مدينة حلب والثورة: (2 من 2) محاولة في التفسير

2019.05.27 | 00:05 دمشق

+A
حجم الخط
-A

كما قلت في الجزء الأول، لم يكن هدفي من مقال «حلب وش عملو فيكي؟» القيام بمراجعة لا أرى أنه حان وقتها، ولكن بما أن الحوار عن موقف مدينة حلب من الثورة قد فُتح سأقدم بعض الاقتراحات التي كانت نتيجة تفكير في حال المدينة ونقاش مع بعض ثوارها، ولا سيما في عامي 2011 و2012.

يتفق الجميع على أن دور مدينة حلب في تلك السنوات كان مخيّباً لجمهور الثورة. أهل حلب وسكانها أنفسهم لا ينكرون ذلك؛ فيقول الرمادي أو مؤيد النظام إن السبب كان تصدّر الريف «الحاقد» وتجاوزاته على أهل المدينة، ويقول الثائر إن «التأخر» كان نتيجة قبضة أمنية خاصة لخنق حلب. أعتقد أن كلا الرأيين خاطئ.

فالمعروف أن بروز دور الريف تزامن مع ظهور الجيش الحر، وأن التجاوزات على معامل الحلبيين، وعلى أفرادهم في حال السفر، إنما بدأت جدياً في وقت متأخر من 2012، ولا تصلح لأن تبرر موقفاً ظهرت معالمه منذ الأشهر الحاسمة من 2011. بل المعروف أن هذا الموقف سبب كثير من التجاوزات وليس نتيجة لها.

أما الفكرة الرائجة عن خطة خُصّت بها حلب فليس عليها أي دليل رغم تسرّب كثير من الوثائق الأمنية، بما فيها بعض ورقيات «خلية الأزمة» التي كانت توزّع القمع وتديره في كل سوريا. صحيح أن إفلات عقال الشبيحة في حلب كان مريعاً ووحشياً، لكنهم لم يكونوا أكثر عدداً وهيجاناً من شبيحة حمص وبانياس مثلاً. وفي المرات القليلة التي استطاع فيها الثوار في حلب جمع حشد كافٍ كسروا سطوة الشبيحة دون كبير عناء، مما يحيل الأمر إلى عدد المتظاهرين مجدداً. أما قوات النظام فلم تكن تعاني من نقص يدفعها إلى أن «تضع ثقلها» في مكان وتهمل آخر كما تفترض هذه النظرية. يتداول بعض ثوار حلب أن السلطات أخلت سبيل سبعة عشر ألفاً من المجرمين الجنائيين لقمعهم. هذا رقم خيالي.

انصبت على مقالي الأول اتهامات بأنه حاول «نفي» ثورة حلب!! هذا افتراض غريب، ليس فقط لأنني من أنصار الثورة، ولكن الأهم لأن أحداً لا يستطيع طمس واقع عاشه نصف المدينة لمدة تقارب الخمس سنوات! ما أقوله هو أن ثورة حلب بدأت ضعيفة ونمَت ببطء، وحين قويت بقي ثقل المدينة الأساسي خارجها، سكاناً وأحياء ومزاجاً. ولذلك أرى أن استعادة سؤال: «لماذا لم تثر حلب؟» مشروعة لاحتفاظه بوجاهة كبيرة، وإن تكن غير مطلقة طبعاً، ولامتداد تأثيره حتى اليوم.

انصبت على مقالي الأول اتهامات بأنه حاول «نفي» ثورة حلب!! هذا افتراض غريب، ليس فقط لأنني من أنصار الثورة، ولكن الأهم لأن أحداً لا يستطيع طمس واقع عاشه نصف المدينة لمدة تقارب الخمس سنوات! ما أقوله هو أن ثورة حلب بدأت ضعيفة ونمَت ببطء، وحين قويت بقي ثقل المدينة الأساسي خارجها

وللإجابة عن هذا السؤال أقترح أن نقلبه إلى صيغة «ولماذا تثور؟» وعندها ينفتح طريق الجواب تلقائياً.

