كُبّة خيطان

2019.05.06 | 00:05 دمشق

+A
حجم الخط
-A

في القضية السورية تزدحم الأحداث، وتتشعب العناصر الداخلة والمتداخلة فيها، وتتنوّع الوجهات التي تأخذها، وتتمايز الاجتهادات في مقاربة كل ذلك إلى درجة تجعل التركيز على مسألة واحدة ضرباً من العبث.

واحدٌ يرى في الذي يحدث بإدلب استكمالاً لصفقة تمت بين ضامني "أستانا"؛ وها هي فصولها ومشاهدها تتداعى دماً ودماراً وتغريبة جديدة قوامها ما يقارب الأربعة ملايين مُهَجَر وساكن أصلي؛ فتسمع وترى اختلاط الدم بالدموع بالبراميل بالاتهامات باليأس بالنخوات بالتقريع. فذاك يرى "النصرة" مسبباً وذريعة، ويصبٌ جام غضبه عليها، ويشن هجوماً كلامياً مقرعاً لتركيا لعدم تنفيذها لما يفترض قد اتُفِق عليه، وآخر يتحدث عن ارتباط "النصرة" بإيران عبر "القاعدة"، وثالث يقول: "وهل تريدون إمارة متخلفة في القرن الواحد والعشرين؟!"

هناك من يركز على الاختناقات التي تعاني منها الأطراف الغازية؛ فالنظام الذي يتبجح بالسيطرة على كافة الأراضي السورية (في وقت يحتاج رأسه لإذن روسي أو إيراني ليقضي حاجته الخاصة) تتفلّت منه أي إمكانية لإدارة- ليس البلاد- بل الأماكن التي يسيطر عليها افتراضياً؛ والأزمة الاقتصادية والأمنية تكاد تلغي حتى العيش. وفي هذا الوقت بالذات يجد المبعوث الدولي في وجهه يطالبه بتطبيق القرار الدولي الذي يعرف بأنه

في الفريق الغازي أيضاً، هناك إيران التي يدفعها حصارها إلى تعطيل "أستانا"، ويستنفرها تناقض مصالحها مع مصالح الروس؛ فيكون الاتجاه نحو تأزيم وضع الآخرين كمتنفس وحيد

سيفضي إلى اقتلاعه. هذا إضافة إلى تراكم وصمات العار عليه في الجولان وفي قضية رفات الجندي وفي الكذب حول الموضوع؛ وكل ذلك مرفقاً بإحساسه بخيبة تسبب بها من راهن عليهم حقيقة لحمايته. وهنا لا يجد أمامه إلا النار والحديد والبراميل- والوجهة إدلب.

في الفريق الغازي أيضاً، هناك إيران التي يدفعها حصارها إلى تعطيل "أستانا"، ويستنفرها تناقض مصالحها مع مصالح الروس؛ فيكون الاتجاه نحو تأزيم وضع الآخرين كمتنفس وحيد. روسيا من جانبها- والتي فبركت "أستانا" أساساً لخنق مسار "جنيف"- تجد أن الأمور لن تستقيم معها إلا بالعودة الفاعلة إلى ساحة الميدان؛ وبذا تحرج تركيا بمسعى لتقويض علاقتها مع أميركا، ووضعها أمام الخيارات الأصعب؛ وبذا تحسن روسيا من الشروط السياسية بخصوص اللجنة الدستورية ملبية بذلك ابتزاز النظام، وتدفعه باتجاه مزيدٍ من التوقيعات والارتهان لاحتلالها. وهنا يفكر البعض: لماذا لم يقبل الغرب بعد أوراق اعتماد السيد بوتين رغم أنه قدم للربيبة إسرائيل ما لم يقدمه رئيس أميركي.... وهل رئيس أميركا بالمناسبة يتنافس مع بوتين عندما وقّع ذلك الكتاب المشؤوم بخصوص الجولان؟! وفي الحديث عن أميركا يرى البعض أن لا فرق بين إدارة "أوباما"، التي بدأ الصراع في سوريا في عهدها، وإدارة "ترمب" التي تبعتها. البعض يرى أن مؤدى سياسة "أوباما" في عدم الانخراط

