icon
التغطية الحية

كيف يبدو الانتصار؟!.. رحلة لنيويورك تايمز  في سوريا المدمرة

2019.08.21 | 18:08 دمشق

صور قتلى لقوات النظام في شوارع اللاذقية (nytimes)
نيويورك تايمز - ترجمة وتحرير تلفزيون سوريا
+A
حجم الخط
-A

في زيارة استمرت لمدة ثمانية أيام، تمكن صحفيون من نيويورك تايمز من دخول سوريا ليكتشفوا أنها تحولت إلى ركام واتشحت بالسواد، رغم أن الكرم مايزال سمتها الغالبة، ولكن ما الذي اختفى فيها بعد ثماني سنوات من الحرب ؟ إنهم الشباب والطبقة المتوسطة.

في الطريق الذي سلكناه عبر أنقاض ضاحية دوما التابعة لدمشق؛ مر علينا بعض الوقت قبل أن نستوعب ما الذي اختفى من ذلك المكان.

ثمة نساء يحملن البقالة، بينما أخذ العجائز من الرجال يتجولون بدراجاتهم النارية، في الوقت الذي كان فيه بعض الأطفال الذين انتابهم نحول وهزال كبير يرفعون جرار ماء وينقلونها لبيوتهم.

لم يكن هنالك سوى عدد قليل من الشباب

لقد سرقت الحرب أعمارهم، بعدما أكل السجن شبابهم، أو تشردوا بعيداً عن سوريا. والآن بات يتعين على الناجين كأم خليل وهي جدة ذات وجه دائري بلغت التاسعة والخمسين من عمرها، أن يعوضوا عن غياب هؤلاء الشباب.

فقد قتل ثلاثة من أبنائها الذكور، وتعرض آخر للتعذيب في سجن للثوار، أما الخامس فقد اختفى في معتقلات النظام. وهكذا أصبح على كناتها أن يخرجن للعمل، بينما أخذت هي تربي أحفادها بغياب زوجها الذي قتل في غارة جوية.

وتحكي أم خليل التي تعيش في شقة تعود لمعارفها الأباعد، حيث يقيم من تبقى من أفراد عائلتها وتقول: "أجلس وأفكر في بعض الأحيان كيف حدث ذلك؟ كان لدي أبناء يعملون، كان كل شيء طبيعياً، وفجأة خسرتهم. كان لدي زوج، فقدته هو أيضاً. ليست لدي أية إجابات، فليسامح الله من كان السبب في كل ذلك".

ثم تنفجر باكية وتقول: "سواء أسامحتهم أم لم أسامحهم، ما الذي سيتغير؟ أتمنى لو أصل لمن دمر هذه المدينة، حتى أقتله".

الخراب والتعافي من الخراب موزعان بشكل غير متكافئ

بعد ثماني سنوات من الحرب، أصبح النظام الآن يسيطر على معظم المناطق في البلاد، ويبدو أنه أصبح قاب قوسين أو أدنى من السيطرة على محافظة إدلب آخر معقل للثوار يوم الثلاثاء الماضي.

أما مسألة انتصار بشار الأسد فلم تكن موضع شك في وقت من الأوقات، ولهذا أتينا نحن الصحفيون الثلاثة من صحيفة نيويورك تايمز إلى سوريا لنشاهد ذلك النصر بأم أعيننا.

في زيارتنا لخمس مدن وقرى تسيطر عليها حكومة النظام على مدار ثمانية أيام خلال شهر حزيران/يونيو، اكتشفنا الدمار جنباً إلى جنب مع الكرم، فالحزن يخيم على وجوه الناس وهم يكافحون طيلة اليوم، وكأن الشقاء قد تم توزيعه بالتساوي على الجميع، ليلقي بظله الأكبر على الفقراء وعلى المناطق التي سبق للثوار وأن سيطروا عليها، كما أن حالة التعافي والخروج من هذا الخراب أيضاً قد توزعت هي الأخرى ولكن بطريقة غير متساوية.