يميل مؤيدو الثورات إلى اعتبارها خيراً مطلقاً، من جهة المبدأ، لا يمكن لمن يُعرَض عليه أن يتردد في الالتحاق به. هذا صحيح بمعيار القيم، لكن هناك معايير واقعية أخرى صحيحة كذلك. فالثورة حراك اجتماعي كبير وجذري وباهظ. ووفق هذا المنظور فإن الثورة تعرض نفسها على السكان، أفراداً ومجموعات، بأشكال مختلفة و«عشوائية»، فيقع البعض في غرامها فوراً، فيما يحسب آخرون ما يمكن أن تقدمه لهم وما ستأخذه.

ماذا تعرض الثورة؟ الحرية والكرامة والعدالة.

بالعودة إلى الحلبي «النمطي»، ولنحدده هنا بأنه ابن المدينة من الطبقة الوسطى، المحافظ شكلياً، الذي يعيش من عمله الخاص خارج إطار «الدولة»؛ ما الذي قد يغريه في هذه العرض ليرى أن له فيه «مصلحة»؟

الحرية: ماذا تعني بالضبط؟ وما الذي ينقصه منها؟ إنه حر! يسهر حتى الصباح وينام إلى قبيل الظهر، يفتح المحل أو المكتب ويطلب فنجان «الإكسبريس»، يمارس عمله بالحدود الدنيا كالمعتاد، يلتقي أصدقاءه مساء ليلعبوا «الورق» في أحد مقاهي حي الموكامبو أو أمام القلعة، وأثناء ذلك يطلب عشاء جاهزاً سريعاً، يعود إلى منزله «الساعة 3 بالليل» بأمان، وبمزاج لا يرتبط إلا بفوزه أو خسارته في «اللعبة»، أو بنتيجة مباراة كرة القدم التي ربما تكون عُرضت يومها على شاشات كبيرة في المقهى وسط الضجيج.

إن بدت لك هذه اليوميات سخيفة فأنت «حر»! لكنها حياته الفعلية وهو «حر» كذلك! إن تصورت أنه «حفيد الكواكبي» فهذا شأنك! وإن ظننت أنه يفتقد حرية التعبير ويحن إلى «صوته الخاص» فأنت تمزح. التعبير عن ماذا؟ هذا هو، وهذه تعبيراته الطلقة عن نفسه بصوته العالي الذي يملكه بثقة زائدة عن الحد.

خُنقت الحياة السياسية في حلب منذ الستينات، مع حكم البعث، وانحسرت إلى جزر هامشية قليلة العدد وريفية الكوادر في الغالب. الاستثناء الذي حدث في أواخر السبعينات، عندما تفاعلت المدينة مع الحراك الإسلامي بشكل جارف، كان «تورطاً» مكلفاً ذا ملامح دينية وطائفية هي أظهر بكثير من ملمحه «السياسي».

وإن ظننت أنه يفتقد حرية التعبير ويحن إلى «صوته الخاص» فأنت تمزح. التعبير عن ماذا؟ هذا هو، وهذه تعبيراته الطلقة عن نفسه بصوته العالي الذي يملكه بثقة زائدة عن الحد

الكرامة: ومن الذي ينتقص من كرامته طالما هو بعيد عن «وجع الراس» الذي تدعوه إليه؟! الأجهزة الأمنية؟ إنه لا يحتك بها إلا في مناسبات محددة مرتبطة بالشغل، وفقط بمندوبيها الاقتصاديين إلى البنوك والمعامل والورشات، وهؤلاء جباة، «تسعيرتن معروفة، بياخدوها وبيضربو له سلام»، وهي جزء طبيعي من المصاريف أو من تكلفة أي منتَج!

تتعرض كرامته للامتحان عند الالتحاق بالخدمة العسكرية ولكن لا بأس، من البديهي أن على المرء أن يصانع قليلاً وأنه لا يكون مرتاحاً هناك إلا إذا دبّر رأسه. يعود الأمر إلى شطارتك إذاً، والحلبي «حربوء»، ومن المعروف أنه الراشي الأول بين السوريين والأكثر «تفييشاً» في الجيش، يدفع الراتب وحبة مسك لسيادة العقيد ليقضي خدمته في مدينته وبين ذويه.

ومن المعروف أنه الراشي الأول بين السوريين والأكثر «تفييشاً» في الجيش، يدفع الراتب وحبة مسك لسيادة العقيد ليقضي خدمته في مدينته وبين ذويه.

