ماذا تبقّى من الوطنيّة؟

2019.01.23 | 00:01 دمشق

+A
حجم الخط
-A

أثارت موجات الربيع العربي عموماً، والتسونامي السوري منها خاصّة، العديد من الأسئلة التي ما زالت مفتوحة لم تلقَ أجوبة، كجرح نازٍّ بلا توقّف. أحد أهمّ هذه الأسئلة، هو سؤال الوطنيّة كمفهوم وكتطبيق عملي على أرض الواقع.

لقد غيّرت هذه الثورات الكثير من المعتقدات، بل والكثير من المسلّمات، التي أخذت عبر عقود من الزمن شكل المفاهيم النهائيّة التعريف. لقد تباينت على الدوام النظرة إلى مفهوم الوطنية عند شعوب الدول العربية، كما وعند أنظمتها. كذلك كان هناك تباين كبير في فهم هذا المصطلح عند أتباع الإيديولوجيات المختلفة، الدينية والقومية وحتّى المذهبيّة منها. هذا ما أظهرته بكلّ وضوح الاصطفافات الرهيبة للقوى المجتمعيّة المختلفة، بعد انحسار موجات ثورات الربيع العربي الأولى، خاصّة منها تلك التي كانت سلمية الطابع.

لقد كانت الأنظمة على اختلاف طبيعتها، تعرّف الوطنيّة على أنّها الخضوع للحاكم

لقد كانت الأنظمة على اختلاف طبيعتها، تعرّف الوطنيّة على أنّها الخضوع للحاكم، هذا هو التعريف المشترك بين جميع أنظمة الحكم في الدول العربيّة وحتّى في بعض دول الجوار التي ابتليت بعدوى الاستبداد. لقد كانت مقاربة الحكّام على الدوام، توحّدُ وتماثلُ بين جهاز الدولة ونظام الحكم، بل بين مفهوم الدولة ومفهوم الوطن وبين الفئة الحاكمة (العسكر في مصر والجزائر والسودان كمثال) أو بينها وبين الفرد (الرئيس أو الملك في سوريا وليبيا والمغرب والسعوديّة...إلخ).

بينما كان للشعوب نظرة أخرى، فمنها من كان يعتبر الإخلاص للأمّة العربيّة كاملة من المحيط إلى الخليج هو انتماؤه الوطني، فيما كان يعتبر آخرون أنّ الأمّة الإسلاميّة هي مبتغاه وحدود فكرته عن الوطنية. من النادر العثور على من فكّر بالدولة القطريّة كمفهوم نهائي لحدود فكرة الوطنية، وعمل عليها، ونجد هذا في العقل السياسي للجماعات كما في عقليّة وتفكير الأفراد عموماً. لقد كان – وما يزال- الخلط واضحاً بين مفاهيم مختلفة تماماً عن بعضها البعض.

لم يتبلور مفهوم الوطنيّة بسبب عدم تبلور مفهوم الوطن، وكلاهما يعتمدان على مفهوم أوّلي غائب عن بلداننا، أي مفهوم المواطنة. الناس في بلداننا رعايا وليسوا مواطنين، والرعايا لا يحتاجون لأكثر من راعٍ، بينما المواطن له حقوق وعليه واجبات ويتنعّم بالقيم العليا للعقد الاجتماعي المتوافق عليه بين أبناء الوطن الموجودين على أراضي الدولة المعيّنة، وثمّة دستور سيّد يحمي هذه القيم العليا والحقوق والواجبات، وثمّة أجهزة مستقلّة تنفّذ وتراقب وتحاسب من يخرق هذه الحقوق والواجبات، وهذا كلّه في بلداننا مجرّد أضغاث أحلام.

لنذهب إلى أمثلة واقعيّة بعيداً عن المصطلحات والمفاهيم المجرّدة. ماذا يمكننا أن نطلق من توصيف – بين وطنيّ أو لا وطنيّ – على من قبِل توجيه السلاح إلى صدور أبناء الوطن بداية، ثم إلى من قبل استقدام سلاح الميليشيات السوريّة واللا سوريّة، ثم إلى من طلب تدّخل سلاح دولي ضدّهم؟

ينطبق السؤال ذاته على من حمل السلاح دفاعاً عن نفسه وعرضه وعن خياره بالثورة، ثم على من قبل استقدام السلاح من الخارج، القريب والبعيد، الشقيق والغريب؟

أسئلة تحتاج إلى أجوبة واقعيّة، لا إلى مزاودات وشعارات، تحتاج إلى تعريفات جديدة للمفاهيم والمصطلحات، لا إلى التعمية على الواقع أو التغطية عليه بخطابات خشبيّة ممجوجة.

