ماذا يقدّم المنطق للسُّوريين؟

2019.08.26 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

يقول عالم الفيزياء الراحل ستيفن هوكينغ إنّ نقيضَ العلم ليس الجهل، بل هو "وهمُ المعرفة". وقد يبدو السؤال: "ماذا يقدّم المنطق للسُّوريين؟" غريباً نوعاً ما، أو يبدو وكأنه ضربٌ من التنظير المجرَّد البعيد كل البُعد عن الواقع ومشكلاته. في الحقيقة، اقتبستُ فكرة المقال وعنوانه من كتاب "الغريب الـنَّجس في الخطاب السياسيّ" للصديق د. حمزة رستناوي، وفيه يعود الباحث إلى علم المنطق ومقولات المنطق التقليدي، لكي يقيّمها وينقضها أولاً، ثم يدرس في ضوء ذلك خطاباتٍ متعدّدة من الثورة/الحرب السورية، صنَّفها ما بين خطابٍ حَيَويّ جامع، وآخرَ عنصريّ إقصائي، موضّحاً دور المنطق في تكوين هذه الخطابات وتعميمها.

يتّحدث د. رستناوي عمّا سمّاه "جناية أرسطو على السوريين"، ويوضّح أنّ مقولات "الجوهر والعَرَض" عند أرسطو، أي الإيمان بوجود جوهرٍ ثابتٍ لكل شيء من الكائنات والجمادات، جوهرٍ ثابتٍ قائمٍ بنفسه ومستقلّ عن جميع المتغيّرات (الأَعْراض)؛ هو الجذرُ المنطقي للعنصرية. فمِن هذه الفكرة نشأ الادّعاءُ بوجود هوية ثابتة للكائن البشري، هويّة تختلف جوهرياً عن هويّات الكائنات الأخرى. لقد كان أرسطو يعتبر أنّ الاختلاف الجوهري بين البشر هو الحالة الطبيعية، بل هو منطق الحياة. فالرجُل أرقى من المرأة بحُكم الطبيعة، واليوناني أرقى من البربري (غير اليوناني) بحُكم الطبيعة أيضاً. ولا يقول الباحث رستناوي إنّ أرسطو هو من ابتكر العنصرية، بل هو من نظَّمها فلسفياً وفقاً لمقولاتٍ منطقية. ويضيف أنّ جميع الفلسفات المادية والمثالية، والعقائد الدينية والسياسية (الإيديولوجيات) التي جاءت بعد أرسطو؛ قد اعتمدت على منطق الجوهر الثابت ذاته. إذ يدّعي المؤمنون بعقيدةٍ ما وجودَ جوهرٍ خاصّ بعقيدتهم، جوهرٍ مختلف كلّيةً عن جواهر العقائد الأخرى. ومن الجوهر الثابت تنشأ الهوية الثابتة التي تحتكر لنفسها حقّ امتلاك الحقيقة والحقوق، وتمارس سياسات الإقصاء والعنصرية تجاه الآخرين. ولا ضيرَ من التذكير أن الفرد أو الجماعة أو العقيدة حين تؤمن بوجود جوهرٍ خاصّ بها، فهي تعتبرُهُ -في الغالب- جوهراً أرقى وأسمى من جواهر الآخرين، أفراداً كانوا أو جماعاتٍ أو عقائد.

