لماذا انتهى الفكر القومي إلى الفاشستية؟

2018.08.21 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

كان من الطبيعي أن تُحدث الثورات العربية التي انطلقت في المنطقة العربية عام 2011 هزات عنيفة على الفكر العربي وعلى الجدالات بين المثقفين والمفكرين والصحافيين العرب، ومن المهم في الحقيقة تتبع هذه الجدالات وتحولاتها، لأنه بشكل أو بآخر تكشف عن مصائر الفكر العربي وتحولاته في لحظة مصيرية مثل الثورات التي لم تحدث منذ حصول كل هذه الدول على استقلالها من الاستعمار في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.

يمكن القول إن اليسار العربي انقسم بشكل عميق فيما يتعلق بموقفه من هذه الثورات، فإذا أخذنا بعين الاعتبار أن اليسار العربي بمجمله خضع لهوة عنيفة مع سقوط الاتحاد السوفيتي أدى إلى انشطاره بين تيارين رئيسيين: الأول قام بمراجعة فكرية جذرية وعميقة انتهت به أقرب إلى الفكر الليبرالي المدافع عن حقوق الإنسان والمواطنة بوصفها قيما رئيسية لا بد أن يتمتع بها الإنسان في بلد المواطنة والكرامة، والقسم الثاني أصبح أكثر يسراوية وجذرية في بناء فكره على جملة من المخاصمات الفكرية الحدية، فهو ضد كل ما له علاقة بأمريكا أو يقترب منها، وهو ضد كل ما له علاقة بالإسلام وقيمه وعلى ذلك ولدت خلطة عجيبة غريبة من المثقفين اليساريين الذي اتخذوا مواقف غريبة من الثورات العربية بوصفها مؤامرة إمبريالية، وآخرون دعموا حزب الله الإرهابي بوصفه "مقاومة" بغض النظر عن الجرائم التي يقوم بها ضد المدنيين السوريين بشكل يومي.

المثقفون الإسلاميون بحكم كونهم يمثلون المعارضة الرئيسية للأنظمة العربية في الثمانينيات والتسعينيات كانوا الأكثر ترحيبا بالثورات العربية

أما المثقفون الإسلاميون وبحكم كونهم يمثلون المعارضة الرئيسية للأنظمة العربية في الثمانينيات والتسعينيات فكانوا الأكثر ترحيبا بالثورات العربية وانخراطاً بها على أمل أن يحصدوا نتائجها، لكن اختلافاتهم الفكرية واتساع طيفهم من داعش إلى الإخوان المسلمين وضعهم جميعاً في خانة الاتهام وبالرغم من الفرق الكبير من بعض التيارات في قناعاتها وتفكيرها فإن الإسلاميين يجب أن يقوموا بالمراجعة الضرورية من أجل القبول بالديمقراطية كحل نهائي للأزمات السياسية العربية، والتفريق بين الدين كحق شخصي وبين استغلاله في المجال العام لآراء سياسية.

أما التيار القومي فكان برأيي الخاسر الأكبر، ففضلاً عن كونه قد اضمحل مع موت عبدالناصر وقبلها هزيمة حزيران 1967 فإنه أصبح مطية لشخصيات دكتاتورية لاستلام الحكم من الجزائر إلى العراق مع صدام حسين إلى سورية مع حافظ الأسد، ولذلك أصبح الفكر القومي في دائرة الاتهام ولم يستطع رغم الإمكانيات الكبيرة التي سخرت له على المستوى الرسمي إلا أن يصبح واجهة لأنظمة استبدادية لم تحمل يوماً أي مشروع وطني سوى مصالح شخصية في البقاء بالحكم مهما كانت التكلفة الإنسانية لهذا البقاء.