ففي العاصمة دمشق تم بناء مركز تجاري (مول) جذاب بقيمة 310 مليون دولار خلال الحرب، في منطقة لا تبعد عن الجبل الذي كانت قوات النظام تطلق قذائف المدفعية منه على مواقع الثوار. في ذلك المركز التجاري تسمع صدى صوت الكعب العالي لزبوناته وهن يتسوقن فيه.

أما في مدينة دوما القريبة، التي سيطر عليها الثوار طيلة الحرب، فقد ظل الماء الجاري حلماً أكثر من حقيقة. وفي معقل النظام بمدينة اللاذقية التي تقع على ساحل المتوسط، تبكي الأمهات فوق صور أبنائهن الذين قتلوا في الحرب. وبعد مرور أكثر من عامين على استعادة الأسد لمدينة حلب الواقعة شمال البلاد؛ نفضت المعامل والأسواق والبازارات القديمة عنها غبار الحرب، إلا أن وضع الكهرباء مايزال متقلقلاً بوجود فترة واحدة لتواجد التيار الكهربائي طيلة اليوم.

ليست البنية التحتية وحدها هي ما يحتاج لإعادة إعمار وبناء، إذ تفتقد سوريا التي رأيناها للطبقة الوسطى، لأن معظم أبناء تلك الطبقة هربوا منها أو هبطوا إلى درجة أدنى ضمن السلم الاقتصادي، حيث تقدر الأمم المتحدة وجود أكثر من ثماني أشخاص من كل عشرة سوريين يعيشون في فقر حالياً، أي يحصلون على ما يقل عن 3.10 دولار باليوم للشخص الواحد.

وحتى مع عودة النازحين بشكل تدريجي إلى الوطن، مايزال الشباب من الذكور يجبرون على الانضمام لصفوف الجيش، بينما يختفي المعارضون ومن يرتبط بهم في غياهب السجون. ولهذا مازال الناس يهربون من هذه البلاد، بالرغم من أن أعداد الهاربين باتت أقل بكثير مما كانت عليه عندما بلغت أعداد المهاجرين ذروتها.

 قابلنا سوريين وهم يقومون ما بوسعهم لملء الثقوب التي خلفها الرصاص في جدران بيوتهم، ولإطعام أولادهم وإيجاد مصدر رزق، دون اللجوء للمساعدات المخصصة لإعادة الإعمار المقدمة المانحين الأجانب.

ومع رحيل عدد كبير من الشباب، ألقيت هذه المهمة على عاتق كبار السن، واليافعين الصغار، لاسيما النساء، ومنهم نساء العائلات المحافظة اللواتي خرجن للعمل لأول مرة في حياتهن.

وحول ذلك تعلق أم عقيل وهي امرأة في الأربعين من عمرها من حلب الشرقية بالقول: "لم يخطر ببالي أني سأضطر للخروج للعمل في حياتي، لكن ذلك يظل أفضل من استجداء المال من الناس"، وتذكر لنا هذه المرأة بأن زوجها اعتقلته حكومة النظام ظلماً، لكنها تكافح الآن لتعيش، وأصبحت تدفع بناتها نحو التوجه للعمل بعد استكمال دراستهن في المدارس، وتقول: "حتى لا يواجهن المصير الذي لاقيته".

الأسد في كل مكان.. وكذلك أعوانه

أينما يممنا وجوهنا، لا يمكن لأحد أن ينسى من يتربع فوق هذا الدمار، ومن سيظل يحكم متربعاً فوقه طيلة الفترة القادمة.

"الأسد إلى الأبد": قرأناها على لافتة تحمل صورة الأسد، كغيرها من الكثير من اللافتات والصور المعلقة في طرقات سوريا وأزقتها وشوارعها.

