ماذا وراء الاحتفال بعيد المولد النبوي؟

2018.11.27 | 00:11 دمشق

+A
حجم الخط
-A

لم يتوقع «الفرسان» أن يفاجئهم ريبال رفعت الأسد بهذه المزحة... صحيح أنه المعتمد لدى والده «القائد» في العلاقات العامة والتمثيل السياسي، وأن هذا يفرض عليه بعض اللباقة والبرتوكول؛ لكن أن يهنئهم، هم وعائلاتهم، بذكرى «إشراقة مولد نبي الهدى والرحمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم»، فهو أمر يستحق سهرة مترعة من الضحك! 

لم تقتصر طرائف عيد المولد لهذا العام على التهنئة الإلكترونية التي كتبها ريبال من منفى أسرته الفرنسي، حيث يعيش حياة غربية علمانية لا يخفيها. فعلى الجانب الآخر من المتوسط، في أقصى شمال سوريا، رعى ما يسمى «ديوان العشائر» احتفالاً بعيد المولد، ظهر فيه أبو علي سجّو، المسؤول الأمني لمعبر باب السلامة، يرقص مع أحد قادة «فرقة الحمزات». وتنسب إلى الاثنين مفاسد وانتهاكات كثيرة وكبيرة ومتنوعة.

بدورها، لم تكتف «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) بالاحتفال الذي أقامه «جيش الثوار»، الفصيل العربي المنضوي تحت لوائها، والذي لا يحوز سمعة أنصع مما لدى سجّو والحمزات، بل أوعزت لمجندات شابات، غير محجبات، في قوات «ترافيك» المرورية التابعة لها بتوزيع السكاكر على السيارات والمارة. فيما تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي تسجيلاً يُظهر صبية، محجبة، ترقص وسط الدخان في احتفال بالمولد نظمه مطعم في ريف العاصمة السياحي الذي سيطر عليه النظام.

ونقلت صفحة «دمشق الآن»، المؤيدة، صور سوق الحميدية بهذه المناسبة، اختلطت فيها زينة المولد بالأعلام الرسمية الحمراء وصور حافظ الأسد الذي رعى ابنه، جرياً على العادة المرائية الموروثة، الاحتفال الرسمي الذي أقامته وزارة الأوقاف، بحضور المفتي وبعض كبار المسؤولين في الحزب و«الدولة».

لاحظ مراقبون على فيسبوك مبادرة أعداد لا تكاد تحصى من الشبيحة ومؤيديهم إلى التهنئة بالمولد هذا العام

وبين هذا وذاك لاحظ مراقبون على فيسبوك، بعد أن أصبح المنصة العامة التي يعرف منها سوريّو مختلف الأطراف أخبار بعضهم، مبادرة أعداد لا تكاد تحصى من الشبيحة ومؤيديهم إلى التهنئة بالمولد هذا العام، في مفارقة غريبة عن منشورات هؤلاء في العادة وعن سلوكاتهم المعلنة.

والحق أن هذا كله يستحق التحليل. فبالإضافة إلى الوظيفة المعتادة لتستر المجرمين والفاسدين بمظاهر دينية، أو تقليدية تُنسب إلى الدين، تكمن قراءة هذا الاحتفاء المفرط على مستويات عديدة.

فمن جهة أولى يلعب التركيز على تبجيل بعض الشكليات العابرة دوراً مألوفاً في إقصائها عن الفاعلية، أي دوراً «علمانياً» في النتيجة. وتندرج هنا ممارسات النظام وأشباهه برعاية عدة احتفالات في العام، لا يتجاوز مجموعها بضع ساعات في نهاية المطاف، بالتوازي مع إمساكه برقبة الشأن الديني وتسخيره كما بدا مؤخراً في مرسوم وزارة الأوقاف.

ومن جهة أخرى لن يعدم المرء ملاحظة ارتفاع نسبة السلوك الديني الطقسي والرمزي في مناطق النظام خلال السنوات الأخيرة، نتيجة شيوع الخوف والقلق على الحياة والمستقبل حيناً، وبسبب أزمةٍ في الضمير بحكم تأييد، أو السكوت عن، ما لا يمكن هضمه إلا بمزيج من التعمية الذاتية والتزلف لله وتقديم القرابين المغشوشة له بامتعاض مفرط يأمل أن يخادع.

