مبادرات أم بالونات؟ 

2019.03.31 | 00:03 دمشق

+A
حجم الخط
-A

فرزت القضية السورية ظواهر بقدر تعقيداتها، ويُقصد" بالقضية السورية" كمصطلح، الثورة، وردود الفعل عليها، نظاماً، ومداخلاتٍ إقليمية ومواقف دولية، وهيئات أممية، وكان التشريد والتهجير والتبديل الديموغرافي من أهم تلك الظواهر التي استعارتها أسرة حاكمة من القرون الأولى للحياة البشرية لتثبت نفسها فوق كرسي الحكم، وتم ذلك تحت بصر قوى الديموقراطية العالمية وسمعها، مع امتلاكها لآليات ما بعد الحداثة في رصد كل صغيرة وكبيرة في الكرة الأرضية قاطبة، ومع أسبابٍ ذاتية متعددة، استطاع العالم أن يسلب الشعب – صاحب الحق - حقوقه القانونية والإنسانية في حياة الكرامة والحرية التي حلم بها وثار من أجلها واحتمل الكوارث والمآسي لتحقيقها، مستهزئاً استهزاء الموجوع حتى العظم من كل مايجري، سواء من أولئك الذين يحتفلون بالانتصار على أنهر الدماء والأحقاد التي تمتعوا بالسباحة بها، أو أولئك الذين أقبل بعضهم على بعض يتلاومون فيما جنت محدودية رؤاهم..

من تلك اللوحة السوداء بدأت ظواهر جديدة تنتشر محاولة رسم بقع بيضاء حولها، تحت شعارات: إنقاذ ما يمكن إنقاذه، أو ثورة حتى النصر، أو التمهيد للحلول المستقبلية أو......

بمعنى طرح عناوين مثل "مبادرات" تلحق بها صفات: وطنية، ديموقراطية...مؤتمرات...تجمعات...إعلان دستوري توافقي..، هيئات..جامعة مانعة...الخ...

وبقدر ما يلفت النظر عودة صفة الديموقراطية وتعميمها، على معظم تلك التجمعات، بعد أن خفت صوتها لصالح شعارات دينية " تعتبرها بضعة من تشكيلات سلفية بدعة غربية " بقدر ما كان القلق من التوظيف الشكلي لها وتمييع مضمونها على طريقة النظام الأسدي وجبهته التقدمية..وارداً..

تراكم من المبادرات تحمل معظمها دعوة إلى التجمع والتوحد والخروج من التشرذم الذي كان من أهم الأسباب الذاتية للخسران

فيما يُطرح اليوم، ضمن تحرك الناشطين والثوريين، تراكم من المبادرات تحمل معظمها دعوة إلى التجمع والتوحد والخروج من التشرذم الذي كان من أهم الأسباب الذاتية للخسران، وأيضاً بقدر ضرورة تلك الدعوة وراهنيتها، تتعدد التجمعات والمؤتمرات من أجلها، كلٌ يتمترس خلف تجمعه، منادياً الآخرين الالتحاق به، ويتحول التجاذب والاختلاف "الشخصي غالباً" إلى خلاف يصعبُ ردمه...ويتساءل منتظرو الإنقاذ..لماذا؟...لماذا؟..

من بين ركام تلك المحاولات والمبادرات تبرز ثلاث: 

أولاها: مقترحات توافقية لإعلان دستوري أعدَ من قبل مركز الدراسات السوري وذُيل باسم المحامي المعروف "أنور البني" وقد فُصلت فيه مواد متعددة لنظام الحكم المقترح على أن يُصاغ الدستور النهائي بعد المرحلة الانتقالية...