كانت صورته ترفرف على اللافتات التي علقت على مداخل المدن التي تمت استعادتها، أخذ يراقبنا من بين ولاعات السجائر التي يعرضها بائع متجول على رفوف تحمل هدايا تذكارية في دمشق، وقد برز بوجهه بين داعميه وعلى رأسهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وزعيم ميليشيا حزب الله حسن نصرالله. وعند عبورنا لنقطة تفتيش تابعة للجيش؛ وجدنا ما لا يقل عن 13 أسد، كل منهم أخذ يحدق باتجاه مختلف وكأنهم مجموعة من كاميرات المراقبة.

كما أن داعميه كانوا دائماً حاضرين في رحلتنا.

ومنعت حكومة الأسد الكثير من زملائنا العاملين لدى نيويورك تايمز وغيرها من المنابر الإعلامية الإخبارية من إعداد تقارير اعتبرتها نقدية وصريحة للغاية، واستغرق أمر الحصول على إذن بالدخول لثلاثة منا، وهم أنا المراسلة المقيمة في بيروت، والمترجم الفوري اللبناني والمصورة الأمريكية ميريديث كوهوت ستة أشهر تقريباً.

غير أن الحصول على فيزا/سمة دخول لا يعني القدرة على التجول بحرية في تلك البلاد.

إذ في كل مكان ذهبنا إليه تقريباً؛ رافقنا رجالات النظام والعديد من الجنود والمخبرين الذين ارتدوا لباساً مدنياً لكنهم كانوا تابعين لجهاز المخابرات السوري القوي، وقدموا أنفسهم لنا كصحفيين في معظم الأحيان، وأخذوا يقفون بجانبنا في كل حوار نجريه مع أي سوري تقريباً، فإذا كان من الصعب علينا أن نتحدث إلى الناس، بات الأمر بالنسبة لمن نتحدث إليهم مرعباً.

 وفي أحسن الأحوال كنا نصل لنظرة محدودة وقاصرة وموالية للأسد عن سوريا: إذ لم ينحي أحد باللائمة على حكومة الأسد بالنسبة للكارثة التي ابتلعت سوريا، بل كان الانهيار الاقتصادي دوماً بسبب العقوبات الأمريكية، لا بسبب الحرب أو الفساد.

"لدينا جميعاً القصص الحزينة ذاتها"

حرص المرافقون على أن يظهروا لنا بأن الحياة تعود لسابق عهدها، وكان الأمر بغاية البساطة والسلاسة في دمشق التي لم تتعرض لدمار مادي كبير.

ولكن خلال جولة بالسيارة استغرقت دقيقتين من دمشق إلى دوما، تغير المشهد خارج نافذة سيارتنا بشكل فاقع من مدينة مفعمة بالحركة إلى ساحة لركام خامل رمادي اللون، وقد استمر هذا المشهد يرفقنا لأميال وأميال، حيث طالعنا رماد الحرب، والأبنية السكنية التي تشبه المرآب المفتوح، وعتبات البيوت التي تنفث غباراً رمادياً، والمآذن التي خرجت من بين الخرائب كشموع ذابت حتى نصفها وسط كعكة عيد الميلاد.

كان للدمار يشبه القتامة التي تعلو كل ذلك، إذ عمدت الطائرات الحربية والمدفعية إلى مسح كل شيء فلم تبق ولم تذر سوى بضع بصمات لوجود البشر، مما سهل على الآخرين نسيان ما كانت عليه تلك المواقع قبل أن تتحول إلى ركام، والتي كانت بيوتاً في سالف الزمان.

وفي دوما يشهد سوق المدينة توافداً بطيئاً ومضطرداً للزبائن الباحثين عن الفاكهة والأواني المنزلية الرخيصة. ولكن بعد مرور أكثر من سنة على اقتحام النظام لمعقل الثوار هناك بعد حصار دفع الناس لتناول الحشائش والأعشاب، ظلت نسبة كبيرة من المدينة مهجورة.

