لعنة الطُرق 

2018.08.15 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

كان أستاذنا عبد الله برغل يقول مباهياً: "بإمكانك السفر مباشرة من سراقب إلى أي عاصمة في العالم"، في إشارة إلى وقوع سراقب على أهم الطرق المحلية والدولية، فهي عقدة تربط حلب بدمشق واللاذقية عبر أوتوسترادين، ومنها تمر طرق التجارة البرية إلى تركيا وأوروبا من جهة، والأردن والخليج العربي ومصر من جهة أخرى. 

هذه النعمة التي خصَّ بها حافظ الأسد سراقب مطلع السبعينيات، عند إنشاء أوتوستراد حلب دمشق، لم تكن نظير محبة أو حظوة، بل انتقاماً من مدينة إدلب – وفق ما يقول لنا المعاصرون للمرحلة- حيث قرر الأسد الأب وقتها تهميش إدلب وإقصاءها، فحوّل الطرق الرئيسة عنها، عقوبة لأهلها على رميهم إياه بالبندورة والأحذية حين زار المدينة في إطار جولته على المحافظات عندما كان رئيساً للوزراء مطلع العام 1971.

إلا أن النعمة سرعان ما تحولت إلى نقمة، في عهد الأسد الابن، الذي يتصرف في سوريا تصرف الذي ورث الأرض ومن عليها، وبات مصير سراقب وأخواتها رهناً بالطرق التي توليها روسيا الأهمية القصوى في هذه المرحلة، إذ تشترط فتح طرق التجارة أولاً وتحييد "المتشددين" ثانياً، لتجنيب إدلب مصيراً أسود ومعركة تهدد حياة نحو أربعة ملايين سوري يحتمون فيها كملاذ أخير.

مدير دبلوماسية بوتين يقترح على تركيا تقاسم السيطرة على شبكة الطرق الدولية التي تمر بإدلب وريف حلب الشمالي

الأخبار التي رشحت عن أهداف زيارة لافروف لأنقرة، أمس، تفيد بأن مدير دبلوماسية بوتين يقترح على تركيا تقاسم السيطرة على شبكة الطرق الدولية التي تمر بإدلب وريف حلب الشمالي الملاصق، فتتبنى تركيا فتح طريق باب السلامة – مورك، وحمايته وضمان تدفق السلع منه، في حين تسيطر روسيا على الطريق الدولي من بلدة معردس بحماة حتى معبر نصيب الحدودي مع الأردن، وبذلك يُفتح طريق التجارة البري بين أوروبا وتركيا والأردن والخليج العربي، ما يعطي دفعة معنوية واقتصادية كبيرة للنظام والقوى المسيطرة معه، ويهمّش أي دور للمعارضة، بل ربما يجعل من بعض فصائلها حارساً لأمن تلك الطرق، في ما يبدو تحقيقاً لمصالح الدول المسيطرة على القرار السوري، وصولاً إلى تفاهم نهائي على مصائرنا، ننتظره ولا نملك منه شيئاً.

استعجال التطبيع الاقتصادي من قبل الأصدقاء والأعداء، يرجح كفة النظام وحلفائه ويسرّع وتيرة التطبيع السياسي الذي سيكون تحصيل حاصل عندما يقول الاقتصاد الكلمة الفصل، ومن هنا سنجد أن معبر نصيب مع الأردن سيتم افتتاحه قريباً جداً، وهو إن تنفس الاقتصاد الأردني منه برئة واحدة، فإن اقتصاد الأسد سيتنفس برئتين، اقتصادية وسياسية، وها هي شركات النقل البري في السعودية تنتظر ساعة الصفر لإطلاق رحلاتها مباشرة إلى دمشق، حاملة الركاب والتطبيع، من بوابة التيسير والتوفير، غير آبهة بالدماء التي ستمر عليها العجلات قبل أن تجف، وتساهم في طمس معالمها وانتهاك قدسيتها. 

ثمة طرق أخرى، لا يمكن إغفال دورها في تسريع فتح طرق التجارة ورهن مصائر السوريين

وثمة طرق أخرى، لا يمكن إغفال دورها في تسريع فتح طرق التجارة ورهن مصائر السوريين بها، وهي طرق الوهم التي باعها الغرباء والمتشددون والمُستورَدون للسوريين، فكما أن طريق "حسن نصر الله" إلى القدس تمر من القصير وحلب، فإن طريق "المتشددين" وبائعي الأوهام وتجار الدين إلى القدس وروما تمر من إدلب، وهم الذين انكمشوا فيها وأرادوا تحويلها "إمارة" طرفية يستبدون بها ويحكمون بالشعارات التي حكم بها نظام الأسد السوريين طوال أربعة عقود، مع الاستعاضة بالشعارات الدينية عن تلك القومية. 

وبهذا تكون معركة إدلب الأخيرة، معركة طرق، حقيقية ووهمية، وهي طالما كانت كذلك عبر التاريخ، إذ إن إدلب تشكل أحد أهم البوابات الشمالية لسوريا وما وراءها، ولا بد من التحكم بها – حرباً أو سلماً- لولوج سوريا الداخلية والجنوبية، إلا أن الثمن هذه المرة لن يكون بخساً في منطقة أثبتت أنها الأشد عناداً والأكثر إصراراً على امتلاك ناصية قرارها، وإن هادنت إلى حين.. وإن سيناريو 1971 ليس ببعيد.