والثانية: جاءت تحت اسم "المبادرة الوطنية السورية"في سبع صفحات، تحوي على مقدمة موسعة، ثم مقترح لنقاط انطلاق للحل السياسي،، ثم مقترح لميثاق تحت اسم الوطن والمواطن، تصدر الأسماء اسم الدكتور عارف دليلة تلاه اللواء الركن محمد الحاج علي وتبعه الدكتور هيثم مناع، ثم عدد من ناشطي الثورة ومن الذين رافقوها كقيادات سياسية أو عسكرية، 

أما الثالثة: فكانت تحت عنوان الحوار السني- العلوي، مع ذكر بعض الأسماء التي وصفت بأنها تمثل السنة، بينما أغفلت الأسماء الأخرى..وقد قدَمت نفسها إعلامياً وفق مانشر الإعلامي إبراهيم حميدي في "الشرق الأوسط" بأحد عشر بنداً تنطلق من ثلاث أفكار أساسية : - محاولة إيجاد توافق طائفي كطريق لمصالحة وطنية،...- التحضير لهذه المبادرة استمر سنتين بشكل سري ولكنه لم يكن بعيداً عن المعرفة الدولية به بما فيها النظام الأسدي نفسه،..- الابتعاد عن الحديث حول النظام السوري الأسدي ورئيسه، سلباً أو إيجاباً...وقد رأى أصحابها أن الأوان قد آن للإعلان عنها من خلال مؤتمر محدود عقدوه في برلين  !

وبصرف النظر عن التفاوت في هذه المبادرات وفق المنطق الثوري أو السياسي المعارض أو الرمادي أو علاقة النظام الأسدي أو الدولي بها، فإن أية مبادرة من أجل إيجاد حلٍ سلمي حقيقي ذي مصداقية وقابل لإحلال الاستقرار يفتح طريق التنمية وإعادة الإعمار وبالتالي عودة المهجرين والإفراج التام عن المعتقلين والمخفيين قسرياً وإيجاد حلول للمظالم التي عانى السوريون منها، لايمكن بل من المستحيل نجاحها مالم ترتكز بشكل واضح لا لبس فيه على إنهاء حكم الأسرة الأسدية التي أوصلت الوطن السوري إلى الإنهيار المريع...
والأسئلة التي تطرح نفسها بالحوار مع المبادرات المعلنة، سواء ماذكر منها أو مالم يُذكر:

لمن تُوجه تلك المبادرات؟؟

هل توجه للشعب السوري ؟ أم للنظام الأسدي؟ أم لدول الاحتلال التي تتنافس على قضم سورية كلٌ وفق مصالحه ؟أم لأوروبا ذات النفوذ الأقل والثمن الأكبر من خلال المهاجرين واللجوء الذي بات عبئاً سياسياً أكثر منه اقتصادياً ؟ 

فإن كان التوجه للأسرة المسيطرة ونظامها فإن تلك المبادرات لاتعني لهم شيئاً بما فيها الأخيرة التي أرادوا أن تكون بديلاً عن المفاوضات المقررة تحت إشراف أممي، يلغون من خلالها القرارات الأممية السابقة جميعاً بل بما فيها أستانة وسوتشي وفيينا وجنيف ....الخ.. ولو كان النظام يريد حلاً ما ،كان بإمكانه قبل الكوارث التي جلبها للسوريين والوطن أن يقبل ما قررته الندوة أو المؤتمر الذي جرى بإشراف فاروق الشرع نائب رئيس الدولة...أو بالمقترحات الإصلاحية التي حاول من هم قريبون منه أن يُقنعوه بها، أو...على الأقل بالرغبة بمفاوضات جادة تستند إلى قرارات أممية ...الخ.. ومن يفكر أن النظام الأسدي يمكن أن يقدم حالة حتى شبيهة بما كان عليه قبل الثورة فإنه يسبح في بحور من الأوهام ...ولذا لايفكرَن أحد بأنه إذا قدَم تنازلات بشأن موضوع النظام  كبادرة حل سيتقبل الأسد الحوار حولها، فالنظام يستجلب تنازلاً إثر آخر دون أن يفتح أي باب حتى للتفاوض، 

وإن كانت موجهة للدول ذات المصالح، فإنها قد تُشجعها لكسب الوقت، أو لنفاذ مصالحها من خلالها، ولو أرادت تلك الدول حلاً سلمياً حقيقياً لأجبرت من بيده الأمر عبر البند السابع أو بغيره كما فعلت بأحوال أخرى ولجنبت السوريين تلك المقتلة المريعة ...