العدالة: كلام فارغ لا يراوده أي وهم بإمكانية تحقيقه «بهي البلاد». كيف وهو نفسه غير عادل؟! لا في البيت ولا في السوق! العدالة أصلاً مجرد حلم يستخدمه البعض ليخدعوا البسطاء ويورطوهم في صراع كي يحلّوا محل المستفيدين فقط، في تبديل كراسٍ وتلبيس طرابيش... و«هاد شعبك يا حجي»!

ثم من الذي يظلمه بشكل مباشر برأيه؟ إنهم منافسوه الشوام، يحوزون العقود الدسمة ويتلقون الركبان من المستثمرين الأجانب من موقعهم في العاصمة، ولا أثر خاصاً لنظام الأسد في هذه المزاحمة التاريخية.

وفضلاً عن هذا وذاك، إذا تناسينا ما تقدمه الثورة من وعود لمواطنيها، فقد دفعت عوامل محلية مباشرة بالكثير من التجمعات السورية إلى الانخراط فيها، وهو ما لم يحصل نظيره في حلب:

فمن جهة أولى لم تكن المدينة محل صراع طائفي على الهوية والموارد والنفوذ كما هي الحال، بأشكال مختلفة، في حمص ودمشق والساحل. فعدد العلويين فيها لا يذكر، ومعظمهم ضباط «دراويش» برتب متوسطة يعيشون في أحياء غير صافية سكانياً، ولا تبدو عليهم مظاهر مستفزة من السطوة أو الثراء، فضلاً عن طلاب ليسوا ناشزين بشكل خاص عن الخليط السوري الذي يحتك به الحلبي لأول مرة عندما يصل إلى الجامعة.

لم تكن المدينة محل صراع طائفي على الهوية والموارد والنفوذ كما هي الحال، بأشكال مختلفة، في حمص ودمشق والساحل. فعدد العلويين فيها لا يذكر

ومن جهة ثانية لم تعانِ المدينة ما يشبه مواسم الجفاف التي خلفت نتائج سلبية مصيرية في المنطقة الشرقية والجزيرة قبل الثورة، ولا من الانفجار السكاني نتيجة الهجرة الداخلية، القائم على استملاكات مجحفة طازجة، والمصحوب بالرثاثة الخدمية، كما في أرياف دمشق.

ومن جهة ثالثة لم تتعرض حلب لامتهان أخرق للكرامة الجماعية يتطلب رداً حاسماً مباشراً كما حصل في درعا. وهي لا تتسم أصلاً، مثل الأرياف والمدن الريفية، بتقاليد «الفزعة» والتضامن العمومي.

يسهم مجمل هذه الأسباب في تفسير موقف مدينة حلب الرافض للثورة حفاظاً على الاستقرار. عندما يقول حلبيون كثيرون «كنا عايشين» فإنهم يعبّرون بصدق وجدية عن رغبتهم في استمرار النمط الذي وصفته وعدم حماسهم لتغييره، لا سيما أنهم مقتنعون أن تكلفة التغيير ستكون عالية جداً، إذ لا تعني السلمية بالنسبة إليهم أكثر من نكتة رومانسية، بالنظر إلى تجربتهم الدموية مع النظام في الثمانينات، ولأسباب أخرى.

يسهم مجمل هذه الأسباب في تفسير موقف مدينة حلب الرافض للثورة حفاظاً على الاستقرار. عندما يقول حلبيون كثيرون «كنا عايشين» فإنهم يعبّرون بصدق وجدية عن رغبتهم في استمرار النمط الذي وصفته وعدم حماسهم لتغييره، لا سيما أنهم مقتنعون أن تكلفة التغيير ستكون عالية جداً

لا يشمل هذا التحليل كل الحلبيين لكنه يدّعي أنه يصف أكثرهم. وإذا كان قد رسم شخصية «نمطية» فلأنها نموذج مهيمن جاذب يصنع قيم المدينة ومزاجها وطموحها ومواقفها، ويشعّ باتجاه طبقات اقتصادية أدنى وأنماط اجتماعية أخرى، وكان يفيض إلى تشكيل الشخصية المشتهاة للمهاجرين إلى حلب من أريافها قبل الثورة.

لا شك أن بعض هذه العوامل مشترك مع مدن سورية أخرى بدرجات ما، لكن مجرد ترجمتها ميكانيكياً لن تكون عملاً حصيفاً لفهم دمشق أو حماة أو سواهما، فالفوارق الطفيفة هامة أيضاً.