لبنان المتاجر بنكبات العرب

2019.07.18 | 00:07 دمشق

+A
حجم الخط
-A

مشكلة اللبنانيين، أنهم لا يعرفون بلدهم، ولا حقيقة مقدّراتهم. ومشكلتهم أيضاً في محاولاتهم للتعالي على من هم في محيطهم من مجتمعات وشعوب، في رهان استنساخي "للتغرّب" نسبة للتأثر بالغرب، وبالتالي يتعالون عن أبناء المجتمعات المحيطة، أو بمعنى أوضح، يترفّعون عن العرب.

ومن لا يريد أن يعرف أو يعترف بحقيقة مشكلته التي تكمن في ذاته، يضل الطريق ويفقد الصواب. تلك المشكلة اللبنانية المزمنة والتي تأصلت في نفوس اللبنانيين على اختلاف تنوعاتهم، لها اعتباراتها المتعددة، أساسها تأثرهم بجانب أحادي من الثقافة الفرنسية، التي تتعارض مع روحية فرنسا الثورة، وتلتقي مع فوضوية اليمين الفرنسي المحافظ. هذه التجربة التي استهوت اللبنانيين وليس الثورة الفرنسية.

وهذا ينعكس في آلية تعاطي اللبنانيين مع بعضهم البعض، على قاعدة الانقسامات الشعبوية فيما بينهم، وينعكس في آلية تعاطيهم مع أبناء الدول المحيطة، خاصة الفلسطينيين والسوريين. وهنا تتفاوت النظرة للفلسطينيين والسوريين من الناحية الطبقية، بحيث يحظى الثري باحترام فائق، ويُشعره اللبناني بدونيته التي تحتاج إلى أن يعوّض عنها مالياً. فيكون

ما يعانيه اللاجئون السوريون في لبنان هذه الأيام، هو نفسه الذي ما يزال يعانيه اللاجئون الفلسطينيون

الحق للأثرياء بالتجنّس أو التملك وفتح الاستثمارات، ولا يكون للفقير حقّ الاحترام حتى، ولا بد من التضييق عليه. وهذه ترتبط بطبائع نفسانية، يحتاج فيها اللبنانيون إلى ممارسة قوتهم على من هو مستضعف.

ما يعانيه اللاجئون السوريون في لبنان هذه الأيام، هو نفسه الذي ما يزال يعانيه اللاجئون الفلسطينيون، والذين تتجدد الحملات عليهم هذه المرّة من بوابات متعددة، فهم ممنوعون من التملك ومن أي حق بالعمل، مخافة حصول توطين يؤدي إلى اختلال في الميزان الديمغرافي، بمعنى أوقح لبنانياً، مخافة أن يزداد المسلمون على المسيحيين. هذا المنطق، لا يستقيم لدى اللبنانيين بالنسبة إلى حملات تجنيس الأرمن مثلاً، والذين اليوم ومن سخرية القدر وشدائده يخرجون بمواقف وتحركات يدينون فيها استقبال اللاجئين. كما أن هذا المنطق لا يستقيم مع حملات تجنيس متعددة لرؤوس أموال عربية سورية وعراقية وفلسطينية حصلت قبل عقود، وكان أصحابها من غير المسلمين.