من يستطيع أن يقول لنا علناً، بكلّ جرأة ودون مواربة، من جهة المحسوبين على الثورة، أنّ السلاح والمال الذي وصل للعسكريين وللمدنيين على السواء كان مالاً لا وطنيّا، من يجرؤ على الكلام؟

من يستطيع بالمقابل، أن يصرّح من جهة المحسوبين على النظام، بأنّ ما تمّ استقدامه من سلاحٍ، لقتل الناس بأموالهم المسلوبة منهم ومن قوت أبنائهم ومستقبله، كان عملاً لا وطنيّاً بامتياز؟

لن تسمع منّا أي أمّ فقدت ابنها على جبهات القتال أي صوت نشاز بعد الآن، لقد فاض الكيلُ بالجميع. الأمّ أمّ، سواءٌ أكانت ثائرةً أم رماديّة أم مؤيّدة أم شبّيحة. لن يُقنع كلامُنا بعد الآن الجياع في سوريا، لن يقي كلامُنا أولئك المتجمّدة أطرافهم حدّ الموت من البرد، لن يهتمّ بتبريراتنا وتعريفاتنا أولئك الذين افترشوا ما تبقّى من أرصفة الشوارع والساحات.

لقد كذبنا على أنفسنا قبل أن نكذب عليهم، نحن من قبلنا كلّ هذا دون أن نصرخ في وجوه بعضنا كي نتوقّف عن بيع كلّ شيء. نعم، لقد بعنا كلّ شيء، وقلّة قليلة هي من حافظت على نقائها دون أن تتلوّث، وهذه القلّة موزّعة ما بين منفى الداخل ومنفى الخارج كما قال إلياس خوري ذات مقال.

ماذا جنى أبناء الثورة وماذا جنت حاضنتها الشعبية، من صواريخ التاو ومن سيّارات الدفع الرباعي ومن ملايين الدولارات، التي وصلت للقادة العسكريين ممّن يسمون أنفسهم قادة الجيش الحر أو قادة الفصائل الإسلاميّة؟

ماذا جنى أبناء النظام وحاضنته الشعبيّة، من جسر الدعم الإيراني، ومن أسراب الطائرات الروسيّة، ومن مليارات الدعم، التي قدّمها الحلفاء ومنظمات الأمم المتحدة المختلفة؟

ماذا بقي أمام من فقدت أو فقد بيته أو أرضه أو صيدليته أو مكتبه أو مصنعه أو مورد رزقه أيّاً كان؟ ماذا بقي أمام من فقدت أو فقد ابنه أو ابنته، أمّه أو أباه، أخته أو أخاه أو زوجه؟

ألم يبق سوى شبح الذلّ والمهانة والفَقد والفقر والعَوَز، بينما ينعم أمراء الحرب من كلا الطرفين بما جنته حرابهم وأياديهم القذرة وضمائرهم الميّتة؟

كلّ منّا يُطلقُ على موتاه تسمية شهيد، وبلا أدنى شكّ هناك فارق بين من ناصر الحق ومن ناصر الباطل، وبين من مات مظلوماً ومن مات ظالماً، وبين من مات حرّاً ومن مات عبداً، لكن هل بقي بيننا من يستطيع أن يفرّق بين هذا وذاك، أو من يستطيع أن يرسم لنا شكل وجه الحق وشكل قرون الباطل؟ 

لقد أضعنا الوطن يوم أضعنا البوصلة

لقد أضعنا الوطن يوم أضعنا البوصلة، وبالنسبة لكثيرين، وكاتب هذه السطور منهم، كانت البوصلة في اتّجاه الحق والحريّة والكرامة، عندما كانت بلا سلاح، ومن ثمّ عندما كان السلاح والذخيرة من حرّ مال الثوار ومن حرّ ذهب نسائهم، اللواتي ما بخلن به في سبيل الحريّة والكرامة. أمّا بالنسبة للطرف الآخر من هذه اللوحة المُدماة بخناجرنا جميعاً، فلم تكن يوماً هذه البوصلة إلّا نصلاً في قلب الوطن وقلب أهله، وعلى الأقلّ بالنسبة للكاتب أيضاً. 

ليست هذه دعوة للمساواة بين القاتل والضحيّة، أبداً، فالقاتلُ بيّنٌ والضحيّةُ بيّن. هذه صرخة في وجوهنا جميعاً كي نعرف أين نقف، وماذا جنينا، وماذا ينتظرنا. هذه كلمات وجبَ قولها منذ زمن ماضٍ بعيد، ولو قيلت في وقتها، لما وصلنا إلى ما نحن فيه الآن.

هل بقي شيء من الوطن أو من الوطنيّة؟