بوسعك أن تحدد المناطق التي بدأ الناس بالعودة إليها، وخاصة بعد ظهور تلك المخيمات التي انتشرت وسط تلال من الأنقاض والتي قامت بفضل قطع القماش القذرة التي حلت محل جدران لمنازل لم تعد ملك من سكنوها فيما مضى.

وفي بناء واحد، بدت لنا الثريات المسودة من خلال فتحات كبيرة ضمن بناء واحد لتشهد بصمت على انهيار الطبقة الوسطى في دوما. ثم قادتنا طفلة من بين الأطفال الذين كانوا يلعبون في الخارج إلى الطابق العلوي لنلتقي بجدها علي حمود طعمة وزوجته أم فارس، حيث توجس معظم من قابلناهم خيفة منا ورفضوا الإدلاء بأسمائهم الكاملة أمامنا.

عاد هذا الرجل وزوجته العجوزان إلى شقتهما في شهر أيار/مايو، ليجداها قد نهبت واحترقت، فكانت قطعة الأثاث الوحيدة التي تمكنا من الحفاظ عليها هي عبارة عن سجادة بلون خمري وأزرق أخذتها أم فارس معها عند هروبهما إلى القبو في الطرف الآخر من المدينة وذلك خلال الأيام الأولى للحرب. عاش هذان الزوجان في قبو تحت الأرض طيلة سبع سنوات، وقد مرت عليهما أيام لم يتذوقا فيها طعاماً أو يتجرعا فيها ماءاً. غير أن الزوجة قامت ببسط تلك السجادة طيلة تلك الفترة بانتظار اليوم الذي سيعودان فيه إلى منزلهما.

ولدى عودتهما، توفي 20 فرد من عائلتهما، وهكذا أخذت أم فارس ترعى مع زوجها 11 حفيداً يتيماً ضمن بناء هجره معظم ساكنيه.

أما بالنسبة للأصدقاء والجيران القلائل الذين ظلوا على قيد الحياة، فتعلق أم فارس على ذلك بالقول: "إننا نتجنب رؤية بعضنا، لأن لدينا جميعاً القصص الحزينة ذاتها".

جلس حفيدها خالد البالغ من العمر تسع سنوات وأخذ يمسح عينيه الدامعتين تارة، ثم يدفن وجهه في الوسادة تارة أخرى. لم يكن يبك والده الذي مات حسبما أخبرتنا أم فارس، إذ كان خالد يعمل كأجير حداد، ويكسب أجراً يعادل قوت يومه، بيد أن الشرر والمواد الكيماوية المتطايرة سبب تهيجاً وحساسية لعينيه.

لكن لا يمكن لأحد أن يتحمل نفقات الدواء والعلاج، وبدون عمله لا يمكن لخالد أن يحصل حتى على الطعام.

غير أن السيد طعمة نهض من مكانه ثم عاد وبيده صحن زجاجي فيه حلويات محشوة بالتمر والجوز، كل السوريين الذين التقيناهم قدموا لنا شيئاً على سبيل الضيافة، مهما بلغ مستوى فقرهم وفاقتهم. وهنا في غرفة الجلوس بدار آل طعمة كان من غير اللائق رفض تلك الضيافة.

ولقد أخبرتني المصورة السيدة كوهوت فيما بعد بأنها رأته وهو يحفر وسط أكوام من الأشياء في الخزانة ويخرج شيئاً من قاعها، ألا وهو الحلوى من العلبة الأخيرة التي رصت فيها تلك الأسرة هذه الحلويات بعناية.

ودعنا تلك العائلة على أعتاب الشارع الذي سوي بالأرض، ورأينا السيد طعمة وهو ينظر حوله ليطالع ما كان بيته يوماً ما وما بقي منه وهو يقول: "هذه أفضل منطقة في دوما بأسرها".

