ليست رفات جندي ... إنها كرامة وطن

2019.04.07 | 00:04 دمشق

+A
حجم الخط
-A

لابد لي في البداية من توضيح مهم للغاية، يتعلق بالقوانين والأعراف والاتفاقيات التي أجمعت، واتفقت، عليها البشرية بعد فظائع الحروب وويلاتها، هذه القوانين المتعلقة بإعادة جثث الجنود القتلى في المعارك، ورفاتهم، واحترام حقوق الأسرى، وحمايتهم، وتجنيب المدنيين وقائع الأعمال العسكرية، وإسعاف الجرحى، ومعالجتهم... إلخ، من هذه القيم الإنسانية التي يجب التمسك بها والدفاع عنها، كائنا من كان الخصم، ومهما بلغت بشاعته، فهذه الاتفاقيات لم تأت ترفاً، بل كانت حاجة ملحة من أجل تقليل النتائج الكارثية للحروب.

في العاشر من حزيران 1982 وأثناء اجتياح القوات الإسرائيلية للبنان، وقعت معركة شرسة وعنيفة -حسب التصنيف العسكري لها- في منطقة البقاع الأوسط في لبنان، وتحديدا في منطقة السلطان يعقوب أو ما يسمى "بيادر العدس"، بين قوة من الجيش الإسرائيلي من جهة، وبين قوة من الجيش السوري، ومعه مقاومون وطنيون لبنانيون من جهة أخرى، (في تلك الفترة لم يكن حزب الله قد أعلن عنه).

وحسب الرواية الرسمية السورية فإن المدرعات الإسرائيلية حاولت التقدم عبر البقاع الأوسط اللبناني للسيطرة على الطريق الدولية التي تربط بيروت بدمشق، بهدف عزل القوات الفلسطينية واللبنانية (المقاومة الوطنية اللبنانية)، لكنها وقعت في كمين تسبب بخسارة فادحة وهزيمة أليمة لها، فانسحبت تاركة وراءها ثمان دبابات معطوبة، واثنتين بجاهزية تامة، وجثث ثلاثة من جنودها.

إن المدرعات الإسرائيلية حاولت التقدم عبر البقاع الأوسط اللبناني للسيطرة على الطريق الدولية التي تربط بيروت بدمشق، بهدف عزل القوات الفلسطينية واللبنانية (المقاومة الوطنية اللبنانية)، لكنها وقعت في كمين تسبب بخسارة فادحة وهزيمة أليمة لها

منذ ذلك اليوم، أي منذ 37 سنة، والحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تبحث عن هذه الجثث الثلاث لتستعيدها، وتحاول استعادة الدبابتين اللتين تم نقلهما إلى دمشق، وتمكنت في عام 2016 من استعادة إحدى الدبابتين، والتي كانت سوريا قد أهدتها إلى موسكو سابقا قبل انهيار الاتحاد السوفيتي، بموافقة من الرئيس الروسي الحالي بوتين، ومنذ أيام تم الكشف عن إعادة رفات الجندي الإسرائيلي "زكريا باومل" وأيضا عبر حليف إسرائيل الرئيس الروسي "بوتين".

بعيداً عن كل هذه التفاصيل، وبعيداً عن رمزية إهداء الدبابة الإسرائيلية في العلاقات العسكرية السوفيتية – السورية، وتفريط بوتين بها وبرمزيتها، فإن طريقة استعادة إسرائيل لرفات جنديها "باومل" فجّر لدى السوريين إحساسا بالقهر، وفتح السؤال الفاجع حتى أقصاه: ألهذا الحد تستباح كرامة السوريين، والوطن السوري، من قبل "الحكومة السورية" وحلفائها، بينما تتباهى إسرائيل باستعادة رفات جنديها بعد 37 سنة؟

لا يمكن لدولة تحتقر شعبها ومواطنيها، وتجرعهم الإذلال والمهانة في كل تفاصيل حياتهم اليومية، أن تنتصر مهما تكن القضايا التي تتبناها عادلة، وهذه الدولة لا تحتاج إلى مؤامرات، ولا تحتاج إلى جواسيس أو مخربين أو.. لتنهار، فهي ستنهار حكما، لأنها ستتآكل من داخلها، وتظل تتآكل حتى يأتي حدث عابر ليجعل منها خرابا كاملا.