وكانت الثورات العربية فرصة لهذا التيار لتجديد نفسه، خاصة مع ازدياد الشعور والانتماء العروبي بين المواطنين العرب في بلدان الثورات العربية من المشرق العربي إلى المغرب العربي، شعور دفع الجميع للخروج إلى الشوارع بوحدة عربية نادرة لم تتكرر في التاريخ، لكن الفكر القومي كان في واد آخر تماماً، فالحزب السوري القومي الاجتماعي اعتبر كل هذه الثورات مؤامرة على المنطقة العربية واتخذ مواقف بمنتهى الغرابة في دعم نظام الأسد والمشاركة معه في قتل السوريين.

والتعبير الأجلى عن هذا السقوط المدوي للفكر القومي تجلى في مركز دراسات الوحدة العربية الذي يعتبر الواجهة الفكرية والثقافية لهذا التيار، يكتب خير الدين حسيب المدير العام السابق للمركز في افتتاحية له في مجلة المستقبل العربي العدد 457 بتاريخ آذار/مارس 2017 بـ"ضرورة إلغاء تجميد عضوية سورية في الجامعة العربية" وقد جمدت عضويتها بسبب رفض النظام السوري التعاون مع توصيات المبادرة العربية بوقف القتل وإطلاق سراح المعتقلين والسماح بالمظاهرات السلمية عام 2012،

طبعا النظام السوري قام بجرائم أشد وأكثر اتساعا وخطورة مثل استخدام السلاح الكيماوي أكثر من مرة ضد المدنيين السوريين، لكن حسيب لا يتوقف عن ذلك وإنما حجته تقوم على التساؤل "هل سورية هي البلد العربي الوحيد الذي قد يكون فيها النظام غير ديمقراطي" ولذلك برأيه لابد للجامعة العربية من "أن تتراجع عن جريمتها حول التعليق القانوني لعضوية سورية".

بما أن كل الأنظمة العربية غير ديمقراطية ودكتاتورية فلا بأس أن نضيف لها واحداً آخر

حجة حسيب "المنطقية" و"العقلانية" هي أنه بما أن كل الأنظمة العربية غير ديمقراطية ودكتاتورية فلا بأس أن نضيف لها واحداً آخر، بدل أن تعتمد حجته على محاولة دمقرطة الجامعة العربية كي تلعب دور الاتحاد الأوروبي في توجيه عملية التحول الديمقراطي في أوروبا الشرقية، وبحسب رأيه إذا الكل سيئ والوعاء مليء بالقطران لا مانع أن نضيف "زفتاً" آخر كالنظام السوري، بدل محاولة إصلاح الجامعة كآخر حصن لفكرة النظام الإقليمي العربي.

لكن الفكر القومي في الحقيقة لا يتوقف عند هذا الحد بل يصل إلى مستويات لا يمكن تصديقها من الفاشستية وتأييد العنف الجماعي عبر تأييده لفكرة امتلاك ما يسميه "المقاومة" يعني هنا تحديداً "حزب الله الإرهابي" لسلاح الدمار الشامل بل واستخدامه إذا دعت الحاجة.

يكتب الوزير السابق عصام نعمان في افتتاحية أخرى له في المستقبل العربي العدد 468 شباط/فبراير 2018 لابد أن تكون "لأطراف المقاومة قدرة وازنة على تصنيع أسلحة الدمار الشامل، وعلى إشعار العدو بوجودها توخياً لتفعيل عامل الردع كما لإشعاره بالإرادة الحاسمة لاستعماله بلا تردد" ولذلك لم نجد من الغرابة أن يستجيب النظام السوري بوصفه جزءا من محور المقاومة لهذا النداء ويستخدم سلاح التدمير الشامل ضد "أعداء المقاومة" الذين هم في هذه الحالة الشعب السوري.

لقد انتهى الفكر القومي إلى نهايات فاشستية لا حدود لها في الفكر والممارسة على حد تعبير المثقفين الماركسيين، والتفسير العملي لذلك سيكون أكثر عنفاً ودماً حتى يستطيع الفكر الديمقراطي أن ينتصر ويقوم بالموازنة المطلوبة، وأن حقوق الإنسان وكرامته هي من يصنع المجد للأوطان وليست الأيديولوجيات التي تبرر قتله وسحقه.