لبنان "الفاسد" ودولة "حزب الله" القوية

2018.07.15 | 00:17 دمشق

+A
حجم الخط
-A

بعد إعلان حسن نصرالله أن حزبه سيتولى مسألة إعادة اللاجئين السوريين من لبنان إلى سوريا، كان إعلانه التالي تشكيل هيئة حزبية ونيابية، رفيعة المستوى، لمحاربة الفساد في لبنان. وبما أن "حزب الله" شريك أساسي في الحكومات السابقة كما في الحكومة المقبلة، ولديه كتلة نيابية معتبرة، وينسج تحالفات عابرة للطوائف ما يضمن له السيطرة التامة على السياسات العامة، عدا عن "فائض القوة" الذي يملكه.. فهو الأقدر على تولي ملفات كبيرة كمسألة اللاجئين أو مكافحة الفساد أو تأمين الحدود أو رسم السياسة الخارجية. وهذه الوجهة الجديدة التي يسلكها الحزب، بالتوسع في إدارة مسائل "عامة" وقضايا "وطنية" مناطة أصلاً بالحكومة والوزارات وبالهيئات المنتخبة، تؤدي إلى تحول نوعي في مقولة "الدويلة داخل الدولة". ثمة انقلاب بطيء يحيل دويلة "حزب الله" إلى أن تكون هي الدولة الفعلية. أما جسم الدولة اللبنانية الرسمية فمصيره التحلل المؤلم والتفسخ الكريه.

ابتدأ مسار هذا الانقلاب منذ لحظة "حرب تموز" 2006، حين كان قتال إسرائيل، واستدعاؤها المدمر إلى الداخل اللبناني، مؤداه ضرب الدولة اللبنانية وحكومتها، والانقلاب العنيف على "انتفاضة الاستقلال" وعلى محاولة اللبنانيين الخروج من "محور الشر" أو ما يسمى "محور الممانعة". فما أن انتهت الحرب حتى فرض الحزب نفسه مسؤولاً أعلى عن "إعادة الإعمار"، وتولى هو دون الدولة اللبنانية التخطيط والإشراف على التنفيذ وفرض شروطه في كيفية صرف الأموال والهبات العربية والدولية، ممسكاً بالتالي أمور جماعته وعمرانها وموارد رزقها وتعويضاتها ومساكنها، ليؤكد أمامها قولاً وفعلاً نجاعته وفاعليته هو وهزال الدولة و"إهمالها". وفي الوقت نفسه، اتخذ قراراً استراتيجياً في الدخول إلى "النظام اللبناني"، فلا حكومة بعد اليوم من دون وزراء له، كما قرر الانخراط في مختلف المستويات الانتخابية، أكانت بلدية أو نيابية، وإدخال كوادره وأتباعه في مختلف الإدارات الرسمية المدنية والعسكرية والأمنية.

كذلك، في خريف عام 2006، حاصر "حزب الله" وأشياعه ومناصريه وخلاياه الأمنية المسلحة مقر الحكومة في وسط بيروت، الوسط الذي تم احتلاله وإقفاله نحو عامين ونصف عام. وتوّج اعتصامه وعصيانه في 7 أيار 2008، بغزوة عسكرية ميليشياوية للعاصمة، مهدداً بإشعال الحرب الأهلية وتجديدها. ولم تنته تلك المحنة إلا بما سمّي "اتفاق الدوحة"، الذي يمكن اعتباره "تعديلاً" مفخخاً لـ"اتفاق الطائف" (وثيقة الوفاق الوطني التي أنهت الحرب عام 1990). فاتفاق الدوحة كرس هيمنة "حزب الله" على لبنان وعلى سياساته العامة، من خلال حقه الدائم في تعطيل أي قرار وطني وسيادي لا يوافق عليه، إضافة إلى تكريس سلاحه كـ"مقاومة" مؤبدة إلى يوم القيامة.

في خريف عام 2006، حاصر "حزب الله" وأشياعه ومناصريه وخلاياه الأمنية المسلحة مقر الحكومة في وسط بيروت

وكما كانت حرب 2006 بوصفها طريق القدس تمر في وسط بيروت، كانت الحرب السورية بوصفها طريق القدس تمر في حلب. وإذا كان "النصر الإلهي" في الحرب الأولى تمت ترجمته في وضع اليد على السلطة بلبنان، فإن "النصر بسوريا" تتم ترجمته الآن بالاستحواذ على الدولة اللبنانية، بالمعنى التام لكلمة استحواذ. فالمنتصرون دوماً يريدون قبض الثمن. أما إذا كانت تلك "الانتصارات" على أرض الواقع عبارة عن كوارث لا يمكن تعويضها، فإن تغطية الحقيقة تتطلب أثماناً مضاعفة.

ما كان يمكن تغطية الأهوال التي جلبها "حزب الله" في حرب 2006 على لبنان وعلى أهل جنوبه خصوصاً وعلى بيئته الاجتماعية والطائفية، بذريعة استعادة أسيرين فقط للحزب في سجون إسرائيل. فهذا جنون محض. كان عليه تغطية الكارثة بتعويض سخي: الهيمنة الطائفية المسلحة على الدولة ومقدراتها. هكذا منح الحزب "الكرامة" للطائفة الشيعية. الكرامة التي تعني عملياً التسلط والترهيب والهيمنة على الطوائف الأخرى، في بلد ليس بمخيلته وهويته سوى الوعي الطائفي.