أمرٌ آخرُ يقع في صُلب الانقسامات بين السُّوريين، هو ما سمّاه أرسطو "مبدأ الثالث المرفوع" أو الثالث الـمُمْتَنِع، ومعناه أنّ الشيء إما أنْ يتّصف بصفة معينة أو لا يتّصف بها، ولا ثالثَ لهذين الاحتمالين. فالمرءُ إما أن يكون طيّباً أو شريراً ولا ثالثَ لهذين الاحتمالين. بمعنى أنّ القضيّتين المتناقضتين لا تصدُقان معاً ولا تكذبان معاً، فإذا صدقتْ واحدةٌ منهما كذَبَت الثانيةُ بالضرورة، والعكسُ بالعكس، ولا يوجد احتمالٌ ثالث.  ويكفي أن تذكُرَ كم كفَّرَ أصحابُ العقائد بعضهم بعضاً، وكم قسَّموا البشرَ إلى مؤمنين وكافرين، لكي نعرف مدى تأثير هذه المقولة المنطقية وسِعَة انتشارها. أما أصحاب العقائد السياسية فلا أسهل لديهم من التخوين، وتقسيم البشر إلى وطنيين وخَوَنة، ولا ثالثَ لهذين الاحتمالين. ولنتذكّر المجازر الخطابية التي ارتكبها السُّوريون في حقّ بعضهم بعضاً، منقسمين إلى موالين ومعارضين، شبّيحةً وثوّاراً، ولا ثالث لهما. ومع كلّ حادثٍ جديدٍ ذي أهمية سياسية أو عسكرية، ينصرف أبناء الموقف السياسي الواحد إلى تخوين بعضهم بعضاً، مقسّمين البشر إلى وطنيين وعملاء، ولا ثالث لهذين الاحتمالين. وإذا كان المعتزلة قد قالوا "بالمنزلة بين المنزلتين" قبل ألف عامٍ ونيّف، فيجب علينا اليوم أنْ نقول بألف منزلةٍ بين المنزلتين، بل بمنازل بعدد الأفراد الذين لا يمكن أن تتشابه ظروفهم أو قناعاتهم، فحتى الشقيقان التوءمان المتطابقان لا يفكّران بالطريقة ذاتها. 

وأضيفُ -من خارج كتاب د. رستناوي- أنَّ هنالك قانوناً منطقياً آخر، لو نقَضْناه لسَاعدَنا نقضُهُ في فهم كثيرٍ من الظواهر والمشكلات الواقعية، ألا وهو قانون السَّببيّة (Causality) أو قانون العلّة والمعلول أو السبب والنتيجة. ويقول هذا القانون بوجود روابط ضرورية بين الظواهر، إذ تُحتِّمُ الواحدةُ منها حدوثَ الأخرى، بحيث تكونُ لكلِّ معلولٍ (نتيجة) علّةٌ (سبب) أدّتْ إلى حدوثه. فمثلاً؛ إذا كان حلُولُ الظلام معلولاً ونتيجةً؛ فإنّ غروبَ الشمس هو العلّةُ والسبب. وقد كان أرسطو أوّل من اهتمّ بقانون السببيّة واستخدمه لتفسير الحركة في الكون، ثم اعتبره ديكارت مبدأً فطرياً يولد مع الإنسان. إنّ نقض هذا القانون الذي نستخدمه يومياً في تفسير ما نصادفُهُ من أقوالٍ وأفعال، يفتحُ في الذهن أبواباً جديدة، تقود المرء إلى فهمٍ أوسع.

لطالما لاحظنا في خطاب الثورة/الحرب السورية أن تفسيرَ وقوفِ أشخاصٍ إلى جانب النظام؛ كان يتمُّ بالنظر إلى خلفيّاتهم الاجتماعية أولاً

لطالما لاحظنا في خطاب الثورة/الحرب السورية أن تفسيرَ وقوفِ أشخاصٍ إلى جانب النظام؛ كان يتمُّ بالنظر إلى خلفيّاتهم الاجتماعية أولاً، ومن ثمَّ وصف موقفهم بالطائفي أو الأقلّوي. كما تمَّ تفسيرُ حمل السلاح بعلّة العنف الرهيب الذي مارسه النظامُ تجاه الثورة. وكذلك تمّ تفسير انتسابِ عددٍ كبير من الشبّان إلى تنظيمات متشدّدة مثل جبهة النصرة وداعش؛ بعلّةِ وجود فكْرٍ إسلامي أو وهّابي أو داعشي، تسلَّل إلى أدمغتهم وغسَلَها. لكننا سنرى بعد قليل ضعفَ هذه العِلَل.