قتلى الأسد

زاد عدد مرافقينا التابعين لحكومة النظام عندما توجهنا بسيارتنا نحو مدينة اللاذقية ضمن المنطقة الساحلية، التي تعج بأبناء الطائفة العلوية، طائفة الأسد نفسه، وهي أقلية دينية كانت مهمشة في السابق وتحول أبناؤها لخزان للجيش وأجهزة الأمن. كانت تلك المدينة معقلاً للرئيس.

وفي قرية بيت ياشوت الجبلية، تطالعنا صور لشبان قتلوا في المعارك فداء للسيد "الرئيس"، وهم القتلى، الذين أطلوا علينا وأخذوا يراقبوننا من صورهم المعلقة على أعمدة الهاتف.

ثم قادتنا ثلة مؤلفة من قائد عسكري، ومسؤول حكومي في القرية، ومسؤولين مختصين بشؤون المحاربين من بيت لبيت.

سألت أحد آباء الجنود الذين ماتوا، وهو ياسين حسان، عن تلك التضحية التي قدمها، وهل يستحق الأمر كل هذه التضحية، فرد وعيناه معلقتان على القائد العسكري الذي أخذ يهز برأسه موافقاً: "كل شيء فداء لسوريا، أتمنى لو نضحي جميعاً بأنفسنا فداء للوطن".

أما الأم زكية أحمد حسان فقد أتت بالكرسي البلاستيكي الذي اعتادت الجلوس عليه بالقرب من قبر ابنها حيث تحتسي القهوة وتغني له، ثم قالت لي: "لقد شرفنا باستشهاده إذ كان يدافع عن الوطن".

هذا ويفترض الكثير من غير العلويين أن أبناء الطائفة العلوية حصلوا على مكافآت مجزية مقابل ولائهم، غير أن هذه العائلات العلوية كانت بالكاد تتدبر أمورها، إذ أخبرونا بأنهم غير قادرين على شراء الحليب أو حليب الأطفال، كما حدثونا عن ارتفاع أسعار البطاطا والزيت والسكر، ولم يعد أحد منهم يرتاد دكان اللحام.

بيد أن السيدة زكية حسان أخذت تمرر يدها فوق الخضراوات التي زرعتها بالقرب من قبر ابنها وهي تقول: "حتى لو عاقبنا الأمريكان، بوسعنا أن نأكل الخيار والخبز على الأقل!"

فيما أظهر المحافظ إبراهيم خضر السالم حماسته في التأكيد على قيام النظام بتخصيص المزيد من الموارد لعائلات المقاتلين، إذ من المفترض أن يكون لهؤلاء الأولوية في الوظائف الحكومية، إلى جانب امتيازات صغيرة أخرى مثل الإعفاء من الضرائب على السيارات ورسوم الجامعات.

وشدد المحافظ على ذلك بالقول: "لقد أعطى السيد الرئيس شخصياً أولوية لهذه الأمور، إذ يتابع سيادته وحكومته بشكل يومي وضع أسر وعائلات الشهداء".

وهكذا قام ثلاثة مصورين تابعين للنظام بتصوير تلك المقابلة إلى أن استنفذ المحافظ كل ما في جعبته.

في حلب: نهار صاخب وليل محروم من النور

وعندما توجهنا بسيارتنا شمالاً إلى حلب، طالعتنا المركبات المحروقة والمقلوبة رأساً على عقب على جانب الطريق، بالإضافة إلى الدخان الرمادي المائل للبني الذي أخذ يتصاعد على بعد بسبب النيران التي التهمت هكتارات من المحاصيل خلال الفترة الأخيرة. يبدو أن لا أحد يعرف من الجهة المسؤولة عن ذلك، بل كل ما يعرفونه هو أن قرصة الجوع التي تعاني منها سوريا لابد وأن تزيد وتصبح أسوأ من ذي قبل.