المشكلة على طوائفيتها، لها أسباب أخرى أيضاً، ترتبط بالمال والاقتصاد. خاصة أن الثقافة اللبنانوية التي ترتكز على مفهوم التغنّي بـ"الفنيقية" أو الفينقة، وهو مفهوم بحقيقته يلخّص حقيقة واقعية تخلص إلى أن اللبناني ارتضى لنفسه ولموقعه الجغرافي أن يكون محطة ترانزيت، تستفيد من الداخل والخارج، وبمعنى أصرح، إن اللبناني يريد لنفسه أن يلعب دور "المنشار" الذي يأكل كيفما تحرّك، صعوداً ونزولاً. ولذلك جزء أساسي من القدرة الاقتصادية للبنان، قامت على الاستثمار بنكبات العرب، وهو الذي يعلن اليوم رفض استقباله للاجئين أو يطالب بالتعجيل بإخراجهم خوفاً من التوطين، ارتكزت ماليته العامة على الدعم المالي الذي قدّم لهؤلاء وللدولة اللبنانية بسبب وجودهم منذ العام 2011، وهم الذين وفروا للبنان استقراراً أمنياً طوال فترة تفجّر الأوضاع في سوريا. تماماً كما كان لبنان يستثمر باللاجئين الفلسطينيين والمساعدات التي تصلهم، بالإضافة إلى استثماره بقدرتهم العملية وبرؤوس أموالهم.

لدى هجرة الفلسطينيين إلى لبنان والتي بدأت ما قبل العام 1948، اصطحب الكثير منهم ثرواتهم ومقدراتهم، أما الباقون فكانوا عبارة عن أصحاب خبرة بمختلف المجالات. وحصلت عمليات تجنيس الكثيرين خلال النكبة، لأنهم أصحاب رؤوس أموال، وقد علم الفلسطينيون في لبنان تاريخياً، بمختلف المجالات كقطاع الصيرفة، التأمين، والمصارف، وهذه كلها كانت شبه منعدمة في لبنان بتلك الفترة، تفاعلت ثرواتهم مع الانضباط والخبرة المهنية، فجرى نقل ما يفتقده المجتمع اللبناني لتسريع تطوره.

لعب الفلسطينيون دوراً مباشراً في نهضة الاقتصاد اللبناني، وفي تلك الفترة سعى الموارنة في لبنان إلى استقطاب اللاجئين، وكان الهدف هو استفادة البرجوازية اللبنانية من اليد العاملة الفلسطينية في القطاعات الاقتصادية، فجرى استخدامهم بلا أي ضمانات أو تأمينات تستلزم فرض ضرائب على أصحاب رؤوس الأموال.

ما بعد النكبة الفلسطينية، استفاد لبنان من انتقال الحركة التجارية من مرفأ حيفا إلى مرفأ بيروت الذي تحول إلى قاعدة التبادل التجاري في المنطقة عبر العالم. في مرحلة اتساع النمو اللبناني، وبعد أن طال بقاء الفلسطينيين، نما العمل الفلسطيني في القطاع المصرفي اللبناني، في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات. سواء عبر عدد من المصارف الفلسطينية، كالبنك العربي، بنك بيروت للتجارة، بنك الاتحاد العربي الذي أسسه أنيس البيبي وكان فلسطينيا مجنساً وكان نائب رئيس جمعية مصارف لبنان. والأهم فيما بعد كان بنك انترا الذي أسسه يوسف بيدس. والذي لعب دوراً واسعاً جداً، في الاقتصاد. هذا إلى جانب مرافق أخرى، ككازينو لبنان، وأوتيل فينيسيا، استوديو بعلبك الذي كان أهم وحدة إنتاج فني في لبنان بحقبة الستينيات، كما ساهم في تطوير شركة طيران الشرق الأوسط التي أنشأها الرئيس الراحل صائب سلام.

يوم تعرّض بنك انترا لأزمة في لبنان، رفض المصرف المركزي دعمه، وحينها ثمة مفارقة تجلّت بأن نائب حاكم المصرف المركزي وهو أرمني قد قال إن لبنان لا يريد هذا البنك لأنه رأس مال غريب. كان لانهيار البنك تأثير سلبي على الوضع الاقتصادي في لبنان، وكان أول عجز في الميزان التجاري في العام ١٩٦٦ جراء انهيار بنك انترا. ولكن في حرب ال ٦٧ أقفلت قناة السويس فأصبحت واردات الخليج العربي تمر عبر بيروت، ما أدى إلى تجدد الانتعاش وتجنّب حصول انهيار.