وإذا كان الشكل المألوف للإسلام السوري سنّياً، كما هي حال أغلبية السكان في مناطق النظام حتى الآن، فمن الصعب مواجهة الحجج السنّية، الموجودة على الضفة الأخرى، دون أسلحة شكلية أو عميقة من البنية نفسها. وإذا كان الخطاب الديني في تلك الضفة، أي في مناطق الثوار، قد ازداد سنّية عبر السنوات، وصولاً إلى السلفية، فيفضَّل أن يحاجَج بالعدة الصوفية وبالإسلام الشعبي «الفرِح»، وباجتهادات يسيرة تعرف بـ«الإسلام الشامي»، تمييزاً لها عن ما يمكن اعتباره غزواً دينياً خليجياً. وحتى في مناطق الثوار نفسها يبدو من الطبيعي أن تفضِّل القوى الفوضوية إسلاماً من هذا النوع يشبه تدين الأجداد الغائم، لا يضبطه «شرعيون مهاجرون» يرون أن الاحتفال بالمولد بدعة، طالما أنه تدين لا يعيق السرقة والخطف والتهريب والكبتاغون.

للإسلام الشامي داعمون كثيرون، ولا يقتصرون على ما ذكرنا من نماذج فاسدة ومخاتلة. بل منهم علماء محترمون وثوريون وصادقون، وخاصة من المدن الكبرى، كدمشق وحلب، حيث تركزت خميرة التدين السنّي التقليدي المتصل بالتجار والطرق الصوفية والمرتبط بالمذهبين الحنفي والشافعي الرائجين في المشرق. ينافح هؤلاء ضد السلفية استمراراً لصراع قديم في الساحة الدينية، دون أن يتذكروا أنهم لم ينتصروا فيه سابقاً إلا نتيجة تسوير النظام للبلاد ضد رياح المد السلفي التي ما إن وجدت منفذاً، إثر تخلخل بنية السلطة السياسية، حتى عصفت بالسوريين في ما يشبه السيل، وصولاً إلى داعش!

ليس الهدف هنا الانحياز إلى اجتهاد إسلامي دون آخر، ولكن أن ننتبه إلى بعض النتائج التي أفرزتها سنوات الثورة الطويلة في المجال الديني السنّي

ليس الهدف هنا الانحياز إلى اجتهاد إسلامي دون آخر، ولكن أن ننتبه إلى بعض النتائج التي أفرزتها سنوات الثورة الطويلة في المجال الديني السنّي. وربما كان أبرزها أن المنهج السلفي لم يعد تياراً مستورداً، وأن مقاومته بمحض الإسلام الشعبي لن تنجح إلا بتحالف وثيق مع دكتاتورية التحديث القسري. لا سيما وأن السلفية في سوريا لم تعد علمية ونخبوية كما كانت سابقاً، أي الشكل المعروف من الوهابية في خصومته المزمنة مع الصوفية، بل صارت مقاتلة تُراوح بين درجات السلفية الحركية، وهي مزيج إصلاحي من السلفية المعتدلة والخط الإخواني، وبين السلفية الجهادية التي تمثلها «القاعدة» وأخواتها. مما يمنح مجمل هذا التيار قوة الرفض وقابلية الاستثمار في الغضب السنّي العارم لدى جمهور الثورة، وهو أحد أسباب حفاظه على جاذبيته رغم ما فتح الباب له من تسلط ديني وتحكم شمولي.

وإذا كان الصراع بين موجات الإسلام النصي المنضبط والسابغ وبين الإسلام الشعبي المنفلش سجالاً تاريخياً مستمراً، كما بيّن أنثروبولوجي الإسلاميات إرنست غلنر، فإن مراحل سيادة الإسلام الشعبي كانت تأتي دوماً من تراكم الطمي المديد وعبر حركة المجتمع لقرون، لا بفتاوى فوقية «مستنيرة» حسب الطلب كالتي يصدرها أحمد حسون أو بخطب موالية خرقاء كالتي يطلقها مأمون رحمة على منبر الجامع الأموي.

ثم تغليف ذلك بخليط من الأهازيج والتغزل الفارغ بالرسول وتوزيع الملبّس وصحون الرز بحليب!

كلمات مفتاحية