أما إذا كانت موجهة للشعب السوري...فما صدر سابقاً سواء في وثيقة مؤتمر القاهرة الأول، أوفي الدراسة البحثية الشاملة التي صدرت عن المركز السوري للدراسات السياسية والاستراتيجية ـ واشنطن في إطار أعمال بيت الخبرة السورية ، وتحت عنوان : خطة التحول الديمقراطي في سوريا في عام 2013. وفي ذلك ما يفيد، وقد لايحتاج الأمر أكثر من بعض التفصيل والتوضيح ليتناسب مع المعطيات الواقعية المستجدة، بل في قرارات جنيف وبخاصة ما صدر عن مجلس الأمن من التنازلات ماهو أكثر من كاف لضمان حل سلمي مقبول للضرورة..

بالتأكيد نستبعد الشك بالإخوة الذين يعملون جاهدين لتقديم مقترحات نتيجة الوضع المأساوي البالغ الصعوبة الذي يعيشه الشعب السوري، لكن ذلك يتطلب عقلاً بارداً يميز بين ماهو قابل ليوصف بأنه حل ذو مصداقية، وبين حلٍ يُضمر الزغل وقد يولد انفجارات أكثر سوءاً وحالة من الفوضى المعممة كما هي اليوم!....

حتى يبتعد الناشطون عن المبادرات الملغومة والتي هي أشبه ببالونات اختبار، تستدرج الاستسلام لمنطق الحرب الطائفية وصيغة لاغالب ولامغلوب، وتتهرب من الكلام الصريح حول جرائم النظام وداعميه والموقف من استمرار النظام بوجوهه المعروفة وفلسفة الفصل بين النظام ورئيسه وبين الدولة والسلطة وعدم رؤية الوقائع السورية بدءاً من "أنا الرئيس وأنا الدولة والوطن أنا سورية بكل مافيها".

وحتى يبتعدوا عن كل ذلك، يُفترض أن :

يكون الخطاب موجها للشعب السوري فقط...

- أن يستفيد من التراكم الذي قدمته مؤتمرات سابقة ولا يبدأ من الصفر، ففي ذلك ليس فرصة راحة للأعداء فقط، وإنما ضياع جهد ووقت قد يكون السوريون بأمس الحاجة له، وتكرار غير مفيد.!..

- التركيز على أهداف الثورة دون أي تنازل، وبخاصة فيما يتعلق باستمرار بقاء الأسرة الحاكمة ومن حولها.

ليس هناك أي مبرر لتقديم تنازلات مجانية في كتابات من يتصدى للعمل السياسي اليوم، ذلك لأن أي تنازل يمكن أن يقدم من خلال مفاوضات جادة، وعلى النشطاء المدنيين تصليب موقف المفاوض لا أن يفاوض عنه، ليستطيع المفاوض الاستناد إلى جدار صلب يحمي ظهره ويبعده عن اتهامه بما لايرضى!.

ولاشك أن الأبحاث ودراسة المعطيات الواقعية، اقتصاداً واجتماعاً وكل ما استجد في أوضاع الناس ومعاشهم، من الضرورة التي لا يمكن من دونها تقديم أي مشروع أو عمل ميداني سليم حتى في الإعلان الدستوري أوأعمال الإغاثة أو الأعمال الصحية....

الثورة السورية لاتحتاج إلى زبد الكلام المنمق، إنما تحتاج إلى ماينفع الناس ويمكث في الأرض، وتلك هي المعضلة التي على شباب الثورة حلها.......