا عن الأطفال الذين ظلوا، في سوريا، يعانون من موت يحاصرهم من الجهات كلها... وماذا عن التفاصيل في أيام الرعب والجوع والتشرد... التي تستبيح لحظات حياتهم كلها.

إن الفجيعة التي لم نعرف- حتى اللحظة- حجمها الحقيقي، والتي ستتكشف لاحقاً معظم جوانبها الصادمة، لابد ستؤكد لنا ما نتعثر به في كل لحظة، وهو: إن أطفال سوريا هم الضحية الأكبر في معركة بحث السوريين عن حريتهم، وإن ما تسبب به حكم آل الأسد، لم يكن دمار سوريا وتمزيقها وتمزيق نسيجها الاجتماعي فقط، بل إن هذا الخراب قد تمدد حتى استطال على مستقبل سوريا، وعلى حياة أجيالها القادمة.

إن الأمر الذي تتفاقم خطورته، هو الاستمرار الوقح في استباحة الطفولة، وفي زجها باكراً في حروب الكبار القذرة، وفي تكاثر الجهات التي سيتوجب محاكمتها مستقبلا بسبب استغلالها البشع للأطفال ... بدءاً من محاكمة عصابة النظام التي لايزال الآلاف من الأطفال معتقلين في سجونها، وهي التي قتلت عشرات الأطفال منهم، والتي تزج بهم في إجرام العسكرة، وصولاً إلى تجنيد القاصرين في  "PYD" وفي الفصائل الإسلامية الأخرى.