والآن، "يعود" الحزب من الحرب السورية (من دون الانسحاب)، وعليه أن يغطي تضحيات أبناء طائفته. عليه أن يمنح التعويض المناسب. الثمن ليس أقل من توسيع رقعة الدويلة وتقليص الدولة إلى أدنى حد ممكن. سيناريو أفضل بكثير من سيناريو حوثيي اليمن، ومن سيناريو "الحشد الشعبي" في العراق. فقوى الاعتراض بلبنان بائسة ومعظمها غارق في الفساد والتفاهة السياسية إلى حد الغثيان.

وعلى مثال الضفدع المستأنس في طنجرة ماء على نار خفيفة، سيموت سلقاً قبل أن ينتبه ويقفز، يغفل اللبنانيون عن تراكم الكوارث التي جلبتها هيمنة "حزب الله" على مصيرهم، من عزلة عربية سياسية وثقافية واقتصادية، إلى تهميش دولي يقارب الحصار "الناعم"، إلى تخريب عميق للنسيج الاجتماعي وللبيئة السياسية، وتزييف الوعي العام، والإمعان في إضعاف قيم الجمهورية والسلطات المنبثقة عن دستورها، وإلحاقها بنفوذه ومشيئته. عدا عن الأضرار الكبرى والفادحة بمقومات الاقتصاد اللبناني، كقطاع المصارف الذي يشهد منذ سنوات ضغوطاً دولية هائلة بسبب نشاطات "حزب الله" المالية، وكذلك القطاع السياحي الذي يعتبر واحداً من أهم روافد الاقتصاد المحلي.

النقمة المتولدة من القلة والشح، تتفاقم في لبنان مع استشراء الفساد على نحو مشين بما يشبه العار الوطني

النقمة المتولدة من القلة والشح، تتفاقم في لبنان مع استشراء الفساد على نحو مشين بما يشبه العار الوطني. وهو فساد استفحل كنتيجة حتمية وطبيعية لتحلل الدولة وفقدانها لسلطتها المعنوية والمادية أمام واقع الدويلة. وهو أمر واقع ارتأت الطوائف الأخرى إما مجاراته والتشبه به وإما مساكنته على مضض الضعف والهوان. فذهبت كل جماعة وطائفة إلى تحصيل ما يمكن تحصيله من تركة الدولة الرسمية وتناتشها فيما بينها. هكذا، بات نموذج "الطائفة القوية" مثالاً يُحتذى للطوائف الأخرى. لكن بغياب مقومات القوة، ليس لدى تلك الطوائف من حيلة سوى المزيد من الاستقواء على الجسم الأضعف: الدولة نفسها.

هكذا تتبرع الطوائف الأخرى وتساعد "حزب الله" في تهشيم الكيان والدولة، مقابل "غنائم" الفساد وصفقات النهب. وبهذا المعنى، يمكننا أن نطلق ضحكة صفراء عندما نسمع شعار "العهد القوي" الذي يرفعه مناصرو رئاسة الجنرال ميشال عون. يتناسى هؤلاء وقسم كبير من اللبنانيين الواقع الذي بات عرفاً أقوى من الدستور: ما من رئيس للجمهورية إلا بموافقة "حزب الله" وبتسميته. ما من رئيس للحكومة إلا بموافقة "حزب الله" وبتسميته. لم تعد هيمنة بالسلاح، بل بالتلاعب بهذه الطوائف الضعيفة، استتباعاً أو تهميشاً.

الحضيض السياسي وصل إلى حد أن نائباً واحداً مدعوماً من "حزب الله"، وعلى نحو يضرب الدستور بعرض الحائط، يمكنه تعطيل تشكيل الحكومة. بل إن تأليف الحكومة الجديدة عملياً ليس بيد "الرئيس المكلف" سعد الحريري، بل بيد حليف "حزب الله" الوزير والنائب جبران باسيل، الذي يمكن اعتباره أقوى شخصية سياسية مدنية في لبنان، بعد حسن نصرالله وبرضاه وبمشيئته. هو من يضع الشروط وهو الذي يساوم قبولاً أو رفضاً في كل ترسيمة الحكومة العتيدة.

وفيما ينغمس السياسيون اللبنانيون ومعهم طوائفهم في وحل التعارك على الحصص والحقائب والمكاسب، غارقين في أسن الانحطاط والتفاهة، يسع "حزب الله" أن يأخذهم جميعاً ولبنان كله إلى حيث يشاء، جحيماً وانحلالاً وفقراً. فهل من شعار مغرٍ أكثر من "محاربة الفساد"، الذي رفعه أخيراً هذا الحزب، المساهم الأول بخراب الجمهورية ومؤسساتها؟

سيحارب "حزب الله" الفساد إذاً.. لكن ما لا يعلمه اللبنانيون أن هذا الحزب، وفي صلب إيمانه وفكره السياسي والأيديولوجي، الفساد هو كل أوجه الحياة الحديثة، أكانت ديموقراطية سياسية أو ليبرالية اجتماعية واقتصادية.

ولنتذكر جميعاً، منذ موسوليني إلى أحمدي نجاد، كان طريق الطغيان والخراب مزيناً بشعار "محاربة الفساد" و"الدولة القوية".