كانت حلب أكبر منافس لدمشق قبل الحرب، كونها أكبر مدينة في البلاد والمحرك التجاري لها. وبحسب ما ذكرته مرافقتنا رنا، كان أهلها لا يعرفون طعم النوم، أو لم يعتادوا عليه أصلاً، إلا أن الحصار الذي فرضه النظام خرب سوقها الأثري الذي يعود للقرن الرابع عشر الميلادي، وغرقت معظم أنحاء المدينة في الظلام الدامس.

وبعد مرور عامين ونصف العام على ما سماه كل من التقيناهم بتحرير القسم الشرقي من مدينة حلب من أيدي الثوار، ماتزال الكهرباء تأتي عبر مولدات، وبدون أي أموال خصصتها حكومة الأسد لإعادة الإعمار، تعتمد عملية إعادة بناء ما تهدم على مدى ثراء الأفراد وجيوبهم العامرة بالمال. إذ ثمة أشخاص لا يستطيعون تحمل تكلفة تركيب الأبواب والنوافذ، وهنالك أشخاص يعيشون بشح كبير في الكهرباء، ولهذا يمضون ليلهم خارج بيوتهم إلى أن يحين وقت النوم.

وحدها المشافي الخاصة عادت إلى عملها مرة أخرى، ولعل ذلك يعود لقيام النظام بقصف المشافي على نحو متكرر، ولهذا بقيت المشافي العامة مجرد خرائب وأطلال.

ولكن في النهار، تصبح تلك المنطقة مزدحمة بباعة البطيخ المتجولين والمارة والسيارات. ولقد حدثتنا امرأة قابلناها في صالون حلاقة بأنها قصة الشعر الاحترافية الأولى لها منذ بداية الحرب، كما عادت المدارس تفتح أبوابها من جديد أمام الطلاب.

وفي لوحة إعلانات قرأنا العبارة: "عاد الأمان لسوريا"

بيد أن هذا الأمان كان صعب المنال بالنسبة لأم أحمد البالغة من العمر 28 عاماً والتي كانت تجلس على كرسي لها مع شقيقتها ساعة الغسق تحيط بهما الأبنية المدمرة.

أخذت كلتاهما تحكي لنا كيف فقدت زوجها، اللذين اعتقلتهما القوات الموالية للأسد عندما دخلت شرق حلب عام 2015.

كان مرافقونا يقتربون منا أكثر فأكثر، غير أنهم انفضوا عنا هذه المرة. فرنا التي لم تذكر اسم عائلتها، قالت لأم أحمد بأن الوضع أكثر تعقيداً مما ذكرته لنا، وبأنه لا يبنغي لها أن تحكي شيئاً كهذا أمام الصحفيين.

وهنا هتفت أم أحمد: "أنكذب؟ هذا ما حدث"، عندها أخذتها رنا إلى المطبخ حيث سمعنا صوت كل منهما يعلو على الآخر، ثم أصابها الوجوم بعد عودتها.

غير أني رفعت شكوى في فترة لاحقة لوزير الإعلام حول كثرة المرافقين من حولنا، فكان رده أن علي أن أتفهمهم، فهم ليسوا بأمريكيين، ولهذا يقومون بعملهم بطريقة مختلفة، والجميع هنا يفترض أننا جواسيس.

وعندما حان وقت مغادرة سوريا، اصطحبنا مرافقون من المخابرات العسكرية إلى الحدود اللبنانية، وقمنا بقيادة السيارة على جانب الطريق وببطء أربع مرات على الطريق السريع بسبب الأعطال التي داهمت سيارتهم، إذ يبدو أن تكلفة صيانة السيارات لم تكن ضمن الميزانية، ولهذا كلما حاولوا أن يتبعونا على الطريق؛ كان صندوق سيارتهم من نوع سيدان التي تملؤها الخدوش ينفتح فجأة بطريقة مضحكة وفي التوقيت الخاطئ.

كانت تلك المرة الأولى التي يخرج فيها أحدهم عن النص طيلة أسبوع كامل.