لعبت اليد العاملة الفلسطينية المدربة دوراً كبيراً في تنشيط القطاع الصناعي. وهذا ما توضحه خارطة المخيمات التي قطنها الفلسطينيون، فالمخيمات في جنوب لبنان كانت بفعل عمل الفلسطينيين حوالي ١١٠ آلاف فلسطيني في القطاع الزراعي. أما المخيمات في بيروت وتحديداً في تل الزعتر والدكوانة، كانت بالقرب من المناطق الصناعية، وهم استقدموا إليها بقرار من القيادة السياسية المسيحية، للاستثمار بهذه الأيدي العاملة، التي لا يتوجب عليها أي عبء أو تكاليف.

استفاد لبنان نفطياً من النكبة الفلسطينية، إذ ما قبلها كان هناك خطان الأول من كركوك إلى حيفا، والآخر من السعودية إلى حيفا. بعد ١٩٤٨ خط آرامكو أصبح يصب في الزهراني، وخط كركوك يصب في شمال لبنان. هناك قطاعات لم يكن يعرفها اللبنانيون قبل ال ٤٨. كقطاع التأمين، شركات التدقيق والمحاسبة، الشقق المفروشة. وهذا لا ينفصل عن الدور الريادي

بعد النكبة، انتقل لبنان من اقتصاد زراعي حرفي، إلى قطاع خدماتي بحيث وصلت نسبته من الاقتصاد اللبناني ما يتخطى ٦٨ بالمئة

الذي لعبه الفلسطينيون في قطاع التعليم لا سيما الجامعي منه، بالإضافة إلى مجال الموسيقى والغناء، كحليم الرومي، محمد غازي الذي درب فيروز على الموشحات وغنى معها يا وحيد الغيد. صبري الشريف الذي استلم كل مسرحيات الرحابنة، وتولى البرامج الموسيقية في الإذاعة اللبنانية. وهو الذي قامت على أكتافه فكرة تمدين الغناء الريفي.

بعد النكبة، انتقل لبنان من اقتصاد زراعي حرفي، إلى قطاع خدماتي بحيث وصلت نسبته من الاقتصاد اللبناني ما يتخطى ٦٨ بالمئة من الاقتصاد اللبناني، كما أسهم الفلسطينيون أيضاً في بناء القطاع العقاري، بحيث أسسوا كبريات شركات الهندسة.

لم ينشأ مطار بيروت إلا بعد إقفال مطار اللد. وتم توسيع مرفأ بيروت بعد إقفال مرفأي حيفا ويافا. كما استفاد لبنان من النكبة الفلسطينية مالياً واقتصادياً، استفاد أيضاً من مشكلات التأميمات والسياسات المغلقة في بعض الدول العربية، فهربت إليه رؤوس الأموال من العراق ومصر وسوريا، مستفيداً من قانون سرية المصارف وقانون الحساب المشترك، الذي عمل على تطوير الحياة المصرفية اللبنانية، ما ساهم في تدفق كميات هائلة إلى القطاع المصرفي اللبناني. وبالانتقال إلى حقبة الحرب الأهلية اللبنانية، فإن الأموال السياسية التي تلقاها الفلسطينيون كانت هائلة، وأسهمت في الحفاظ على الدورة الاقتصادية. وحتى ما بعد الحرب، بقي لبنان يعيش على الاستفادة من مشكلات الآخرين، ليس آخرها الأزمة السورية، التي تلقى بموجبها لبنان عشرات مليارات الدولارات كمساعدات للاجئين، كما استثمر في وجودهم لمجانبة أي اهتزازات أمنية أو سياسية أو اقتصادية. مشكلة اللبنانيين أنهم لا يعرفون بلدهم ولا مقدراتهم. وتقودهم مغالاتهم ليس إلى العنصرية أو التعالي فقط، بل ربما في مكان إلى انعدام الإنسانية إن لم نقل انعدام الاخلاق.