وهناك من يفكر بالعرب الذين يسيرون كالسائمة بلا مشروع؛ والعالم من حولهم يتقاسم حتى عذاباتهم وأرزاقهم وأديانهم للفكاهة ولزيادة ثروته وتحكمه بمصيرهم

والسياقة من الخلف وضبط إيقاع المنخرطين في القضية، كانت للحفاظ على النظام؛ وآخر يرى أن مؤدى التذبذب وعدم الوضوح وبهلوانيات إدارة ترمب أيضا الحفاظ على منظومة الاستبداد الأسدية.

هناك من يوجه أنظاره إلى عمل من خارج مجلس الأمن لوقف التدهور الإنساني في سوريا. وهناك من يسلط الأضواء على الدور الأوروبي وثانويته. وثالث يبدأ بتقريع الأمم المتحدة وشللها، مركزاً على الدعم الإنساني الذي يُسرق والدعم الأمني الواهي.

وهناك أيضاً من يفكر بالعرب الذين يسيرون كالسائمة بلا مشروع؛ والعالم من حولهم يتقاسم حتى عذاباتهم وأرزاقهم وأديانهم للفكاهة ولزيادة ثروته وتحكمه بمصيرهم؛ وهم يستمرون بممارسة أفضل ما تميزوا به من كرههم لبعضهم البعض وإيمانهم بالمؤامرة في كل شيء.

وهناك رابع يصبّ جام غضبه على المعارضة ذاتها (ومعه كل الحق)، ولكن ينسى أو يتناسى كل الخناجر الأخرى؛ وخامس منشغل بتجميع الناس في ندوات أو منتديات أو مبادرات أو مؤتمرات؛ وسادس لا يفكر إلا بالخيام أو الهجرة أو العودة أو إعادة الإعمار او الجيل الضائع أو المعتقلين والمفقودين؛ وسابع بالكهرباء والغاز والمحروقات، وثامن يركّز على بيع الموانئ، وتاسع يرى بتركيا تصافق، وتتآمر على حقوقه؛ ورفيقه يرى فيها المثل الأعلى. وهناك من لا ينسى قطر وتآمرها، ورفيقه الذي يعتقد أن السعودية شريكة هامة في صفقة القرن، وذهاب سوريا فرق عملة في تلك الصفقة.

ولا يفوت من يتفحص الخريطة أن يطل على ضفة "الإخوة" الكورد ومظلوميتهم وعشرات أحزابهم والـ "بي كي كي" والـ"بي واي دي"، ومن مع الثورة، ومن مع النظام. ولا يفوته حتماً الحديث عن السويداء و"حياديتها" ورجال الكرامة وتهديدات "داعش" التي يهديها لها النظام بين وقت وآخر. وبالطبع لا يفوت البعض الحديث عن الثورة المضادة؛ والبعض الآخر الحديث عن عودة الحراك الثوري؛ وعن تأثيرنا على السودان والجزائر وتأثيرهما علينا. وبالطبع هناك حيّز هام للحراك الثوري وللثورة المضادة. وبالتأكيد لا ينسى المرور على القرارات الدولية، واللجنة الدستورية، وعدم إمكانية اختصار القضية السورية بهكذا مسألة هزيلة.

يقال إذا رمى مجنون حجراً في بركة، فإنك تحتاج كذا عاقلاً أو خبيرا ليخرجه؛ وإن فعل فِعلة شائنة، فإنك تحتاج كل عقلاء الكرة الأرضية لحلها. حقيقة الأمر القضية السورية /كبة خيطان/ لا تعرف أولها ولا تاليها؛ ولا هي تتفكك، ولا هي تتبخر، أو تزول. يُشْهَد لنظام الاستبداد بالبراعة أنه أوصلها إلى هكذا حال. على أي حال، هناك من يقول: لها حلّال واحد؛ إنه هو ذاته الذي قال: يا الله ما لنا غيرك......