لاتزال الأفضل حتى بعد ثماني سنوات من الحرب

كيف يبدو الانتصار؟ لقد قتل نصف مليون شخص على الأقل، واقتلع أكثر من 11 مليون من بيوتهم ودورهم. وتحولت المدن إلى ركام، وحلت الأشباح محل الجيران. أصبحت المراكز التجارية المخصصة للتسوق ترتادها فئة محدودة من الناس، فيما أخذ البقية يزرعون الخيار في حدائق بيوتهم.

كان معظم من التقيناهم يراقبون حديثهم، ويرفضون الحديث عن أي شيء يخص الماضي أو المستقبل، وقد طأطأ كل منهم برأسه نحو الأسفل وهو يمارس مهمة البقاء على قيد الحياة اليومية. لكن لابد وأن يظهر شيء ما في كثير من الأحيان ليذكرنا بأن سوريا أكبر من الحرب الدائرة فيها، مهما طالت وامتدت ومهما بلغ حجم الرعب والهول الذي سببته.

عندما حل وقت العشاء خلال ليلتنا الأولى في حلب، أخبرنا السائق أبو عبدو بأنه يعرف بعض الأماكن التي يمكننا أن نتناول طعامنا فيها وهي قريبة من الفندق الذي نزلنا فيه، ويعود ذلك لخبرته في نقل السياح في أرجاء المدينة والتي تعود للأيام الخوالي قبل الحرب.

كان أول مطعم تذكره ذلك الرجل قد اختفى عن الوجود، وكذلك المطعم الثاني.

وفي منتصف الطريق باتجاه المبنى التالي، وقف رجل على عتبة باب غمره النور دون غيره بالقرب من لافتة كتب عليها: "مطعم أبو نورس"، فهرع أبو عبدو نحو ذلك الرجل وهتف: "سيد محمود، هل تتذكرني؟ كنت آتي إلى هنا دوماً. كان لديكم أطيب الطعام، بل كان طعامكم الأطيب والأفضل".

بيد أن مالك المطعم وهو عبد الغني محمود لم يتعرف عليه في بداية الأمر، ولكن أشرق وجهه فجأة وتذكره وهو يقول: "آه، أجل.. أجل"

كان المطعم خاوياً خلا من طباخ محدودب الظهر كان يجلس في إحدى زواياه.

كان غطاء طاولتنا مغطى بالبقع، وكذلك جداريات حلب القديمة المعلقة على الجدران. أخذت بضع ذبابات تحوم حول مكان السفرة. إلا أن الشيء الوحيد الذي بدا في ريعانه وأيام عزه دون أن تمر عليه عقود ودهور كان تلك الطاولة التي تكومت فوقها حبات البطاطا والخيار والفجل والنعنع الطازج.

وحينما طلب أبو عبدو مشروباً مع ثلج، اعتذر السيد محمود بالقول: إن المولد المخصص للبراد معطل لدينا، لذا لا يوجد لدينا ثلج. عندها نظرت إلى المترجم الفوري وسألته: هل كنا سنتناول اللحوم هنا حقاً؟

أتت الخضار أولاً، وبعدها الحمص والمتبل وغموس الباذنجان المدخن المشوي، بعد ذلك وصلت عدة أطباق من الكباب من لحم الدجاج والضأن المشوي المترع بالحار والتوابل.

شرعت بالأكل ونسيت على الفور أمر التبريد. كنت قد تناولت تلك الأطباق مرات عديدة من قبل في لبنان والآن في سوريا، حيث كانت الأطيب والأفضل.

هتف أبو عبدو: "مازالت على حالها، نفسها حسبما أتذكر"

عندما غادرنا كان الشارع خاوياً ومظلماً، بالرغم من أن الوقت مازال مبكراً، بيد أنه مرت سنوات طويلة وعديدة نسي فيها الحلبيون سهر الليالي.

المصدر: نيويورك تايمز