كان الإمام الغزالي أوّل من نقضَ قانون العلّة والمعلول، وقال إننا نلاحظُ -بالحواسّ- اقتراناً وتعاقُباً زمنياً بين حدثٍ ما وحدثٍ آخر، فنحسبُ أنّ الأول هو عِـلّةٌ للثاني. وهكذا نشأَ هذا القانون العقلي بحُكْم العادة والتكرار، لا بحُكم وجود روابط حقيقية بين الأحداث. وسوف نجد الطرْحَ ذاته عند الفيلسوف ديفيد هيوم، إذ رأى أن العلاقة بين الحوادث هي علاقةُ اقترانٍ وتعاقُبٍ زمني، لا علاقةُ ارتباطٍ سببيّ بينها. ثم إننا عندما نفسّر حادثاً ما بوجود سببٍ ما قد أدّى إليه، فقد يكونُ هذا السببُ صحيحاً بالفعل، وقد يكون سبباً ظاهرياً يخفي تحته السبب الحقيقي. وقد يكون السببُ الذي عرفناه واحداً، بينما الأسبابُ الحقيقة عشرون سبباً. ولا ينتمي هذا الكلام إلى عالم المنطق والفلسفة فحسب، بل هو في صُلب حياتنا اليومية، فقد ساعدَ نقضُ قانون السببيّة الأطبّاءَ على معرفة الأسباب الحقيقة لكثيرٍ من الأمراض التي كانوا عاجزين عن تفسيرها، بسبب سيطرة قانون ذاته على أذهانهم.

وبالعودة إلى الأمثلة المطروحة آنفاً، فقد يكون وقوف أفرادٍ وجماعاتٍ إلى جانب النظام، غير عائد إلى منابتهم الاجتماعية، ولو أنها قد تبدو "السبب الظاهري" الذي توصلّنا إليها عن طريق قانون العلّة والمعلول. بل قد تكون ثمة أسبابٌ اقتصادية ونفعيّة ومصلحيّة، وأسباب نفسية كالخوف، وأسباب فكرية ناجمة عن التجهيل المدروس والتحكُّم الإعلامي. أما المثال الثاني "حمل السلاح" فلا يكفي تبريرُه بعنف النظام وجرائمه، ولو كان كذلك لانصرفَ كلُّ مَن تعرَّضَ للعنف إلى حمل السلاح، ولذلك لا بدّ من الاعتراف بوجود جهاتٍ "صديقة" كانت تدفع الثورة إلى التسليح. أما المثال الثالث وهو "الانتساب إلى تنظيمات متشدّدة"، فقد يكون للفكر السلفيّ الجهاديّ دورٌ مهمّ في ذلك، لكنّ هذا السبب الظاهريّ ليس هو الأصحّ أو الأوحد. ولذلك ينبغي البحثُ في الأسباب الاقتصادية التي دفعت الشباب المقيمين في مناطق توقّفتْ فيها الأعمالُ والأشغال إلى الانتساب إلى كتائب مسلّحة من أجل الرواتب أو السِّلَل الغذائية. وينبغي البحثُ في الظلم وغياب العدالة، بل غياب الدولة الذي لا يتركُ للفرد خياراً سوى أنْ يأخذ حقّه بيَده. كما ينبغي النظرُ في الأسباب النفسية كالرغبة في الانتقام عند من خسر أهله أو انتُـهكتْ كرامتُه. أما الجهاديُّون الأجانب فينبغي تحميل حكومات بلدانهم مسؤولية عدم اندماجهم في مجتمعاتهم، وانخراطهم في سوق العمل. إنّ تفسيرَ انتساب الأفراد إلى تنظيماتٍ جهاديّة بعلّة وجود "فكر جهادي"، هو ضربٌ من الاستنتاج الذي يفسّر السببَ بالنتيجة، ولهذا ينبغي الحذرُ إزاءه.

في النهاية، قد يبدو أنّ ما تقدمتُ به يتعلّق بنقضِ مقولاتٍ بسيطةٍ أو بدهيّة، تقع في المستوى الأدنى من التفكير. نعم، لكنّ بساطتها وبداهتها هي ما تجعلها تردُ إلى الذهن قبل كلّ شيء، وهي ما تجعلنا نخطئُ -بسهولة- في تفسير الظواهر واتّخاذ المواقف منها.