لعل أهم ما فعلته الثورة السورية أنها عرّت حتى النهاية السلطة الأسدية التي تحكم سوريا منذ خمسة عقود، وكشفت البنية العميقة لها، وكشفت أيضا إلى أي حد تقيم اعتبارا للوطن السوري، أو للشعب السوري وكرامته وانتصاره واسترجاع حقوقه.

لم تكن قصة الجندي الذي استعيدت رفاته وحدها هي الفاجعة للسوريين، والمهينة لكرامتهم، ولذاكرتهم، ولتاريخهم، بل سبقها قبل أيام توقيع الرئيس الأمريكي "ترامب" على قرار بمنح إسرائيل سلطة مطلقة على هضبة الجولان السورية المحتلة، والفاجع ليس هو الموقف الأمريكي، فهو موقف معلن منذ زمن طويل، لكن الفاجع هو كيف تعاملت هذه السلطة "الأسدية" مع الحدث، وكيف جعلت قسما من السوريين مجرد بهلوانات في مهرجان سيرك سخيف، يدبكون، ويرقصون، ويزيحون الستار عن صورة لرئيس لا يعرف معنى الكرامة، ولا معنى الوطن.

لم تكن قصة الجندي الذي استعيدت رفاته وحدها هي الفاجعة للسوريين، والمهينة لكرامتهم، ولذاكرتهم، ولتاريخهم، بل سبقها قبل أيام توقيع الرئيس الأمريكي "ترامب" على قرار بمنح إسرائيل سلطة مطلقة على هضبة الجولان السورية المحتلة

لا يمكن لعاقل أن يتجاهل أن من يصنع التاريخ، وأن من ينتصر هي الشعوب، وأن الإنسان هو حجر الأساس في قيام أي دولة، أو حضارة، فلماذا إذا كرّس حافظ الأسد، ومن بعده ابنه، كل جهودهم، واستعانوا بخبرات أجنبية لكي يحطموا الإنسان السوري، ولكي يضعفوا المجتمع السوري، ولكي يهدموا كل ما يمكنه أن يحمي السوريين في وجه أي عاصفة تجتاح وطنهم؟

 ليس الجواب بهذه البساطة، وليست "الخيانة" هي الاختصار المكثف للجواب، إنها أبعد من هذا بكثير، وما فعله حافظ الأسد بسوريا، وابنه من بعده لن يعيد رفات الجنود الإسرائيليين، ولا دباباتهم وحسب، إنه سيوصل سوريا إلى ما هو أدهى وأقسى.

بالتأكيد إن بشار الأسد لن يتذكر اسما واحدا من أسماء الجنود السوريين الذين استشهدوا في معركة السلطان يعقوب، ولن يتذكر اسما واحدا من أسماء الأبطال السوريين الذين خاضوا معركة صنفت من أشرس المعارك العسكرية، وانتصروا بها في ملحمة ستبقى في ذاكرة السوريين المجيدة، لكنه بكل تأكيد يحفظ أسماء الجنود الإسرائيليين الثلاثة كما يحفظ اسمه، واسم أبيه، فهل يكفي هذا لكي نفهم ونعرف الحقيقة العميقة لهذه السلطة التي تحكم سوريا؟

ليس أمام السوريين، ولا أفق لهم، ولا مستقبل إن لم يسقطوا هذا "النظام الأسدي" بكل رموزه وتفاصيله، فما أهداه ترامب لإسرائيل ليس توقيعا استعراضيا تافها، وما أهداه بوتين لإسرائيل ليس رفات جندي، إنهم يحاولون إهدار كرامة الشعب السوري، وتاريخه، ومقومات وجوده، ومستقبله.

كلمات مفتاحية